د. جابر أبي جابر
الحركة التجديدية لمسلمي روسيا القيصرية
في أواخر القرن التاسع عشر كانت الشعوب الإسلامية للإمبراطورية الروسية تشكل حوالي 16 % من سكان البلد. وقد شهدت الجماهير العريضة في تركستان وحوض الفولعا وغيرهما من الأقاليم الإسلامية أزمة عميقة من جراء السياسة الكولونيالية للقيصرية من جهة، والنزعات الاستبدادية المحلية، من جهة أخرى. وكان الجانب الديني في هذه الأقاليم يطغي على التمايز القومي. وفي ضوء ذلك أدرك ممثلو الشريحة المثقفة هناك الأسباب الرئيسية للاضطهاد الاجتماعي والجهل والتخلف وأكدوا على أن حل هذه القضابا الملحة يمر حصراً عبر نشر التنوير. وفي هذا الإطار نشأت على تخوم القرنين التاسع عشر والعشرين في أوساط مسلمي الإمبراطورية الروسية "الحركة التجديدية" كظاهرة اجتماعية سياسية متنوعة الجوانب. وقد لقيت هذه الحركة انتشاراً واسعاً وخاصة في تركستان وشبه جزيرة القرم. وضمت أبرز الشخصيات الإسلامية المثقفة ومنها كتاب وشعراء ومؤرخون ورجال دين متنورون مثل الشيخ أبو النصر الكرساوي من أتباع الطريقة الصوفية النقشبندية، وإمام مدينة قازان العلامة شهاب الدين المرجاني، ومفتي سمرقند الموسوعي محمود خوجه بهبودي، والكاتب صدر الدين عيني والمصلح إسماعيل غاسبرينسكي، الذي درس في جامعة السوربون بباريس وكان على علاقة وثيقة مع الكاتب الروسي ايفان تورغينيف.
- وقد حمل التجديديون لواء التحديث الإسلامي في مواجهة التيار المحافظ المسمى بالقديمية (السلفية) ووضعوا نصب أعينهم مهمة نشر التنوير في أوساط السكان المسلمين عن طريق إنشاء شبكة واسعة من المدارس ذات المناهج العلمانية الحديثة بحيث تدرج فيها العلوم الطبيعية واللغات الأجنبية. وفضلاً عن ذلك اهتموا أيضاً بإصدار الكتب المدرسية وغيرها، وتأسيس المكتبات العمومية، والسعي عموماً لمواكبة التحولات الاجتماعية والثقافية الجارية في المجتمع الروسي بدلاً من الانزواء والتقوقع. كما أولى التجديديون في هذا السياق اهتماماً بالغاً بتعليم الفتيات. وإجمالاً رأى أتباع الجديدية أن تحديث الإسلام يتجلى في استيعاب منجزات العلوم والتقنيات المتطورة وتفعيل التعليم العلماني. وقد آمنوا بضرورة ضمان حرية التعبير والصحافة والمعتقد وحصانة الفرد. كما أنهم دعوا إلى التخلي عن "العربة الآسيوية" وركوب"الألة الميكانيكية الأوروبية" وأكدوا على عدم وجود تعارض بين الدين الإسلامي والعلوم الحديثة.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد حيث أن التجديديين بادروا بتنظيم الصحافة المحلية بدءاً من عام 1906. فقد أصدروا صحف ومجلات جديدة باللغة الأوزبكية وغيرها من اللغات التركية مثل " الترقّي" و"النور" و" المجد" و"العالم الإسلامي" و"النجاة" و"الدين والحياة" و"الصداقة" و"الشمس" و" شهرات" و"خورشيد" إلخ. كما كان غاسبرينسكي يصدر في القرم صحيفة "الترجمان" التي كان لها رواج واسع وخاصة في تركستان. وفضلاً عن ذلك أنشأ التجديديون عدة دور نشر لطباعة الكتب والكراريس الرخيصة مثل دار نشر"تشرييت" في طشقند و"الجمعية التركمستانية للطباعة والنشر" في آنديجان. وقد تسنى لهم أيضاً فتح متاجر للكتب في شتى مدن تركستان. وتأثر أتباع التجديدية تأثراً عميقاً بالفكر السياسي الأوروبي وخاصة بالمبادئ الدستورية. كما كانوا يهتمون بنشاط جمعية تركيا الفتاة في الدولة العثمانية. وقد دعوا إلى إقامة نظام برلماني مستندين في ذلك على مبدأ السلطة التمثيلية الوارد في القرآن الكريم (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ). كما طالبوا بمنح المرأة حق الاقتراع وأعلنوا عن سعيهم إلى رفع منزلة الإسلام وتوحيد صفوف المسلمين. فطالبوا بمساواة المسلمين مع السكان الروس في الحقوق وإلغاء القوانين والممارسات الإدارية القائمة على سياسة التمييز ضد المسلمين. دعا الجديديون إلى إصلاح نظام التعليم التقليدي وإدراج مواد علمانية فيه وطالبوا بفتح باب الاجتهاد ومساواة المرأة بالرجل. وقد اصطدموا بمعارضة شديدة من جانب الأوساط المحافظة ذات التأثير الكبير في المجتمع الإسلامي، التي عرفت آنذاك بالقديمية. وقد اتهمت هذه الأوساط التجديديين بالعمل على أَورَبة الإسلام وتبني ميول علمانية وثورية. ثم تحولت هذه الحركة، التي بدأت بإصلاح التعليم الإسلامي التقليدي، إلى حركة واسعة النطاق للمثقفين المسلمين في روسيا القيصرية تدعو لتحديث المجتمع التقليدي وتفعيل دور المسلمين في الحياة الاجتماعية والثقافية بروسيا. وخلافاً للمدارس القديمة حظرت مدارس التجديديين العقاب البدني للأطفال.
أسس التجديديون في مطلع القرن العشرين العديد من الجمعيات الخيرية في آسيا الوسطى منها " الأمل" و"الدعم" و"طورون" و"جمعية نشر التعليم". وقد لعبت هذه الجمعيات دوراً بارزاً في نشر التنوير بالمنطقة.
أولى التجديديون اهتماماً خاصاً بالنشاط المسرحي حيث اعتبروا المسرح عاملاً هاماً في تربية الأجيال الصاعدة والشعب عموماً فوجهوا أنظارهم إليه. وفي عام 1912 أجريت أول الخطوات الجدية لتأسيس مسرح قومي حيث عرضت في سمرقند وطشقند وبخارى مسرحية محمود خواجه بهبودي" قاتل أبيه" باللغة الأوزبكية ولقيت نجاجاً منقطع النظير لدى الجمهور. وخلال الفترة الواقعة بين العامين 1911 و1917 صدرت أكثر من عشرين مسرحية تعكس قضايا المجتمع المعيشية في تلك الحقبة. وكان المؤلفون على قناعة تامة بأن المسرح هو الناقل الرئيسي لأفكار الحركة التجديدية في إقليم تركستان وإمارة بخارى وخانية خيوة. ففي ظروف المستوى التعليمي والثقافي المتدني لدى السكان كان التمثيل على خشبة المسرح يتيح إيصال قيم ومبادئ الحركة إلى وعي الناس.
وفي إطار هذه الحركة تأسس "حزب اتفاق المسلمين" في عام 1905 كأول تنظيم سياسي إسلامي في روسيا. وقد كان للحزب فروع في حوض الفولغا والقرم والأورال والقوقاز وسيبيريا وتركستان. وأدرج في برنامجه عدة أهداف مثل إجراء تحولات ليبرالية وتوحيد مسلمي روسيا دون التمييز في الوضع الاجتماعي والانتماء القومي.
وقد جرى تأسيس التنظيم المذكور خلال الكونغرس الأول لمسلمي روسيا المنعقد في 15 آب/ أغسطس عام 1905 بمدينة نيجني نوفغورود. وشاركت في أعماله وفود من القرم وشمال القوقاز وجنوبه وكذلك من قازان وتركستان وسيبيريا. وفي ختام الكونغرس هيمن التيار المعتدل، وتقرر اعتبار التنظيم الوليد رابطة إسلامية عوضاً عن الحزب السياسي. ووضع الكونغرس نصب عينيه تحقيق الأهداف التالية:
أ- أ- جمع مسلمي روسيا في حركة واحدة.
ب- ب- إقامة نظام ملكي دستوري قائم على أساس التمثيل التناسبي للقوميات.
ت- ج- مساواة المسلمين والسكان الروس في الحقوق وإلغاء القوانين والممارسات الإدارية القائمة على التمييز ضد المسلمين.
ث- د- تطوير الثقافة والتعليم في أوساط المسلمين.
ولدى انعقاد الكونغرس الثالث في عام 1906 تقرر تحويل "اتفاق المسلمين" إلى حزب يمثل مصالح المسلمين في الإمبراطورية الروسية. وقد جاء برنامج الحزب شبيهاً ببرنامج الكاديت مع التركيز على قضايا المساواة الدينية والقومية بين الروس والمسلمين. والجدير بالذكر أن الحزب كان ممثَّلاً في الدورة التشريعية الأولى لمجلس الدوما (أيار/مايو عام 1906) بأربعة نواب. ولكن لم يستمر نشاطه أكثر من عامين. اصطدم التجديديون في نشاطاتهم الصحفية بالرقابة القيصرية الصارمة التي كانت تعتبرهم عناصر تخريبية محتملة رغم بعدهم عن السياسة حتى اندلاع ثورة اكتوبر حيث صاروا بعد ذلك يشاركون بحماس ملحوظ في الهيئات السياسية وانتسب العديد منهم إلى الحزب الشيوعي. ولكن في وقت لاحق نشبت خلافات جوهرية بين السلطة السوفيتية والتجديديين تجلت، قبل كل شيء، في عزم البلاشفة على تقسيم تركستان إلى خمس جمهوريات قومية وهي أوزبكستان وكازاخستان وطاجكستان وقيرغيزيا وتركمانيا.
وفي النهاية ابتعد التجديديون عن الحياة الاجتماعية والسياسية، غير ان ذلك لم ينقذهم من بطش السلطات الشيوعية حيث أنهم، إلى جانب خصومهم من رجال الدين الإسلامي والعلماء، تعرضوا للملاحقة والاعتقال والفصل من وظائفهم في أواخر العشرينات وخلال الثلاثينات.
1316 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع