عباس عبيد
أكاديمي وباحث من العراق
مجلس الإعمار بين علي علاوي وعبد الخالق حسين:عن إشكالية قراءة التاريخ مرة ثانية
يعزز حياد الباحث في الشأن التاريخي من لحمة الأمة، ويرسخ احترام معنى الدولة في أذهان الأجيال الجديدة، تلك التي ولِدت ونشأت في عهد تراجع الانتماء لهوية وطنية جامعة، بمقابل صعود الطوائف والعِرقيّات. إن قراءة التاريخ ما دامت تحت سقف الموضوعية، واحترام الآليات العلمية قادرة على استكشاف أعمق لا لطبقات المعنى الكامن خلف السرديات المتناقضة فحسب، بل لتعقيدات الحياة الراهنة، وتناقضاتها، فلا وجود للتاريخ أصلاً إلا في الحاضر.
هذه هي المرة الثانية التي أقرأ فيها شيئاً مما يكتبه الدكتور عبد الخالق حسين عن رئيس الوزراء العراقي الأسبق عبد الكريم قاسم، وعهده الجمهوري. وهو في المرتين يحيل على مصادر، لتأكيد رأي يؤمن به، أو لتفنيد رأي آخر يجده غير صائب. لكنه يتصرف بالكلام المنقول لتصبح له دلالة جديدة، أو يحذف جزءاً من حديث صاحب المصدر، فيقوِّله ما لم يقله، ويحجب جزءاً أساسياً لا غنى عنه من أفكاره المركزية.
كنت قد نشرت مقالاً قبل عامين بعنوان "ماذا أراد عبد الكريم قاسم من نوري السعيد؟ عن إشكالية قراءة التاريخ"، ناقشت فيه تعليقاً للدكتور عبد الخالق حسين، عقب فيه على حديث لأحد قرائه، على هامش مقال له بعنوان "في الذكرى الخامسة والستين لثورة 14 تموز العراقية"، نشره في موقع الحوار المتمدن بتاريخ 17/ 7/ 2023. كان في تعليقه بعض الأخطاء التاريخية، وترويج لرأي غريب، عن وجود رغبة لدى الزعيم قاسم للحفاظ على حياة نوري السعيد رئيس الوزراء الأكثر شهرة في العهد الملكي، ومعاملته باحترام، للإفادة من خبراته، وكيف "أرسل مرافقه وصفي طاهر لجلبه سالماً ومحترماً، ولكن لما وصل.... وجد الجماهير هناك تسحل بجثة السعيد". أحال الكاتب لتوثيق هذه الرواية على مذكرات إسماعيل العارف الوزير في عهد قاسم. وبرغم تأكدي من أن الأمر ليس أكثر من توهم محض، لكنني فضلت العودة لمذكرات العارف، ولم أجد فيهاً شيئاً مما نُسب إليه، بل شيئاً آخر مختلفاً تماماً!
وقبل يومين، وقفت على مقال آخر للدكتور عبد الخالق حسين، نُشر في موقع الحوار المتمدن بتاريخ 18/ 7/ 2025 عنوانه "لماذا ألغت قيادة ثورة 14 تموز مجلس الإعمار؟"، تناول فيه، مثلما قال، وسأنقل هنا نص كلامه: "مقابلة تلفزيونية مع الدكتور علي علاوي، وزير المالية الأسبق في حكومة السيد مصطفى الكاظمي ... وموقفه السلبي من ثورة 14 تموز، وخاصة عن قيام قيادة الثورة بحل مجلس الإعمار، ومنجزات الثورة الكثيرة في عمرها القصير... وجواباً على سؤال مقدم البرنامج ... حول أفضل مرحلة في تاريخ الدولة العراقية حصل فيها بناء المشاريع الاقتصادية والخدمية، ركز الضيف على السنوات الأخيرة من العهد الملكي، وأشاد بدور مجلس الإعمار، الذي تم حله في عهد ثورة 14 تموز 1958 دون أن يوضح مبررات هذا الحل. كذلك لتبخيس دور قائد المثورة (كذا) في إنجاز الكثير من المشاريع، قال إن أغلب المشاريع التي انجزها عبدالكريم قاسم، كانت مخططة من قبل مجلس الإعمار إبان العهد الملكي مثل مدينة الثورة (الصدر حالياً) وغيرها، وإن قاسم أخذ الفخر الـ(credit) له، أي نسب الفضل لنفسه في تنفيذ هذه المشاريع".
لكن من يشاهد فيديو المقابلة سيجد أن آراء الدكتور علي علاوي لم تُعرض بشكل كامل، وأنه كان بعيداً عن إصدار أحكام القيمة تجاه شخص، أو مرحلة، أو نظام. لقد قدم الدكتور علاوي عرضاً موضوعياً وافياً لأبرز المراحل التي مرَّ بها الاقتصاد العراقي المعاصر، منذ نشأة الدولة في العام 1921 حتى مرحلة ما بعد 2003. نعم، قد نختلف معه في هذه الجزئية أو تلك، غير أن قراءته كانت علمية، وجديرة بالاحترام.
من أجل إيضاح الحقيقة، ولأن الدكتور عبد الخالق حسين وزَّع مآخذه على أربع فقرات، فسأعتمد هذا التقسيم لأبين من آراء الدكتور علي علاوي، ما له صلة بتلك المآخذ، وذلك بنقل الفكرة التي يتبناها بتمامها، وإثبات زمن ورودها في فيديو المقابلة. وسأستخدم اللغة العربية الفصحى، لأن طبيعة اللقاء التلفزيوني فرضت على الضيف والمحاور اللجوء لبعض المفردات العامية أحياناً. وسأثبت فيديو المقابلة التلفزيونية في آخر المقال، ليكون الوصول إلى الحقيقة سهلاً لمن يريد.
أولاً – المرحلة الاقتصادية الأفضل في تاريخ العراق
لم يكن هناك سؤال مباشر عن "أفضل مرحلة في تاريخ الدولة العراقية حصل فيها بناء المشاريع الاقتصادية والخدمية"، أما الأسئلة ذات الصلة، مما وجهه المحاور في المقابلة التلفزيونية، فقد كان على الدكتور علي علاوي، وهو الخبير المتخصص بالاقتصاد أن يعيد صياغة السؤال الأول منها: (أفضل فترة مالية مرَّ بها العراق؟)، ليوجهه وجهة صحيحة، مميزاً "الكمَّ عن النوع"، أي مستوى دخل الفرد، والوفرة المالية المجردة عن المفهوم الكلي للاقتصاد، وآفاق تطوره وانتعاشه.
يجد الدكتور علاوي أن الحالة الأولى تنطبق على أواخر سبعينيات القرن الماضي - بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي الحاكم آنذاك– فقد كان مستوى المعيشة يُقارن بالبرتغال وإسبانيا، وذلك لارتفاع أسعار النفط، وزيادة صادراته، والنسبة السكانية غير الكبيرة، وتوفر رصيد احتياطي من العملة الصعبة يزيد على أربعين مليار دولار، أي ما يساوي اليوم مئتين وخمسين مليار دولار تقريباً. وقتها، كان النظام الاستبدادي قد أفاد من هذا الرصيد المالي الكبير لتثبيت سلطته، قبل أن يحرقه لاحقاً في حروبه العبثية. أما عن المرحلة التي شهدت آفاق انتعاش وتنوع وتطور حقيقي للاقتصاد العراقي في مفهومه الكلي تخطيطاً وتنفيذاً فهي تنطبق برأي السيد علاوي على "أواخر سني العهد الملكي، بين عامي 1955 – 1958، ثم عبرت إلى الفترة الأولى من حكم عبد الكريم قاسم، أي وصلت إلى أوائل الستينات. وأستطيع القول (الكلام للسيد علاوي) إن هناك مرحلة ثالثة واعدة.... كانت أيام حكومة عبد الرحمن البزاز، لأنه أعاد النظر بالسياسة الاشتراكية لعبد السلام عارف، وبموضوع التأميم ذي الاهداف الإيديولوجية لا الاقتصادية....وكان أمام حكومته آفاق جيدة، لكنها، للأسف، لم تستمر" (د: 1، ث: 20 - د: 3، ث 22).
وحين أعاد المحاور بعد مضي وقت طويل من اللقاء توجيه السؤال ذاته بشيء من التفصيل: (ما أفضل فترة مالية وتنموية مر بها العراق، هل كانت في العهد الملكي، أم العهد الجمهوري، أم القومي؟)، عاد السيد علاوي بدوره ليقرن من جديد سنوات الخمسينات أيام الحكم الملكي مع أوائل عهد عبد الكريم قاسم، فقال:
"إذا أخذنا النمو المتراكم..... فالعراق في العهد الملكي أيام الخمسينات كان يعتبر من الدول النمور، إذ كان نموه الاقتصادي يتراوح بين سبعة، وثمانية في السنة، وهذه مؤشرات قريبة من مؤشرات الصين، فكان من أكثر الدول في سرعة النمو الاقتصادي... تستطيع القول إن سنوات العصر الذهبي كانت في الخمسينات، وتعبر أيضاً إلى أولى سني حكم عبد الكريم قاسم، إذ كان ينتهج السياسية (الكلية) نفسها تقريباً" (د: 49، ث 19 – د: 51، ث: 18).
لأي سبب حذف الدكتور عبد الخالق حسين جزءاً أساسياً من رأي الدكتور علي علاوي، وصوَّر للقراء أنه منحاز، ويريد "تبخيس دور قائد الثورة"؟ في حين إن الدكتور علاوي كان يؤشر السنوات النموذجية للاقتصاد العراقي بموضوعية وحياد، بدليل أنه لم يحصرها بعهد واحد، بل وزعها على ثلاثة عهود متباينة في المشارب والتوجهات، ثم ذهب به الحرص العلمي إلى تحديد سنوات بذاتها من تلك العهود، استناداً لمعطيات واقعية، مع أخذه للنسبية في الحسبان. أما الدكتور عبد الخالق حسين فهو يختزل الفترة الذهبية للاقتصاد العراقي بمرحلة واحدة، ويقصي بحكم مطلق جميع ما سواها. إنه يمنح الـ(credit) للزعيم قاسم فقط، شاملاً سنوات حكمه كلها، حين يقول: "يشهد التاريخ أن أهم مرحلة تحقق فيها ازدهار اقتصادي هي مرحلة ثورة 14 تموز(1958-1963) بلا أي شك"!
ثانياً: مشاريع مجلس الإعمار بين التخطيط والتنفيذ
تأسس مجلس الإعمار في العام 1950، لينهض بمهام التخطيط لمشاريع البنية التحتية، والإنتاج، والخدمات، بالتعاقد مع كبريات الشركات العالمية المتخصصة بالبناء والإعمار. وقد تمتع المجلس الذي ضم نخبة من الخبراء بصلاحيات كبيرة، واستقلال عن وزارات الحكومة، ورُصدت له ميزانية كبيرة مستقلة بلغت 70 % من عوائد بيع النفط، وهو ما مكنه من التخطيط والإعداد لمشاريع كبيرة توزعت على جميع محافظات العراق، وشملت بناء السدود، وشبكات الري، واستصلاح الأراضي، والموانئ، ومشاريع الإسكان لذوي الدخل المحدود، ومشاريع انتاج الطاقة الكهربائية، والطرق المعبدة، والجسور، والمدارس والمعاهد العلمية، والمستشفيات، والمصانع.
تعرض مجلس الإعمار لحملة تسقيط غير مبررة، أشاعها كبار رجال العهد الجمهوري الأول، وتم الاستغناء عن خبرائه، ليعاد تشكيله بهيأة جديدة ترأسها الزعيم قاسم، لكن سرعان ما تم حلُّه في العام 1959. ولعهود لاحقة استمر التعتيم على منجزات مجلس الإعمار، إلى أن راحت الحقائق تتكشف تباعاً. غير أن الدكتور عبد الخالق الحسين له رأي آخر، فهو يقول:"ولو افترضنا جدلاً أن جميع هذه المشاريع والقوانين قد خطط لها في العهد الملكي، فما قيمة هذه المخططات التي كانت حبراً على ورق....إلى أن جاء عبدالكريم قاسم، وحولها إلى مشاريع حقيقية... فالعبرة ليست بالتخطيط، ومن الذي خطط فحسب، بل بالتنفيذ ومن نفذ".
لنلاحظ هنا كيف أن لغة الدكتورعبد الخالق حسين تقلل من قيمة منجزات مجلس الإعمار، ولا تريد الإقرار بالفضل إلا للزعيم قاسم: "لو افترضنا جدلاً... ما قيمة هذه المخططات... حبراً على ورق... العبرة ليست بالتخطيط". فأولاً، لا مبرر هنا ل"الافتراض جدلاً"، فالكتب العلمية، والأطاريح الجامعية، والوثائق، والأفلام المصورة في اليوتيوب تحدد بدقة مشاريع مجلس الإعمار. وتشهد أيضاً، أن نسبة كبيرة من البنية التحتية في العراق، والتي لا يزال قسم كبير منها يعمل بكفاءة حتى الآن هي ثمرة من ثماره. وليس من الصعب على من يريد قطع الشك باليقين أن يرجع لبعض المصادر المتخصصة بالموضوع، ومنها، مثلاً، الكتب والنشرات التي أصدرتها الحكومة العراقية عن قوانين، ومنهاج مجلس الإعمار، و"تجربة العراق الملكي في الإعمار 1950 – 1958: دراسة في التاريخ الاقتصادي" للدكتور عبد الله شاتي عبهول.
وثانياً، إن مشاريع مجلس الإعمار لم تكن مجرد "حبر على ورق"، بل أن نسبة طيبة منها أنجزت بالفعل أيام العهد الملكي، فبحسب شهادة أكاديمي متخصص"أنجز مجلس الإعمار حتى انفجار ثورة 14 تموز 1958عدداً من المشروعات المهمة في قطاع الري واستصلاح الأراضي، مثلاً، أكمل المجلس مشاريع الثرثار وبمرحلتيه، فضلاً عن مشاريع سدة الرمادي والمسيب ومنشآت الضبط في الناصرية. أنجز المجلس كذلك بناء عدد من الجسور المهمة مثل جسور الباب الشرقي والأعظمية والكوفة وطويريج والخازر والسماوة وبعقوبة للقطارات والعمارة والموصل، كما أكمل تعبيد طرق بغداد – حلة، حلة – ديوانية، حلة – نجف، وبغداد – الفلوجة، وطاسلوجة – دوكان، وعمارة – بصرة، وكركوك – طقطق، أما في الصناعة فإن المجلس أنجز بناء معملي السمنت في حمام العليل قرب الموصل، وسرنجار (كذا) في السليمانية، ومعامل الغزل والنسيج والسكر من (كذا) الموصل، ومصفى القير في منطقة القيارة، ومعمل الغزل والنسيج في معسكر الرشيد....... فضلاً عن مشاريع إسكان العمال في كل من دبس وسرجنار والموصل" (د. عبد الله شاتي عبهول: تجربة عبد الكريم قاسم في التخطيط الاقتصادي، 23- 24(. هذا فضلاً عن نسبة أخرى من المشاريع كانت في طور الاكتمال، لاسيما تلك المشاريع الكبرى التي تحتاج بطبيعتها لسنوات من العمل، مثل سدَّي دوكان ودربندخان، وكان قد بدأ العمل ببنائهما في منتصف الخمسينات، واكتملا في عهد الزعيم قاسم، وسوى ذلك الكثير.
ثالثاً: حل مجلس الإعمار
لا يبدو كلام الدكتور عبد الخالق حسين دقيقاً حين يذهب إلى أن حل مجلس الإعمار كان سبباً خاصاً لاتخاذ الدكتورعلي علاوي موقفاً سلبياً تجاه العهد الجمهوري الأول، وأنه لم يوضح مبررات حل مجلس الإعمار. فعن هذا الجانب الأخير قال الدكتور علاوي إن من الممكن فهم وجهة النظر التي حُلَّ على أساسها مجلس الإعمار "لأن الوزارات من حقها تقديم وتصميم المشاريع.... فالمفروض - في الظروف الاعتيادية – أن الوزارات بالتنسيق مع وزارة المالية هي التي تنظم..." وتنفذ المشاريع (س :1، د: 10، ث: 50 – س: 1، د: 11، ث: 7).
ومهما يكن من أمر، فإن عمل مجلس الإعمار كان يتطور على نحو إيجابي عاماً بعد عام، وفقاً لخطط وبرامج مدروسة بعناية. ولأن فكرة إنشائه كانت صحيحة، فقد أخذت تجربته تؤتي ثماراً طيبة. أما مبررات حلِّه، كما يقدمها الدكتور عبد الخالق حسين فلا تبدو مقنعة، لاسيما تلك التي لها صلة باستحداث وزارة للتخطيط، يقول: "فوزارة التخطيط يا سادة يا كرام، لا تقل أهمية عن مجلس الإعمار، إن لا تفوقه (كذا)، كما هو السائد في معظم دول العالم المتقدم والمتخلف!". إن حديثاً مثل هذا يغفل عن جوهر الفكرة التي انبثق عنها مجلس الإعمار، أي ذلك التخطيط الحريص على أن يشمل بعنايته لا المشاريع الخدمية فحسب، بل بنية الدولة بأكملها، فالمجلس بأعضائه وخبرائه المستقلين سيحمي من جهة ثلاثة أرباع عوائد النفط من أن تتبدد، أو تصبح رهينة بميول هذا المسؤول السياسي أو ذاك، فيتأخر توظيفها، ومن جهة ثانية لن تعترض طريقه مشاكل الروتين الإداري. أما الوزير في ظل نظام حكم يهيمن عليه العسكر، فلن يتمكن من العمل بأريحية، وسيبقى مكبلاً بقيود كثيرة، مهما بلغ من الكفاءة والشجاعة والنزاهة.
رابعاً: الهجرة من الريف وقانون الإصلاح الزراعي
يقول الدكتور عبد الخالق حسين: "وعن هجرة الناس من الريف إلى المدن وخاصة بغداد... حاول السيد الوزير أن يلقي اللوم على قانون الإصلاح الزراعي، ولكن بعد قليل تراجع واعترف أن الهجرات بدأت في أوائل الخمسينات، أي في العهد الملكي، وقبل الثورة بسنوات".
إن الدكتور عبد الخاق حسين يحمل هنا كلام الدكتور علاوي ما لا يحتمله: "حاول، تراجع، اعترفَ"، إذ أن سياق حديث الدكتور علاوي لم يكن عن بدء هجرة الفلاحين نحو العاصمة بغداد، بل عن هجرة أخرى أعقبت قانون الإصلاح الزراعي، كما أن طبيعة اللقاء التلفزيوني تختلف عن تأليف نص مكتوب، إذ هي لا تتيح للمتحدث إكمال الفكرة التي يروم إيصالها أحياناً، بسبب ما يستدعيه المقام من أجوبة فورية سريعة، ووجود محاور قد يقطع بأسئلته سلسلة الأفكار، لكن الدكتور علاوي أتم حديثه عند أول فرصة (د: 53، ث 50 – د: 55 – ث 43).
في الموضوع ذاته، يؤكد الدكتور عبد الخالق حسين إن "سبب الهجرة ليس قانون الإصلاح الزراعي، بل ظلم الإقطاعيين، وقانون حكم العشائر (نظام دعاوى العشائر) الذي سنه الإنكليز بعد احتلالهم العراق"، وكلامه هذا يصح على هجرة الفلاحين نحو العاصمة بغداد أيام العهد الملكي، لكنه لا يفسر لنا أسباب استمرار هجرتهم حتى في عهد عبد الكريم قاسم، وتركهم للأراضي التي مُنحت لهم بلا زراعة. وتلك إحدى النتائج السلبية المترتبة على قانون الإصلاح الزراعي. يقول الدكتور علاوي: "الفكرة صحيحة، أنك إذا منحت الفلاح الأرض فستصبح ملكاً له، وسيستطيع التصرف بها بطريقة أفضل. لكن العمل الزراعي له سياق كامل، فمن الذي سيوفر لك البذور؟ ومن سيسوق لك الإنتاج؟ جميع هذه المهام كان يقوم بها مالك الأرض.... لماذا يتوجه الفلاح إلى الزراعة حين تتوفر فرص جيدة للعمل في الحكومة، ووظائف في المدن؟" (د: 54، ث: 44 – د: 55، ث: 9).
لقد كان القطاع الزراعي أيام العهد الملكي يُشكل ركنا أساسيا يُعوَّل عليه في تنويع مصادر الدخل، وكان العراق بلداً زراعياُ، يعتمد على نفسه في زراعة ما يحتاج إليه من المحاصيل، ويصدر الفائض منها إلى دول الخارج. لكن الدوافع السياسية فعلت فعلها في سن قانون الإصلاح الزراعي على عجل، فأصبح العراق مستورداً، وأخذ المستوى المعيشي للفلاحين يتراجع إلى مستويات سيئة للغاية، وصفها حنا بطاطو بقوله: "كان الفلاحون الذين أصبحوا يُخَصَّون الآن وبموجب القانون بحصة تتراوح بين ٤٠ و ٥٠ بالمئة من المحصول ناقص ما يساوي البذار إذا قدمه صاحب الأرض، وعلى الرغم من ذلك واجهوا في السنوات الأولى من عهد قاسم وضعاً أسوء مما سبقه نتيجة لتراجع الإنتاج الزراعي" (حنا بطاطو، العراق: الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار، الكتاب الثالث، 152).
ختاماً، ما أكثر وأسهل الحديث عن ضرورة التعلم من دروس التاريخ، حتى لا نكرر أخطاء الماضي. لكننا حين نشطر عمر الدولة العراقية، وننحاز لعهد، على حساب آخر فلن يكون في مقدورنا سوى توظيف أدلة بشكل انتقائي، لتبرير ما ترسخ في أذهاننا من مواقف قبلية، ونتائج حتمية تأبى التزحزح، وتنفي تماماً أي نطاق لاحتمالات أخرى. إننا بذلك نقفز فوق حقائق الطبيعة البشرية، غافلين عن بديهيات المقارنة بين رجال سياسة رحلوا قبل أكثر من ستة عقود، بخيرهم وشرهم، أناس مثلنا، لهم نصيبهم من لحظات الشجاعة والتردد، والسلام والخصام، والمحافظة والثورية، وتوهج الذكاء وخذلان الخبرة. بَعُد العهد بهم، وبمشاريعهم العمرانية، وبقينا نحن، نلوك سيرهم، بينما يحلم الأنسان العراقي بتعبيد شارع، وتشييد جسر بسيط، وتأمين الطاقة الكهربائية ولو لبضع ساعات في اليوم. وفي أثناء ذلك نواصل حديثنا الماضوي، مدفوعين بعاطفة تغفل لفرط حرارتها الوهاجة عن أغلى ثمار التاريخ: أن نحرص على تجنيب أجيالنا الجديدة شر تلك الهوة التي علقنا فيها لعقود طويلة، ونحثهم على امتلاك ذاكرة ثقافية غير مأزومة، أملاً بأن يتصالحوا مع تاريخهم برمته، وأن يتيقنوا من أن تعمير الأوطان، وبناء الاقتصاد الناجح إنما ينبعان من قلب الإنسان متى تشبث بالأمل، ومن إرادته ووعيه، لا من بركات ملك، أو زعيم، أياً كان.
....................................
* رابط فيديو المقابلة التلفزيونية مع الدكتور علي علاوي:
https://www.youtube.com/watch?v=McTBsH8HfY4
913 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع