الاستاذ الدكتور عبدالرزاق محمد الدليمي
العودة الى المربع الاول
كلما اريد ان اكتب عما حصل ويحصل بالعراق تستهويني تنبئات وتوقعات .. ابن خلدون رائد علم الاجتماع العربي،وكأنه يعيش معنا هذه الظروف العصيبة ويشخصها بطريقة علمية نافذة ومما جدت به قريحته هي:
"عنـدمــا تـكثــر الجبــايـة تشرف الدولة على النهـايــة. وعندما تنهار الدول ويكثر المنجمون والمتسولون والمنافقون والمدّعون..والكتبة والقوّالون .. والمغنون النشاز والشعراء النظّامون..والمتصعلكون وضاربوا المندل..وقارعوا الطبول والمتفيهقون ( أدعياء المعرفة ) ..وقارئوا الكفّ والطالع والنازل..والمتسيّسون والمدّاحون والهجّاؤون وعابرو السبيل والانتهازيون..تتكشف الأقنعة ويختلط ما لا يختلط..يضيع التقدير ويسوء التدبير..وتختلط المعاني والكلام..ويختلط الصدق بالكذب والجهاد بالقتل..
عندما تنهار الدول يسود الرعب ويلوذ الناس بالطوائف..وتظهر العجائب وتعم الإشاعة..ويتحول الصديق الى عدو والعدو الى صديق..ويعلو صوت الباطل..ويخفق صوت الحق..وتظهر على السطح وجوه مريبة..وتختفي وجوه مؤنسة..وتشح الأحلام ويموت الأمل..وتزداد غربة العاقل وتضيع ملامح الوجوه..ويصبح الانتماء الى القبيلة أشد التصاقا..والى الأوطان ضربا من ضروب الهذيان..يضيع صوت الحكماء في ضجيج الخطباء..والمزايدات على الانتماء.ومفهوم القومية والوطنية والعقيدة وأصول الدين..ويتقاذف أهل البيت الواحد التهم بالعمالة والخيانة..
وتسري الشائعات عن هروب كبير..وتحاك الدسائس والمؤامرات..وتكثر النصائح من القاصي والداني..وتطرح المبادرات من القريب والبعيد..ويتدبر المقتدر أمر رحيله والغني أمر ثروته..ويصبح الكل في حالة تأهب وانتظار..ويتحول الوضع الى مشروعات مهاجرين.. ويتحول الوطن الى محطة سفر..والمراتع التي نعيش فيها الى حقائب..والبيوت الى ذكريات والذكريات الى حكايات."
داعش الذريعة والمليشيات المستفيدة
وعندما نعكس ما كتبه ابن خلدون على واقعنا نجد ان تجربة في العقدين الماضين من عمر الاحتلال البغيض لبلدنا علمتنا ان لمحتل وذيوله كلما اغلقت الابواب بوجه استمرار مهزلتهم السياسية يلجؤون الى ذات الاساليب فتعود اخبار داعش الى الواجهه وهذا طبعا ما تستفيد منه كل الجهات التي ارتبطت مصالحها ووجودها بالاحتلال وفي المقدمة منهم المليسشيات التابعة لنظام طهران علما ان وجود داعش لم يؤد الى أي تغيير في الواقع، بل سيزيده، دموية، وتخبطا على صعيد استقرار العراق، والمضحك المبكي ان كل الاطراف المسلحة المناهضة للقانون ترفع لواء الاسلام ، والإسلام براء منهم، هذه الممارسات التي وجد لها البعض تبريرات تحت دوافع مختلفة، لكن النتيجة هي زيادة هشاشة الدول المتهالكة اصلا، وتحطيمها من الداخل.
كل الساسة الذين حكموا و تبوّؤا مناصب سيادية هم فاسدون مع سبق الأصرار .. و يكفي عرض رواتبهم و مخصصاتهم المليونية و المليارية ليثبت ذلك .. ولا نخوض في السرقات و الخيانات و المقاولات الخفية و التعينات المضمونة بألواسطات و الرواتب الفضائية ألخفية وغيرها؛ ناهيك عن رواتب المسؤولين و حماياتهم و مواكب عجلاتهم المصفّحة .. تكفي لأدانتهم بعد إمتلاء كروشهم و عوائلهم و ذويهم بدم الفقراءوبالمال السحت الحرام!
بعد كل هذا الواقع المأساوي نرى مجدداً ؛ محاولات إعادة إنتخاب الفاسدين الكبار الذين تسببوا بسرقة وهدر الف وخمسمائة مليار دولار ،ان سبب كل هذا التخبط توظيف الدّين بشكل لايرتبط بحقيقته بين الناس، و استغلاله من بعض دعاة الدين لتحقيق اهدافهم بأستمرار هيمنتهم على مقدرات البلاد والعباد ،يفسرون ويحللون ويحرمون على قدر حاجاتهم ،ليستمروا بنشر غسيلهم القذر وثقافة الوهم و الجهل و الغباء الذي أحاط بآلعراق و العراقيين بسبب نشر المفاهيم الخاطئة عن العشائرية والطائفية واستغلالها.
سؤال لابد منه
يتساءل كثيرون ألا يُحرّك مقتل الاعداد المتزايدة من العراقيين يوميا في بغداد وباقي مدن العراق ضمير الإنسانية، الذي ذهب في إجازة مدفوعة الأجر منذ دخول قوات الاحتلال إلى البلاد باسم "التحرير ونشر ديمقراطية نموذجية" في العراق ،ومتى يتوقف نزف الدماء، وهي تجري أنهارا في عراق الرافدين الخالدين، دجلة والفرات، بدلا من أنهار العسل واللبن التي بشر بها المحتل الأمريكي شعب العراق؟
الموت يلاحق العراقيين لأنهم وُعدوا بوجبة غداء مع الرسول الأكرم محمد "ص" أو هكذا تقول أدبياتهم، لقد تفنن الاحتلال وعملائه بأساليب قتل العراقيين ، لأن هدفهم كان وسيبقى اغراق العراق في بحر الحرب الأهلية والطائفية، ثم تأتي المليشيات المنفلتة لتزيد الطين بله عندما لجأت إلى شن حربها بهجمات، يجري تنفيذها بمدافع الهاون وبصواريخ الكاتيوشا، التي عادة ما توقع خسائرها بالمواطنين العراقيين المستضعفين لتكريس حقيقة تقسيم العراق إلى كانتونات، والذي دمّـرت أحداثه القاسية الإنسان العراقي من الداخل، وحوّلته إلى كومة لحم سريع الاشتعال والانفجار، حتى على أهله.
اذن الموت والخطف ثم القتل الجماعي مازال سيد الموقف، ينتشر هذه الأيام برُعب يملأ ضجيجه كل أركان العراق، هل هو هذا قدَر العراق أن يصبح الدّم العراقي رخيصا جدا، بعد كل عملية قتل للعراقيين، يخرج الساسة ببيانات استنكار وإدانة ودعوات لضبط النفس، وكأنهم يضغطون على "أزرار" تفجير أخرى أو أنهم يقرأون بيانات مشفّـرة تحمل تعليمات جديدة للانتقام والانتقام المتبادل،
خطابات متشنّـجة ومتوترة، واحتقان يغلّـف حقيقة الأطماع السياسية لرجالات العملية السياسية، وأهداف إقليمية ودولية ينفذها عراقيون بكفائة ، بعضهم يضحك على نفسه وعلى الناس بأنه يعمل لوجه الله، وآخرون للوطن، والأكثرية يتحركون بأجندة غيرهم... ويحسبون أنهم مهتدون.
اليوم، وبعد عقدين من عمر الاحتلال البغيض فإن العراقيين مازالوا يتبادلون الاتّـهام بأصل "عراقيتهمّ"، اما الدّين، فقد كثرت المرجعيات والفتاوى وهذا ما ينتشر علنا في البيانات والخطابات ولا يخفي الترويج له من رجالات القوم،والحبل على الجرار، كما يقول المثل العراقي،وليس الأمر داخل الطائفة الواحدة أو حتى بين مُـكونات القومية الواحدة بأفضل منه خارجها.
من الخوف إلى الرعب
يستمر كلُّ هذا الموت، رغم أن دُعاة الحلّ الأمريكي، اعترفوا أن المشروع الأنكلو - أمريكي للعراق فشل فشلا ذريعا، وهذا ما كانت بعض القوى العراقية المُـخلصَة تحذر منه قبل الاحتلال،يبدو ان عجلة الزمن توقّـفت في العراق المحتل منذ أمد بعيد، وتحوّلت إلى الشعارات المتصارعة والمتناقضة بين الاطراف المستفيدة من الاحتلال، وهذه حوّلت البلد إلى كانتونات انعزالية في أغلب الأحيان.
ان القوى التي رهنت وجودها بنظام طهران، ودخلوا في العملية التي قادتها بريطانيا والولايات المتحدة في العراق، كانوا ينفذون الاجندة الايرانية التي تركز على عدم استمرار شهر العسل بينهم والأمريكيين وان لايدوم طويلا، وكانوا يُـخططون للسيطرة على الشارع وعلى مؤسسات الدولة الجديدة، وفرض رؤيتهم كأمر واقع .
وليس بخافٍ على أحد أن أحد أهم أهداف المشروع البريطاني الأمريكي في العراق، هو ضمان أمن (إسرائيل)، والذي تحقق منه الكثير بتصريح رئيس الوزراء (الإسرائيلي) الاسبق ايهود أولمرت، أن العالم أفضل بغياب نظام صدام، وهو يقصد طبعا حال العراق الذي لا يسُـر الصديق!فتدمير الجيش العراقي وتفكيك الدولة وتقسيم العراق إلى أقاليم ومناطق غير متوازنة، يساعد في تحقيق الحُـلم الإسرائيلي القديم، من النّيل إلى الفُـرات!وفي خط مواز لقتل الأدمغة وسرقة الأثار، والاغتيالات والتفجيرات التي لا تميز بين دم وآخر، انتشرت في العراق عشرات المنظمات المشبوهة تحت غطاء "منظمات المجتمع المدني"، وخصوصا النسوية، التي أخذت تروّج بشكل علني للإلحاد والإباحية والعلاقات بين المثليين والكفر بالأديان والتشكيك بها وبالكتب السماوية، وتدعو إلى كره الحجاب الإسلامي. فما بين قتل التاريخ ومسخ الحاضر، يبدو أنه يُـراد للعراقي أن ينفتح على مستقبل جديد، خال تماما من القيَـم الإنسانية.
وتحاول الولايات المتحدة، ومعها حليفتها بريطانيا، إيجاد مخرج من المأزق العراقي باستمرار ارتكاب الأخطاء القاتلة، ونشر الفوضى "البنّـاءة"، التي حصدت أرواح أكثر مليوني عراقي، وهجّرت مليونين داخل العراق وحده، وخمسة ملايين خارجه ودمرت البنية التحية للدولة والإنسان، وتحول العراق إلى ساحة لتسوية الحسابات الإقليمية والدولية، وقبل ذلك، إلى غابة تتصارع فيها الوحوش.
ان واحدة من الأخطاء المتواصلة، تكمن في تسليم مسؤوليات الأمن في بعض المدن للاطراف غير القادرة على حفظ الأمن، والتي تتنازعها أهواء وولاءات لأحزاب لاتؤمن بالعراق ، وهذا يفتح الباب على مجهول لا يعرف منه إلا الموت، عندما تتصارع الأحزاب والجماعات على مراكز القوة والنفوذ.
كل الطرق تؤدي إلى إيران
لان صور الموت والرائحة المنتشرة في كل مكان، وسياسة الاغتيال وأجواء الرُّعب هذه، ليست إلا جزء من الكل في سياسة عامة، بدأت من عمليات النَّـهب وفتح الحدود على مصراعيها لكلِّ من يبغي سوءا بالعراق من التسلل إليها في وضح النهار للانتقام!في السياسة أيضا، فإن إيران أصبحت قبْـلة مُـهمة للسياسيين العراقيين، لأنها اليوم لاعب مُـهم ومستفيد أكبر مما يجري في العراق، ويجب أن لا تستدعيها الحكومات المتعاقبة!بعض الجهات العراقية لم يُـخف رغبته في القيام بدور الوسيط بين إيران وخصومها وهي محاولة لكي لا يتحوّل العراق إلى ساحة منازلة إيرانية مع الاخرين، ورغبة في تخفيف الاحتقان الدبلوماسي بين طهران وواشنطن، على خلفية البرنامج النووي الإيراني.إيران اليوم، قادرة على قلب الطاولة على الأمريكيين والبريطانيين، وهي تتوسع في دائرة تحالفاتها، للقوى المشاركة في العملية السياسية من السُـنة والشيعة، وتنفتح في وقت واحد على الشيعة والسُـنة والعلمانيين والإسلاميين، وعلى القوميات المختلفة، ويتّـهمها أكثر من طرف بإيواء (أو اعتقال) عناصر بارزة من تنظيم القاعدة، كانوا لجأوا إلى إيران.
في هذا السياق، لابد من التوقّـف عند الأساليب التي اتـبعها نظام طهران في الملف العراقي وآثارها على طبيعة الاصطفافات السياسية، حيث لا تركّـز إيران اهتمامها على الشيعة الإسلاميين، وربما تعتمد عليهم فقط في تمرير برنامجها النووي، وتتخلّـى عنهم، إذا دخلت في صفقة جدّية مع الولايات المتحدة، خصوصا عندما يتعلّـق الأمر بحماية كيانها السياسي من التفكّـك والانهيار، على غرار ما حصل للاتحاد السوفيتي السابق عام 1991،إن السّجال السياسي في إيران، بين الإصلاحيين والمحافظين، وبين أقطاب الحكم وأركان النظام، يترك تداعيات مباشرة على الملف العراقي، بل أن العراق هو واحد من أهم الموضوعات، التي يحتدم حولها النقاش داخل الجمهورية الإسلامية.
ان واقع الحال الذي سينتهي عنده العراق بعد مسرحية الانتخابات الاخيرة ومهازلها،هو ان المستفيدين منها سيفسرون الماء بعد الجهد بالماءوسيبقى الحال على ماهو عليه الى أجل غير مسمى،فكل ماقيل عن الثورة الشعبية والاحتجاجات والمظاهرات والتضحيات والاعتقالات لم تؤدي أوكلها في تغيير الواقع المأساوي الكارثي الذي خلقه الاحتلال البريطاني الامريكي الايراني للعراق، ويبدو ان هذه الاساليب لم ولن تجدي نفعا للعراقيين،وهذا يعني ان عليهم ان يفكروا بأساليب اخرى علها تنفعهم!!
4740 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع