د. فاضل البدراني*
أمانة العاصمة وهوية بغداد الحضارية
التحضر ليس كلاما مكتوبا ولا تشدقا بألفاظ أو مصطلحات مزوقة، ولا هو لون صارخ لواجهة بناية، أو ملبس براق بثمن غال، انما هو خدمة إنسانية كونه أسلوب، ونمط حياة من نوع آخر، يتجسد بفعل يرتقي به فاعله، الى الحد الذي يجعله يتسم بالدقة والبساطة والصدق والجمال والذوق، وهو أيضا ممارسة واقعية يتحدث بها الآخرون، وليس صاحبها، ذلك ينسحب على صعيد الفرد والأسرة والمجتمع، وبغض النظر عن تداخل الآراء بعضها بعض بشأن من هو مصدر التحضر الذي يمثل الوعي بالأشياء، او الوعي بالضرورة، إن كان الفرد أم الأسرة أم المؤسسات المعنية بالثقافة والتربية والإعلام والتعليم، لذا ينبغي أن نستوضح حقيقة التحضر، والدلائل التي تشير له.
قد أختلف مع الرأي القائل بأن التحضر ذلك الذي يبدأ بانتقال الانسان من الريف الى المدنية، لتغيير نمط حياته، لأن الأولى بالإنسان والأسرة والمجتمع، أن يبدلوا نمط حياتهم في داخل الريف، عبر المساهمة بتحسين الطبيعة، وتغيير واقعها بشكل أجمل وأرقى من حيث الخدمات وواقع البيئة، مع الاندماج بالتعليم والتربية والثقافة والإرتقاء بالسلوك سبيلا للوعي، كون التحضر عملية تطور نوعي مرحلي في نظرة الناس للحياة، وأنماط سلوكهم، والأعمال التي يمارسونها، ولكن عندما يكون الحديث عن المدن والعواصم منها على وجه التحديد، باعتبارها خطوة انطلاقة أولى للدولة، أو " مراكز التحضر" في البدء بمشروع التحضر وصناعة الوعي المجتمعي، ذلك يعيدنا الى الاستهلال الذي بدأنا به، من هو مصدر التحضر، وكيف يتعايش، ويرتقي بالتطور ليعزز مفهوم التحضر؟ وإذا ما أستهلمنا معنى التحضر، فانه خطوة ترسمها الدولة بمؤسساتها المعنية كمنظومة متشابكة ببعضها بعض، يحميها القانون، لتنظيم شؤون المجتمع عبر الآليات الدستورية الراعية للحريات وتحقيق العدالة الاجتماعية، وما بعد ذلك تتحقق كل مواصفات المجتمع الراقي.
أن من الدوافع التي جعلتني أتناول هذا الموضوع الاجتماعي الخدمي الذوقي، ذلك اللقاء مع أمين العاصمة السيد علاء معن في إحدى الفضائيات العراقية عندما كان يتحدث عن خطة أمانة بغداد في الحفاظ على الطراز المعماري، والوعي بالأمور عند تنفيذ المشروعات الخدمية التي يتعين على الدولة القيام بها، وخلق رفاهية للمواطن، بشرط أن تكون على طريقة فعل مدروس ومخطط له من النواحي الاجتماعية والجمالية والنفسية والاقتصادية، وكان من بين الموضوعات التي جرى الحديث بصددها، كيفية العودة الى هوية بغداد الحضارية، من خلال الحفاظ على النسق الواحد في فن العمارة والطراز المعماري، واللمسات الذوقية والنسق الواحد تجنبا للفوضى في الالوان الصارخة والمتعددة والديكور بالممتلكات الأخرى من أجهزة تبريد وانارة خارجية لواجهات المحال التجارية في الأماكن التي تتميز بعمق تاريخي وغنى تراثي عريق. والنموذج الذي جرى النقاش بشأنه، ما فعلته أمانة بغداد مؤخرا في صناعة طراز واحد مميز وذا لمسة جمالية وذوقية تليق ببغداد العاصمة برغم الكبوة التي تعانيها بالوقت الحاضر، شملت التجربة المحال التجارية وأسواق منطقة المتنبي، صورة من صور ذلك الطراز الذي أصبح واقعا جديدا يتسم بالفن والجمال والتحضر، وهذه التجربة تحتاج لتفعيلها لتشمل بقية المناطق المعلومة بقدمها وطرازها المعماري، سواء شارع الرشيد، والباب المعظم، مناطق المنصور والكرادة والأعظيمة والكاظمية، وبقية أخرى على شاكلة ذلك.
لماذا نتغنى بالطراز المعماري الجميل في العواصم الخارجية التي نسافر اليها على الرغم من بساطته، نتلمس فيه التحضر والذوق، بينما بغداد عاصمة عالمية كونها ساهمت منذ قرون عدة في تطور الفكر في الثقافة والفن والتعليم والاعلام، وقبل كل شيء ساهمت بصناعة التاريخ، حتى قيل إذا قصدت العلم فاذهب لبغداد. ودعوتنا لأمانة بغداد أن تركز على التجربة والعودة ببغداد الى ماضيها المشرق قبل قرون، على ان تتبنى جهات حكومية تفعيل النموذج هذا في المحافظات والمدن العراقية، ومعالجة الصورة العشوائية، بالعودة لصورة العراق الحضارية.
*كاتب وأكاديمي عراقي
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
1293 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع