الكسندر بارفوس- عرّاب أكتوبر المجهول

                                                             

                                د. جابر أبي جابر

        

            الكسندر بارفوس- عرّاب أكتوبر المجهول

قبل الحرب العالمية الأولى لم يكن البلاشفة يحصلون على الأموال اللازمة للحياة والنضال ضد الحكم القيصري والرأسماليين من اشتراكات الأعضاء لوحدها. فهي لم تكن تتجاوز 15% من ميزانيتهم. وقد كانت هناك تبرعات كبيرة من جانب الأثرياء المتعاطفين معهم. فعلى سبيل المثال كانت البرافدا تصدر بتمويل من قبل المليونير سافا موروزوف. وبالإضافة إلى ذلك قدم تبرعاتهم لقضية الثورة العديد من الكتاب والممثلين والمحامين المعروفين. ولكن ثمة مبالغ لا يستهان بها كانت تأتي إليهم بطرق غير شرعية وغير أخلاقية مثل أعمال السطو وتحصيل الأتاوات وابتزاز الأثرياء وخاصة في جورجيا وأذربيجان.
ولكن، حسب تقدير العديد من المؤرخين الروس والأجانب،فإن أكثر المبالغ، التي تلقاها البلاشفة، كانت تأتيهم أثناء الحرب العالمية الأولى من الألمان بعد أن وضع بارفوس خطته لإخراج روسيا من الحرب. وقد كان بارفوس يمثل، في شخص واحد، المنظر الماركسي ورجل الثورة المتحمس ورجل الأعمال الناجح والمغامر الدولي والممارس الثوري العملي الذي ابتكر في عام 1905 فكرة السوفيتات.
ولد ألكسندر بارفوس (الاسم الحقيقي إسرائيل هيلفاند)عام 1867 بإحدى بلدات مقاطعة مينسك. وقد كان والده حرفياً. وبعد إنهاء الدراسة الثانوية في مدينة أوديسا انخرط بنشاط في الحركة الثورية ووضع نصب عينيه تحقيق هدفين أساسيين وهما:

تحطيم القيصرية والإثراء الشخصي . ثم حصل على منحة من "صندوق فلسطين" لتلقي التعليم العالي فتوجه إلى مدينة زيورخ السويسرية للدراسة في جامعة بازل. وهناك أصبح ماركسياً تحت تأثير بليخانوف وبقية الأعضاء البارزين في حلقة" تحرير العمل" الماركسية، الذين تعرف عليهم شخصياً. وبعد تخرجه من الجامعة بدرجة دكتوراه فلسفة في الاقتصاد السياسي انتقل إلى المانيا وهناك انتسب إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، الذي كان يعتبره حزباً واعداً. بيد أنه لم يقطع علاقاته مع الاشتراكيين الديمقراطيين الروس. وحسب أقوال معاصريه فإنه كان فاقداً تماماً للشعور بالوطن. وفي عام 1894 اتخذ لنفسه الاسم المستعار- الكسندر بارفوس وبات يوقع مقالاته بهذا الاسم. وفي البداية كان ينشر أعماله بصحيفة الأممية الثانية التي كان يحررها كارل كاوتسكي. وفي عام 1897 صار بارفوس من محرري "الصحيفة العمالية السكسونية" حيث أثارت مقالاته استياء شديداً ليس فقط من جانب الاشتراكيين الديمقراطيين اليمينيين وإنما أيضاً في أوساط اليساريين . وفي تلك الفترة بات بارفوس يتعاون مع روزا لوكسمبورغ التي أصبحت صديقة حميمة له . وبفضل نقاشاته الطويلة مع إدوارد برنشتاين ومقالاته حول الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية حصل بارفوس على شهرة واسعة كمنظر ماركسي وكاتب صحفي وكان مؤلفه الرئيسي كتاب" السوق العالمية والأزمة الزراعية". وفي تلك السنوات صارت شقته في ميونيخ ملتقى الماركسيين الألمان والروس . وغالباً ما كان يأتي إلى هناك فلاديمير أوليانوف (لينين)، الذي كان يستخدم الكتب من مكتبة بارفوس الشخصية. وبفضله تعرف لينين على العديد من الثوريين البارزين. ولدى إصدار صحيفة"ايسكرا" (الشرارة) الناطقة باسم حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي سارع لينين ومارتوف إلى إشراك بارفوس في تحريرها. وتجدر الإشارة إلى أن مطبعة الصحيفة كانت تقع في شقة بارفوس بميونيخ. وقد كانت مقالاته تظهر دائماً في الصفحة الأولى.
اهتم بارفوس اهتماماً بالغاً بنظرية الثورة الدائمة، التي تبناها فيما بعد رفيقه تروتسكي والتي تتحدث عن إمكانية حدوث الثورات الاشتراكية في بلدان لم تصل بعد إلى المستوى المطلوب من التطور الرأسمالي. وترجع هذه النظرية إلى ماركس وإنجلس. وهي تذهب إلى أن السلطة خلال ثورات متعاقبة سوف تنتقل من الملكية المطلقة إلى الملكية الدستورية ثم إلى الجمهورية البرجوازية وفي نهاية المطاف ستغدو في أيدي البروليتاريا. ولدى ذلك رأى ماركس وإنجلس استناداً إلى تجربة ثورات عامي 1848-1849 في أوروبا أن الثورة البروليتارية ستتخذ حتماً طابعاً دولياً. فهي إذ تنطلق في بلد واحد ستثير تفاعلاً تسلسلياً.
لقد تجلت مساهمة بارفوس في نظرية الثورة الدائمة بمنح روسيا دوراً خاصاً فيها حيث كان يؤكد أن البرجوازية فيها بفعل خصا ئص تطورها التاريخي ليست طبقة ثورية ولهذا فإنه سيتعين على البروليتاريا حل المهام الملقاة على الثورة البرجوازية. وفي هذا الإطار ينبغي ، حسب اعتقاده، النظر إلى الجبهة الموحدة مع البرجوازية قبل سقوط القيصرية كمسألة مؤقتة.
وعلى العموم كان بارفوس واسع الثقافة ومنظراً ماركسياً ورجل أعمال وعميل للحكومة الألمانية وقريب من زعماء الاشتراكيين الديمقراطيين الروس والألمان. ويذهب العديد من المؤرخين أنه أحد أبرز المغامرين الذين بدلوا مسيرة التاريخ.
عقب اندلاع الثورة الروسية الأولى في عام 1905 شارك بارفوس بشكل مباشر في إنشاء سوفيت بطرسبورغ لنواب العمال حيث دخل ورفيقه تروتسكي في قوام اللجنة التنفيذية وأصدر معه صحيفة " روسكايا غازيتا" التي أصبحت بعد شهر تصدر بنصف مليون من النسخ وتباع بسعر رمزي- كوبيك واحد. وقد كان بارفوس وراء صدور المانيفست المالي الذي أثار حفيظة الحكومة القيصرية نظراً لأنه كشف عن استشراء الفساد فيها وأكد على إفلاسها ودعا السكان إلى الامتناع عن دفع الضرائب للدولة. وعلى العموم فقد قام آنذاك بنشاط ثوري عاصف أسفر عن اعتقاله وتلقيه حكماً بالسجن لمدة ثلاث سنوات. ولكنه تمكن من الهروب في الطريق إلى المنفى.
وبعد ذلك استقر بارفوس من جديد في ألمانيا حيث "نصب" على الكاتب المعروف مكسيم غوركي مبلغاً كبيراً حصل عليه لقاء عرض مسرحية " في الحضيض" على خشبة المسارح الألمانية( 100 ألف مارك) . وكان من المقرر أن يسلم ربعه إلى المؤلف ويقدم البقية لصندوق الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني .
وبعد إصدار حكم حزبي ضده في ألمانيا توجه بارفوس إلى عاصمة الدولة العثمانية الأستانة وما لبث أن عيّن مستشاراً سياسياً ومالياً لدى حكومة تركيا الفتاة بفضل الدعم الذي قدمته له الجالية اليهودية في الأستانة ذات النفوذ الكبير في صفوف حزب تركيا الفتاة. وقد أحواله التجارية أثناء حرب البلقان حيث كان يتعامل بشكل وثيق مع شركة كروب الألمانية المنتجة للسلاح والحديد الصلب ومع تاجر السلاح المعروف رئيس شركة فيكرز ليمتد فاسيلي زخاروف. ومنذ اندلاع هذه الحرب العالمية الأولى اتخذ بارفوس موقفاً مكشوفاً موالياً للالمان معلناً أن انتصار ألمانيا في الحرب سيساعد على التقدم العالمي. وآنذاك قام بمساع حثيثة لإقناع السلطات العثمانية بدخول الحرب إلى جانب الألمان وتسنى له تحقيق ذلك. ثم تابع نشاطه التجاري الناجح، الذي بفضله جمع ثروة كبيرة. وفي الوقت نفسه كان بارفوس ينشر مقالاته في الصحف التركية ويترأس بنفسه إحدى هذه الصحف.
كان بارفوس واحداً من القلائل، الذين تنبأوا بحتمية اندلاع الحرب العالمية الأولى كوسيلة للصراع على مصادر الخامات الجديدة أسواق تصريف المنتجات. فقد بدأ بدراسة الاحتمالات الممكنة لاستخدام الحرب من أجل تنظيم الثورة وإنجاحها. وفي ضوء ذلك اقترح على الألمان مخطط القيام بانقلاب في روسيا لإخراجها من الحرب. وكان هذا التصرف منسجماً تماماً مع كراهيته الشديدة لروسيا ورغبته في العمل بشتى الوسائل لإهلاكها.
يُعد بارفوس الشخصية المحورية في قضية تمويل الألمان للبلاشفة. ولم تعرف تفاصيل نشاطه في هذا المجال إلا بعد الحرب العالمية الثانية حيث استولى الأمريكان على أرشيف وزارة الخارجية الألمانية،الذي احتوى وثائق حول السياسة الخارجية الألمانية من عام 1867 وحتى عام 1920. وكان ضمن ذلك آلاف التقارير والبرقيات المتعلقة بالصلات القائمة بين البلاشفة وحكومة غليوم الثاني. وقد نشر بعضها عام 1956 في مجلة" الشؤون الدولية" اللندنية وفي صحيفة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني"فورفيرتسيه" عام 1957.
في 9 آذار/مارس عام 1915 قام بارفوس بتسليم القيادة الألمانية خطته الخاصة المتعلقة بإخراج الإمبراطورية الروسية من جبهات الحرب العالمية الأولى عن طريق تنظيم ثورة فيها تطيح بالنظام القائم وتتيح بوقف القتال في الجبهة الشرقية لتركز ألمانيا كافة قواتها على الجبهة الغربية بعد عقد صلح مع الحكومة الجديدة. وقد سبق أن التقى في الأستانة بالسفير الالماني هانز فرايهر فون وانغينهايم يوم السابع من كانون الثاني / يناير عام1915 وعرض عليه اقتراحه المغري بخصوص التعاون بين القوى الثورية الروسية والحكومة الألمانية مؤكداً على تطابق مصالح الجانبين.
وقد سعى بارفوس إلى إقناع الألمان بوجود توافق تام بين مصالح الحكومة الألمانية والثوريين الروس حيث تناول على نحو مفّصل في خطته، التي تضم 20 صفحة، كيفية تنظيم حملة واسعة معادية للقيصرية في الصحافة واستنهاض الجيش والأسطول والأقليات القومية للنضال ضد القيصرية. وقد خصص رجل الأعمال اليهودي دوراً محورياً في الثورة للبلاشفة الذين، حسب قوله، قد بدأوا في التحرك. ولتحقيق هذه الأهداف طلب بارفوس منحه 5 ملايين مارك (ووفق تقديره فإنه يحتاج إلى 20 مليوناً لتنفيذ هذا المشروع). وفي آذار/مارس عام 1915 أصبح مستشاراً رئيسياً للحكومة الألمانية في القضايا الثورية لروسيا. وفي ذلك الوقت وصفته الشخصية البارزة في الحرب الاشتراكي الديمقراطي كلارا تستكين بأنه" قوّاد الإمبريالية الذي باع نفسه للحكومة الألمانية". كما وجهت روزا لوكسمبورغ انتقادات لاذعة لمواقفه الموالية للألمان. وقد ارتأى كبار المسؤولين الألمان، الذين كانوا يعولون على الحركة الثورية الروسية للتوصل إلى توقيع صلح انفرادي، أنه من الممكن منح بارفوس في البداية مليون مارك. ومن هذه الأموال كان يجري تمويل صحيفة"ناشيه صلوفو" (كلمتنا) بباريس، التي كان يديرها تروتسكي ويعمل فيها أحد مؤسسي حزب العمل الاشتراكي الديمقراطي الروسي يولي مارتوف والكاتب أناتولي لوناتشارسكي، الذي شغل بعد الثورة منصب وزير المعارف في حكومة لينين، والمؤرخ ميخائيل بوكروفسكي وأنطونوف- أوفسيينكو، الذي قاد فيما بعد الهجوم على القصر الشتوي.
فما هي يا تُرى خطة بارفوس بخصوص الثورة في روسيا؟ لقد اقترح واضع هذه الوثيقة الشروع بتنظيم إضرابات سياسية جماعية تحت شعار" الحرية والسلام"، التي ينبغي أن تشمل، بالدرجة الأولى، مصانع بتروغراد والسكك الحديدية، مثلما كان عليه الأمر أثناء حركة إضرابات عامي 1904-1905.
وقد دعا بارفوس إلى التوحيد العاجل للجناحين البلشفي والمنشفي بغية تنسيق الجهود لاستغلال ضعف الجهاز الإداري للإمبراطورية الروسية من جراء الحرب والبدء بأعمال فعالة ضد القيصرية. واقترح في خطته إيلاء اهتمام كبير للبحارة الروس نظراً لكونهم سريعي التأثر بالدعاية السياسية وبوسعهم أن يعطوا زخماً جديداً للحركة الثورية الشاملة. كما أكد على ضرورة تأجيج حركة الإضراب بمدينة باكو وغيرها من مناطق استخراج النفط من خلال استخدام العامل الإسلامي وكذلك في أماكن استخراج الفحم الحجري بحوض الدون ومصانع الأورال حيث يتمتع البلاشفة بتأثير بالغ في أوساط العمال. كما دعا إلى تركيز الدعاية بين سكان سيبيريا الذين يتطلعون إلى تحقيق الاستقلالية عن السلطة المركزية.
وضمن الإجراءات الأخرى أشير في الخطة المذكورة إلى ضرورة إنعاش الصحافة الاشتراكية، وطباعة الكراريس والمناشير بأعداد كبيرة من النسخ، إلى جانب توجيه اهتمام خاص باليهود الروس والسلاف المقيمين في الولايات المتحدة وكندا حيث بوسعهم، حسب اعتقاده، التأثير على تشكل الرأي العام في هاتين الدولتين.
وأعرب بارفوس عن أمله في أن إخفاقات الجيش الروسي في الجبهة ستؤدي إلى زرع بذور الشقاق والتنافر في كافة أنحاء البلد. ولم ينس رجل الأعمال الثوري" العامل الأوكراني" فقد لفت انتباه الألمان إلى أن إنشاء أوكرانيا المستقلة يمكن اعتباره تحرراً من النظام القيصري وفي الوقت نفسه حلاً للمسألة الزراعية. وضمن الأقاليم القومية الأخرى ركّز بارفوس على فنلندا فاقترح تحريض السكان بمساعدة الجيش السويدي على القيام بانتفاضة هناك تفضي إلى استقلال هذه الإمارة عن روسيا. ولم تفوته الإشارة إلى القوقاز حيث كان يعول أيضاً على سلخه عن روسيا. وقد أعلن أنه بعد دعوة الحكومة العثمانية إلى الجهاد ضد روسيا لم يعد بامكان الروس التعويل على دعم المسلمين هناك.
وإدراكاً منه بأن تطور الحركة الثورية في الإمبراطورية الروسية لا بد، في نهاية المطاف، أن يثير فتنة شاملة اقترح بارفوس اتخاذ إجراءات خاصة لتعزيز هذا الوضع المضطرب. وخلصت الخطة إلى استنتاج مفاده أن اتساع نطاق الحركة الثورية واشتداد وطيسها سيجعل القيصر مضطراً إلى تشكيل حكومة جديدة يمكنها ان تطرح مسألة وقف الأعمال العسكرية والشروع بمفاوضات دبلوماسية حول توقيع اتفاق سلام مع ألمانيا. وهذا أقل ما يمكن عمله في اعتقاده (أليزابيت هيريش. الثورة المموَّلة. ملف بارفوس السري. موسكو، دار نشر"أولما- بريس"، 2005). ومن جهة أخرى سبق أن طرح بارفوس في عام 1905 للمرة الأولى نظرية الثورة الدائمة وفكرة استخدام روسيا كحلقة ضعيفة في عالم الرأسمالية. ومن هناك ينبغي، حسب اعتقاده" أن تنطلق الثورة العالمية.
وفي ندائه الموجه إلى الاشتراكيين الثوريين الروس عبر وكالة التلغراف العثمانية تهجم بارفوس على بليخانوف وغيره من الاشتراكيين، الذين وقفوا ضد ألمانيا واتهمهم بالتعصب القومي والشوفينية. وقد دعا إلى العمل على انهزام روسيا لما فيه مصلحة الديمقراطية الأوروبية.
في أيار/مايو عام 1915 التقى بارفوس مع لينين مرتين بمدينة زيوريخ السويسرية وعرض عليه مسألة التعاون مع الألمان . وحسب تقدير المؤرخ دافيد شوب فإن الزعيم البلشفي استمع إليه بكل اهتمام دون أن يعطيه جواباً محدداً. وبقي مضمون الحديث طي السرية (دافيد شوب. لينين وغليوم الثاني.الجديد حول التآمر الألماني- البلشفي، دار نشر"نوفي جورنال"، نيويورك،1959). وبعد اللقاء المذكور لم يجتمع لينين ببارفوس حيث أصبح ياكوف غانيتسكي وسيطاً بينهما وهو صديق للينين ونسيب بعيد لبارفوس.
من المعروف أن العلاقات بين بارفوس ولينين لم تكن ودية إذ كان لينين ينظر إليه بتحفظ شديد كمنافس قوي باعتباره مثقفاً حائزاً على الدكتوراه من جامعة غربية ورجل أعمال مرموق عقد صلات واسعة في أوساط الحركة الاشتراكية الديمقراطية بأوروبا ومن أبرز شخصيات الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني. وبعد وصول البلاشفة إلى الحكم رفض لينين رفضاً قاطعاً طلب بارفوس منحه منصباً حزبياً أو حكومياً في روسيا السوفيتية. وقد نجم عن ذلك ظهور إشاعات تشير أنه كان وراء محاولة اغتيال لينين في صيف عام 1918.
أسس بارفوس في كوبنهاغن "معهد دراسة أسباب الحرب العالمية وتداعياتها". وقد عمل في هذا المعهد مويشيه أوريتسكي المقرب من تروتسكي. وفي الوقت نفسه أنشأ بارفوس هناك أيضاً شركة الاستيراد والتصدير" فابيان كلينفسكند"التي أشرف على أعمالها ياكوف غانيتسكي. ولتسهيل عملياته التجارية المتنوعة حصل بارفوس من السلطات الألمانية على ترخيص خاص لإجراء هذه العمليات من ألمانيا وإليها بدون أية قيود. وكان لهذه الشركة شبكة عملاء كبيرة في الدول الاسكندنافية وروسيا. وكان هؤلاء يعقدون صلات مع التنظيمات السرية ولجان الإضرابات وينسقون الأعمال فيما بينهم. وبعد بضعة شهور دخلت في دائرة نشاط بارفوس هولندا وبريطانيا والولايات المتحدة. وقد كان يشتري في روسيا المواد الاستراتيجية الضرورية للاقتصاد العسكري الألماني مثل النحاس والكاوتشوك الصناعي والقصدير والحبوب. ومن جهة أخرى كان يصدر إلى روسيا المواد الكيميائية والآلات والمعدات المختلفة. وكان يتم نقل بعض هذه السلع بصورة قانونية بينما كان القسم الآخر ينقل عبر المهربين. ويرى العديد من المؤرخين الروس والأجانب أنه كان يجري تحويل الأموال من برلين بصورة رئيسية إلى حسابي شركات بارفوس بمصرف المليونير اليهودي أولوف آشبيرغ "نيا بانكين" في ستوكهولم ومصرف "ريفيزيون بنك" في كوبنهاغن وتقوم شركة الاستيراد والتصدير" فابيان كلينسلاند"، التي يديرها ياكوف غانيتسكي (فيورستنبرغ)، بإرسالها فيما بعد إلى روسيا عبر صفقات تجارية حقيقية أو وهمية ثم توضع "الغلة" في حسابات قريبته يفغينيا سومنسون في "المصرف الروسي الآسيوي" ببتروغراد ومصارف روسية أخرى. وكانت هذه المرأة تملك مع البلشفي البولندي متشيسلاف كوزلوفسكي معمل أدوية. وإلى جانب ذلك كان يجري في ألمانيا إصدار عملة روسية مزورة من فئة 10 روبلات وتسليمها إلى البلاشفة.
وعد بارفوس السلطات الألمانية بأنه سينظم في التاسع من كانون2/يناير عام 1916 بكافة أنحاء روسيا إضراباً شاملاً بمناسبة ذكرى حادثة الأحد الدامي التي كانت الشرارة الأولى لاندلاع ثورة عام 1905. وكان من المتوقع أن يقض هذا الإضراب دعائم الحكم القيصري. غير أن الثورة لم تحدث حيث أن الإضراب المذكور لم يكن بالحجم المنشود. وقد اعتبر الألمان ذلك هزيمة ماحقة لبارفوس رغم أنه فيما بعد نظم العديد من الإضرابات ذات الطابع السياسي وتابع نشاطه التخريبي ضد روسيا. وبعد قيام ثورة فبراير عام 1917 توتر الوضع في البلد إلى حد كبير مما منح بارفوس فرصة جديدة للنجاج. ففي هذه الأثناء احتاج إليه الألمان من جديد. فبفضل الدعم المالي الألماني تضاعف نشاط الدعاة البلاشفة في الوحدات العسكرية للجيش الروسي. كما ازداد بعشرات المرات عدد نسخ الصحف البلشفية ووصل إلى مئات الآلاف من النسخ. وارتفع عدد أعضاء الحزب البلشفي من 23 ألف في مطلع آذار/ مارس عام 1917 إلى 300 ألف عشية ثورة أكتوبر.
أنهى بارفوس السنوات الأخيرة من حياته في ألمانيا حيث تابع ممارسة الأعمال التجارية. وقد توفي ببرلين في أواخر عام 1924. وبعد وفاته اختفت ثروته في ظروف غامصة. وحتى الأن لا تزال شخصيته محاطة بالألغاز. ويعزو المؤرخين ذلك إلى نقص المصادر عنه ولا سيما أنه حرق قسماً كبيراً من أرشيفه قبل أن يفارق الحياة بوقت قصير. أما ما تبقى من الوثائق فهي مبعثرة في شتى البلدان وغير متاحة للباحثين في معظم الحالات. وهذا ما يفسر وجود حلقات مفقودة في سيرة حياته.
ومع ذلك يجد الباحث بعض المعلومات عنه في كتاب المهاجر التشيكي زبينيك زيمان والألماني فينفريد شارلاو " بارفوس- بائع الثورة" (1964). كما صدر في عام 2005 باللغة الروسية كتاب المؤرخة النمساوية أليزابيت هيرش" الثورة الممولة - ملف بارفوس السري ".
على كل حال فإن العديد من المؤرخين الروس المعاصرين يرون ان تمويل ألمانيا للبلاشفة كان ناجماً حصراً عن التقاء جزئي ومرحلي لمصالح حزب لينين الساعي للاستيلاء على السلطة في روسيا ورغبة الألمان الملحة في إخراج روسيا من الحرب. ولا يعتبر هؤلاء المؤرخون ذلك شراء للضمائر أو عمالة مباشرة. وهم يشيرون إلى أن لينين في نهاية المطاف استطاع أن يفوقهم دهاء. وفي هذا السياق يؤكد المؤرخ يوري فلشتينسكي أن الألمان أنفقوا في رومانيا وإيطاليا على" الدعاية السلمية" أموالاً تفوق ما أنفقوه على نشاط البلاشفة بينما لم يمنع ذلك الدولتين المذكورتين من الانضمام إلى دول الوفاق.
لم يكن ذكر اسم بارفوس مستحسناً في العهد السوفيتي ناهيك عن طباعة أعماله. وقد كان المؤرخون السوفيت يحذفون اسمه من مؤلفاتهم. ومع ذلك لا تزال سيرة حياته وشخصيته الغامضة تثير اهتماماً لا يقل عما كان عليه منذ مئة عام.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

603 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع