قاسم محمد داود
حـرب بدأت بكــذبة وآلــت إلى فــوضى
العراق البوابة الشرقية للعرب، كان هدفاً لعمليات غزو وتقسيم على مدار قرون طويلة في الماضي والحاضر، والتي كان آخرها في التاسع من أبريل / نيسان من العام 2003 على يد قوات الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس الأمريكي جورج بوش الأبن. قدمت أدارة بوش قبل وأثناء وبعد سقوط النظام في بغداد مجموعة من التبريرات والذرائع لأقناع الرأي العام الأمريكي والعالمي بشرعية الحرب التي قوبلت بتظاهرات في معظم الدول العربية وثلاثة عشر دولة أجنبية. فما الذي أنتهى اليه الحال بعد مرور ثمانية عشر عاماً؟ وماذا تحقق من أهداف هذا الغزو؟ الذي يمكن تلخيص مبرراته بالتالي:
1- استمرار حكومة صدام حسين في عدم تطبيقها لقرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالسماح للجان التفتيش عن الأسلحة بمزاولة اعمالها في العراق. لكن الواقع غير ذلك حيث أن لجنة الأمم المتحدة الخاصة (أونسكوم) وهي لجنة أنشئت لنزع أسلحة الدمار الشامل العراقية المزعومة بقرار من مجلس الأمن أوقف أطلاق النار في الخليج اعقاب حرب الخليج الثانية في 3 نيسان 1991، قامت هذه اللجنة حتى كانون الأول عام 1998 بأكثر من 250 مهمة تفتيش ووفقاً لتعبير الأمم المتحدة "فأن التفتيش كان نشيطاً وصارماً وفضولياً". ظلت هذه اللجنة تعمل حتى نهاية عام 1998 وانسحبت بعدها بقرار من رئيسها في ذلك الوقت. أمتثل العراق لقرارات مجلس الأمن وخصوصاً القرار 715 لسنة 1991 المتعلق باستحداث نظام لمراقبة المؤسسات العراقية والقرار 1051 لسنة 1991 لاستحداث آلية لمراقبة الاستيراد. وقد التبست العلاقات بين الأجهزة العراقية وفرق الهيئتين بأزمات متواصلة بسبب النهج الاستفزازي الذي أتبعه المفتشون الأمريكيون والبريطانيون على وجه الخصوص وتعمدهم اختلاق الأزمات، وقيامهم بأعمال تجسسيه على أمن العراق وأمن القيادة واتصالاتها، وبسبب تغيير فرق التفتيش قواعد العمل باستمرار، وذلك بإخضاع المزيد من المرافق العراقية للتفتيش والرقابة بدءاً من 1996 إلى نهاية 1998 والإصرار على تفتيش المواقع العسكرية والأمنية وقصور الضيافة والمكاتب الرئاسية. وقد سعى رئيس اللجنة الخاصة (بتلر) لتأزيم العلاقة بالعراق وتوفير الأعذار للولايات المتحدة وبريطانيا لشن اعتداءات عسكرية واسعة ضده. ومن أمثلة تصرفاته الاستفزازية الخارجة عن وظيفته الدولية، تصريحه لجريدة نيويورك تايمز في 27 /1 / 1998 بأن العراق يمتلك أسلحة جرثومية بكميات تكفي لأباده تل أبيب وأنه يؤيد توسيع مناطق حظر الطيران. ومن الجدير بالذكر أن أدارة بوش وضعت موعداً نهائياً لبدء العمليات العسكرية بينما كانت فرق التفتيش تقوم بأعمالها في العراق.
2- استمرار حكومة صدام حسين بتصنيع وامتلاك "أسلحة دمار شامل" وعدم تعاون القيادة العراقية في تطبيق 19 قراراً للأمم المتحدة بشأن إعطاء بيانات كاملة عن ترسانتها من "أسلحة الدمار الشامل". وهنا وكما صار معروفاً، أنه لم يتم حتى هذا اليوم العثور على أية "أسلحة دمار شامل" في العراق، بل أن نتائج مفتشي الأسلحة أكدت عدم امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل نهائياً. بالإضافة إلى ذلك فأن العراق قدم في نهاية عام 2002 تقريراً ضخماً إلى مجلس الأمن الدولي، يتضمن برامجه العسكرية والمدنية التي يمكن أن تكون لها تطبيقات عسكرية، وذلك قبل نحو 4 أشهر فقط من غزو العراق. ويجيب التقرير العراقي عن أسئلة بقيت عالقة بعد عمليات التفتيش، التي شهدها العراق بين عامي 1991 و1998، حيث قدم العراق أدلة تؤكد تخلصه من جميع القذائف والقنابل الكيميائية والجرثومية. التقرير تضمن نحو 12 ألف صفحة، وكتب قسمه الأساسي باللغتين العربية والإنجليزية، قبل أن تتم ترجمته إلى الفرنسية والروسية والصينية، وهي لغات الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي.
3- نشر الأفكار الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط ولو بالقوة العسكرية وتغيير أنظمة الحكم الرسمية للدول. وكما ثبت كذب المبررات السابقة فأن هذا المبرر أو الهدف الأمريكي لاحتلال العراق تحول إلى فشل كبير بثمنه وما تبعه من تداعيات بعد أن شكلت التجربة العراقية مع الديمقراطية واحدة من أبرز المشاريع الفاشلة التي خاضتها الولايات المتحدة مطلع القرن الواحد والعشرين. لقد تبنت إدارة الرئيس جورج بوش الأبن خطة للشرق الأوسط تتمثل بنشر الديمقراطية من البوابة العراقية من خلال الإطاحة بنظام الرئيس صدام حسين، وإحلال نموذج ديمقراطي تعددي. ونجحت في اسقاط النظام بسهولة عام 2003، وقد أخذت النشوة حينها الحلفاء حتى باتوا يعتقدون أن القرن الواحد والعشرين هو القرن الأمريكي بامتياز، فقد استطاع عساكر الولايات المتحدة وحلفاؤها أن يغزوا دولتين بشكل سريع وخاطف هما العراق وأفغانستان. ولكن مع مرور الوقت، ذهبت السكرة وأتت الفكرة، فما أن هدأ غبار الحرب، حتى لاح في الأفق الفشل الذريع الذي مني به المشروع الأمريكي الديمقراطي في العراق، وذلك عندما أيدت الولايات المتحدة وساهمت، بل ودعمت تشكيل نظام عراقي جديد، ولكن ليس على مبدأ التعددية بل على مبدأ المحاصصة الطائفية. ربما يفترض البعض أن العراق، وبالرغم من كل المشاكل التي تعترض تجربته الديمقراطية، يشكل استثناء عربياً، فالبلد يشهد انتخابات بشكل منظم وعلى مدار 18 عاماً منذ سقوط نظام صدام حسين تعاقبت العديد من الحكومات على البلاد وكلها جاءت بعد انتخابات عامة، ولكن هذه الصورة التي تبدو وردية يجب أن لا تعمينا عن حقيقة أن هذه الانتخابات لا تجري ضمن إطار وطني جامع ولكن ضمن إطار محاصصة طائفي حيث يتوجب على رئيس الحكومة أن يكون شيعياً بينما رئيس الدولة كردي في حين يكون رئيس مجلس النواب سنياً، وهكذا دواليك في سلم المناصب الأدنى فالأدنى. فكل مسؤول هناك له نائبان من غير طائفة الأمر الذي أدى إلى شلل عمل الحكومة وبالتالي غرق البلد في أزمات لا حصر لها.
4 - الرغبة في تحرير الشعب العراقي من نظام صدام حسين بسبب انتهاكه لحقوق الأنسان على نطاق واسع وقمع المواطنين مما يجعله تحت طائلة العقاب. لا أحد يستطيع أن ينكر أن نظام صدام حسين أنتهك حقوق الأنسان وقمع المواطنين. ولكن بعد ثمانية عشر عاماً من بدء غزو العراق بقيادة الولايات المتحدة، ما زال انتقال الحكم في العراق إلى حكم ديمقراطي مستديم وفعال يستند إلى سيادة القانون، بعيداً كل البعد عن التحقق. لقد أشارت تقارير منظمة العفو الدولية إلى إن العراق لايزال " عالقاً في حلقة رهيبة من انتهاكات حقوق الأنسان، ومنها الهجمات ضد المدنيين وتعذيب المعتقلين والمحاكمات الجائرة." فمنذ 2003 شهد العراق انتهاكات يصفها المرصد العراقي لحقوق الأنسان بـ "الفظيعة" وأن " الجميع اشترك بانتهاك حقوق الأنسان، الجماعات الإرهابية، والجماعات المسلحة المؤيدة والتابعة للأحزاب، وكذلك السلطة. انتهاكات حقوق الإنسان عامل مشترك بين هؤلاء". وفقاً لإحصائية صادرة عن الأمم المتحدة في تموز 2016، فأن هناك نحو170 ألف عراقي قُتلوا بسبب أعمال العنف من 2003 حتى ذلك التاريخ، وهذه هي الأرقام المسجلة رسمياً في وزارة الصحة، لكن مصادر رسمية تحدثت عن أرقام مضاعفة. وحسب مصادر حكومية أن "أعمال العنف في البلاد حصدت ما لا يقل عن 260 ألف مدني منذ 2003 وحتى اليوم، هذا غير الإخفاء القسري والتغييب." وأنه "منذ عام 2014 وحتى اليوم هناك 6500 بلاغ رسمي عن حالات إخفاء قسري في المناطق التي خضعت لتنظيم الدولة الإسلامية، وقد يكون هذا الرقم هو20% من الرقم الحقيقي، لكن ذوي المخفيين يخشون الإبلاغ لأسباب أمنية." وحدها الاحتجاجات التي انطلقت في تشرين الأول 2019، وحتى اليوم خلفت ما لا يقل عن 560 قتيلاً مدنياً، وفقاً لهشام داود مستشار رئيس الوزراء. ومن جانبها تعتبر المنظمات الدولية، خاصة (هيومن رايتس ووتش) و (العفو الدولية)، العراق واحداً من البلدان التي تشهد انتهاكات "مروعة" لحقوق الأنسان، وقد تصل في بعض الأحيان إلى "جرائم حرب، جرائم إبادة جماعية" فبغداد "مدينة السلام" لم تعد مثلما كانت بسبب أعمال العنف التي شهدتها في العقدين الأخيرين.
5 - وجود علاقة سرية بين الرئيس العراقي صدام حسين والقاعدة بين 1992 ــ2003. ومن أجل توضيح هذه العلاقة المزعومة سوف نعود بالزمن إلى قبل وقوع أحداث 11 أيلول بثمانية أعوام ــ بعد أول تفجير وقع في مركز التجارة العالمي في نيويورك يوم 26 شباط 1993 نتيجة سيارة مفخخة في مرآب تحت مبنى المركز. وكان من فعل عدد من أعضاء التنظيمات الإسلامية المتطرفة ــ اقتنعت باحثة أمريكية " بأن صدام حسين والحكومة العراقية هم المتحكمون في خيوط << القاعدة >>. عملت لوري ميلروا في التدريس في جامعة هارفارد وكلية الحرب البحرية الأمريكية قبل أن تنضم إلى حملة بيل كلنتون في الانتخابات الرئاسية عام 1992 كمستشارة لشؤون العراق. في مقال صحافي طويل أصبح أساساً لكتابها الصادر في عام 2000 بعنوان:(دراسة الانتقام: حرب صدام غير المنتهية ضد أمريكا). دفعت ميلروا بأن صدام حسين يحاول استخدام القاعدة لشن هجمات على أهداف أمريكية للانتقام من القيادة الأمريكية في حرب الخليج عام 1990." وأن صدام أمر بتفجير مركز التجارة العالمي والمبنى الفيدرالي بمدينة أوكلاهوما عام 1995 على يد العنصري تيموثي ماكفي. وبعد احداث 11 أيلول عام 2001، دافعت بقوة عن وجهة النظر التي تفيد بأن صدام حسين وراء تلك الهجمات أيضاً. إلا أن كتابات ميلروا رُفضت من قبل مجموعة من المتخصصين الأمريكيين في شؤون الشرق الأوسط من مختلف الأطياف السياسية واعتُبرت ميلروا مصابة بهوس أحادي يتعلق بالدكتاتور العراقي صدام حسين نتيجة غزوه للكويت، تغلب أخيراً على قدرتها التمييز وأنها غريبة الأطوار". ولكن كانت آراء ميلروا بطبيعة الحال محل اهتمام عناصر في أدارة جورج بوش الأبن، بعد أحداث 11 أيلول، في حين كانت الإطاحة بصدام حسين عسكرياً قيد دراسة جادة لأسباب أخرى. كشف ديفد شينكر(حسب مقال لـجوزيف براودي نشر في جريدة الشرق الأوسط في 2 نيسان 2016)، الذي عمل في مكتب وزير الدفاع مدير لمنطقة الشام في إدارة بوش الأبن." أن رؤية استباقية لـ (عراق جديد) تبلورت في بعض دوائر الإدارة، وكانت هناك مدرسة فكرية ترجع إلى أشخاص متعاطفين مع (حجة الديمقراطية) بأن العراق كان في فترة ما من أغنى وأقوى وأكثر دول المنطقة نفوذاً، ولكنه تحت حكم صدام أصبح أكثر دولة محاربة تعادي الولايات المتحدة وتدعم الإرهاب. إذا كنت تستطيع تحقيق تغيير كبير في العراق ــ من ديكتاتورية إلى ديمقراطية ــ فسوف يكون لذلك تأثير هائل في المنطقة. وبطريقة أخرى، يمكننا أن نقضي عقوداً في مشروعات الترويج للديمقراطية تدريجياً ولن نصل إلى شيء، وفي الوقت ذاته فقدنا أكثر من ثلاثة آلاف شخص في يوم واحد في أحداث سبتمبر". أوضح شينكر أنه من وجهة نظرهم، إذا جاء بعد نظام صدام حكومة عراقية موالية للولايات المتحدة " سوف يغير (العراق المتحالف مع أمريكا) من البنية الاستراتيجية الكاملة للمنطقة." وبالطبع تسببت تلك العقلية في ظهور نزعة للبحث عن دليل على دعم صدام لجميع صور الإرهاب الدولي. " لذلك وبعد هجمات 2001 حصلت لوري ميلروا على نحو 75 ألف دولار من مكتب التقييم، وهو مركز بحثي داخلي في وزارة الدفاع الأميركية، لإنتاج دراسة مكونة من 300 صفحة من أجل الاستخدام الداخلي، تحت عنوان (تاريخ القاعدة). خلطت الدراسة بدهاء بين الحقائق والاستنتاجات والتكهنات للإشارة إلى أن صدام والدائرة المقربة منه كانوا مسؤولين عن أحداث 11 سبتمبر". ومع ذلك عندما كانت إدارة بوش تستعد لتقديم حجتها للحرب أمام الشعب الأمريكي، لم تزعم بضلوع العراق في أحداث 11 أيلول. علق دوف زاكيم المراقب السابق في البنتاغون في إدارة بوش الأبن في تصريحات لـ(الشرق الأوسط): "لم تثر تلك القضية لأنه لم يتم إثباتها مطلقاً. لو كان أي شخص قد حاول الربط بين العراق و11 سبتمبر، لا أعتقد أننا سنحظى بأي تأييد". وبدلاً من ذلك ركزت الإدارة على تقديم وجهة النظر التي اشتركت فيها في ذلك الوقت أجهزة استخبارية أوربية كبرى، والتي تفيد بأن صدام حسين يمتلك أسلحة دمار شامل كما أسلفنا. لقد استخدمت حجة نشر الديمقراطية وقيم حقوق الأنسان، من اجل إطباق الولايات المتحدة على المنطقة وتأمين سيطرتها على مواردها وتأمين أنظمة تناسب مصالحها وقيمها وهكذا تستكمل دورة ترتيب أوضاع المنطقة بكاملها. أن غزو العراق واحتلاله لم يسقط نظام صدام حسين فحسب بل أسقط الدولة برمتها وكرس للفساد والطائفية، وأدى إلى خلق شروط مساعدة للإرهاب والعنف ولم يفض إلى خلق نظام ديمقراطي كما كانت تدعي الإدارة الأمريكية، وقد يعزى ذلك أساساً إلى كونها لم تقدر أو "أنها قدرت"، بشكل حقيقي تركيبة المجتمع العراقي. فعلى خلاف إعادة بناء ألمانيا واليابان بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث كان المناخ المجتمعي والاقتصادي مهيئ لاستقبال الوصفات الأمريكية فإن الأمر كان عكس ذلك في العراق الذي يعاني اليوم ضعفاً اقتصادياً وصناعياً، ولا يمكنه تجديد وضعه السياسي بسبب المحاصصة الطائفية والترتيبات الدستورية التي وضعها الأمريكيون خصوصاً ما اقتبس من النموذج اللبناني وطابعه المؤسسي الطائفي، ما أدى إلى تزايد الانقسامات وغموض قانوني واقتصادي سمح للقيادات الفاسدة والجماعات المسلحة تفرض سيطرتها. والأقليات وخصوصاً الطائفة المسيحية، فرت من البلاد وأن " الانتخابات التي كان يفترض أن تشكل تحولاً صارت استفتاء طائفي". وهو ما كان متوقعاً لأن "الدودة كانت تأكل الثمرة من الداخل" منذ دخول القوات الأمريكية في 20 آذار 2003.
4597 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع