رحيل شاعر الريل وحمد

                                                          

                 الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط

   


رحيل شاعر الريل وحمد

توفي يوم أمس الجمعة، 20 أيار 2022، في مستشفى الشارقة التعليمي في الإمارات الشاعر العراقي الكبير مُظفر عبد المجيد النَّواب (1934-2022) عن عمر يناهز الـثامنة والثمانين عاماً بعد صراع مرير مع المرض.

لقد نعى رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي الشاعر العراقي مُظفر النَّواب، وكتب الكاظمي في تغريدة على تويتر: "الراحل الكبير مُظفر النَّواب.. العراق الذي طالما تغنّيت باسمه أينما حللت، وأفنيت عمرك لإعلاء مكانته، يكتسيه الحزن وهو يودّعك إلى مثواك الأخير مُثقلاً بأسى خسارة ابنٍ بار ومبدعٍ لا يتكرر".

ينتمي مُظفر النَّواب بأصوله إلى عائلة النَّواب التي ينتهي نسبها إلى الإمام موسى الكاظم عليه السلام، وقد ولد في العام 1934 في جانب الكرخ من العاصمة بغداد لعائلة أرستقراطية تهتم بالفن والشعر والموسيقى.

أظهر النَّواب موهبة شعرية منذ سن مبكرة، وأكمل دراسته الجامعية في جامعة بغداد وأصبح مدرسًا، لكنه طرد لأسباب سياسية عام 1955. وغادر العراق عام 1963 ثم أُعيد إليه قسرا وأصدرت محكمة عراقية حكمًا بالإعدام بحقه بسبب إحدى قصائده، وقد خُفف الحُكم فيما بعد إلى السجن المؤبد ليودع في سجن "نقرة السلمّان" الشهير القريب من الحدود السعودية العراقية، وأمضى النَّواب وراء القضبان مدة من الزمن ثم نُقل إلى سجن (الحلة) الواقع جنوب بغداد.

تمكن مُظفر النَّواب من الهرب من السجن عبر حفر نفق فيه وبقي متواريا عن الأنظار، وسكن الأهوار وعاش مع الفلاحين والبسطاء حوالي سنة، ثم عاش بعدها في عدة عواصم منها بيروت ودمشق ومدن أوربية أخرى.

لقد كان مُظفر النَّواب لا يمتلك الجنسية، ولم يكن قادرًا على السفر سوى بوثائق السفر الليبية، حيث حلَّ ضيفا على العقيد مُعمر القذافي كشاعر كبير، وأقام في ليبيا لسنوات، واتخذ من جواز سفر ليبي هوية رسمية له.


بقي النَّواب متنقلا بين العواصم العربية والأوروبية، واستقر بهِ المقام أخيرًا في دمشق ثم بيروت حتى العام 1969 عندما صدر عفو عن المعارضين، فعاد إلى وظيفته في وزارة التربية العراقية.

وفي العام 2011 عاد مُظفر النَّواب إلى العراق بعد فراق لأكثر من 40 عاما، وقد استقبله بشكل رسمي الرئيس العراقي الأسبق جلال طالباني المعروف بعلاقاته مع الشعراء، ثم عاد وغادر العراق وبقي طيلة أكثر من عقد يعاني من مرض عضال.

اشتهر مُظفر النَّواب بقصائده الثورية القوية، وقد صدرت أول طبعة كاملة لأعماله باللغة العربية في لندن عام 1996 عن دار قنبر. ومن أشهر قصائده قصيدة "القدس عروس عروبتكم" والتي يشتم فيها الحكام العرب بسبب "تخاذلهم" في الدفاع عن القدس. ومن قصائده المُغناة الشهيرة قصيدة " مرّينا بيكم حمد" والتي أبدع واشتهر فيها الفنان ياس خضر.

أغنية " مرّينا بيكم حمد " وقصتها:
أغنية " مرّينا بيكم حمد" من بقايا رذاذ الزمن الجميل، وتتضمن كلماتها "القهوة"
التي لها خصوصية خاصة في المضايف العربية الأصيلة وتعبّر عن الأصالة والتراث. كما تتضمن كلمات هذه الأغنية "قطار الليل" و"الريل" الذي يطوي بين جناحيه الذكريات الدفينة التي عايشناها في قطارات الزمن الجميل.

و "الريل" هو القطار كما يسمونه في جنوب العراق، وهو مأخوذ من الكلمة الإنكليزية (rail) وتعني (سكة حديدية). وقد دخلت السكك الحديدية للعراق منذ مطلع القرن الماضي أثناء التواجد البريطاني، وكانت أول رحلة عام 1914م.
كلمات هذه الأغنية تحمل في طياتها معاني عميقة من الحزن والألم والمرارة التي تجيش في وجدان الشاعر تعبيرا عن ما بدخله من مشاعر دفينة. ولأغنية " مرّينا بيكم حمد " موقع متميز في الأرشيف التراثي العراقي، وقد غنها العديد من المطربين والمطربات العراقيين والعرب منهم وليد الشامي وإلهام المدفعي وساجدة عبيد ورحمة رياض وآخرون. كما قام مطربون آخرون بعمل مداخلة معها مثل مداخلة " بيَّن عليّا الكِبَر".

من ذكرياتي الخاصة مع هذه الأغنية أنني سمعتها في الثمانينيات هي وأغنية أخرى لفؤاد سالم في أحد مطاعم مدينة ليون الفرنسية، وجلسنا في ذلك المطعم لفترة طويلة بانتظار إعداد الأكلة الجزائرية الشهيرة "كسكسيه" ونحن نستمتع بأجواء الأغنية التي نقلتنا من أجواء بلاد الغربة الى أجواء وطننا العراق الحبيب. وقد سألنا صاحب المطعم الجزائري: هل تحب هذا الغناء؟ فأجاب: نعم أنا بتجنن على الغناء الخليجي! فصححنا له المعلومة وقلنا له هذا ليس خليجي ولكنه غناء عراقي أصيل.

ملحن هذه الأغنية هو الفنان طالب القرة غولي (1939-2013)، وأما المطرب الذي غناها واشتهر بها سنة 1968 فهو الفنان ياس خضر المُلقب "صوت الأرض" والذي يتميز صوته بالأصالة مع نبرات حزن دفين. وقد بدأ ياس خضر حياته قاطعا للتذاكر في مستشفى أبو صخير بالنجف الأشرف، ثم تحوّل إلى نجم للغناء العراقي وأحد سفرائه المُعتمدين في العالم والوطن العربي؛ حتى بات علامة مضيئة في سماء الغناء العراقي.

قصة أغنية "مرّينا بيكم حمد":
أوحت لمُظفر النَّواب بقصيدة "مرّينا بيكم حمد" حادثة وقعت أمامه سنة 1956 خلال سفره إلى البصرة بقطار الدرجة الثالثة بعد أن حدَّثته امرأة حزينة كانت تجلس في المقعد المقابل عن قصتها المأسوية المثيرة في شبابها عندما مرً القطار بقريتها الصغيرة ( أم شامات )، فكانت البداية وكانت تلك القصة المُحرض الذي دفع الشاعر بعد ذلك للبدء ببناء القصيدة التي سماها "للريل وحمد" مع هدير عربات القطار وسط سكون الليل وظلامه الحالك.

لقد أكمل مُظفر النَّواب القصيدة سنة 1958 ولم ينشرها في وقتها، ثم قرأها يوما لأصدقائه فأعجبوا بها كثيرا. فأخذها أحدهم ونشرها بدون علمه بجريدة "المثقف" فأحدثت ضجة كبيرة بين الناس ونالت شهرة واسعة بين مختلف الأوساط. وبعد عشر سنين غناها ياس خضر واشتهر بها، وتعدّ هذه الأغنية أيقونة أغانيه.

بطلة هذه القصة الحقيقية فتاة من جنوب العراق، تسكن منطقة الأهوار. يقول الشاعر مُظفر النَّواب: "في سنة 1956 كنت مسافرا بالقطار من بغداد الى البصرة فجلست في المقعد المقابل امرأة أربعينية وكانت سهرانة لا تنام، وعندما مرَّ القطار قرب قرية (أم شامات) ولم يقف، بدأت تحكي قصتها الحزينة".

تبدء هذه القصة بفتاة يافعة تبتدئ بحب شاب من قريتها، وتتطور العلاقة بينهما ثم يتركها الشاب لتتحمل هي ثمن الحب لوحدها. ووفقا للتقاليد والأعراف العشائرية العراقية قرر أهلها قتلها حتى يتخلصون من العار الذي أصابهم.

وفي إحدى الليالي أخذها أهلها بالقطار حتى يبتعدون عن المنطقة ويقتلوها بعيدا عن أنظار الناس، فصادف أن مرّوا بالطريق على مضيف حبيب هذه الفتاة، وأسمه "حمد"، فلما انتبهت هي لهذا الأمر وسمعت كلامهم وصوت دك الگهوة التي كانوا يُقدموها بالمضيف بدت تنشد هذه القصيدة، والتي تبتدئها بقولها:

مرّينا بيكم حمد واحنا بقطار الليل... واسمعنا دگ اگهوة وشمينا ريحة هيل

وتنتقل لمخاطبة القطار وتطلب منه انه يمشي ببطء حتى تظل أطول فترة ممكنة بقرب حبيبها بحجة أنها خايفة من القطار لا يگعد القطا ( الگطه ) اللي عايش تحت (حدر) السنابل من النوم وتقول له:

يا ريل صيح بقهر صيحة عشك يا ريل....هودر هواهم ولك حدر السنابل گطة

وتستمر بمخاطبتها القطار لعدم وجود شخص آخر عندها تحكي له قصتها وتبدي تشكي له من حبها اللي طلع كذاب (دغش) وحبيبها الذي تركها وتحمَّلت هي ثمن الحب لوحدها طول العمر:

ياريل طلعوا دغش والعشگ چذابي ... دگ بيه كل العمر ما يطفة عطابي
تتوالف وية الدرب وترابك ترابي ....هودر هواهم ولك حدر السنابل گطة

وبعد ذلك، وعلى الرغم من العذاب الذي حملته، ترجع تحن لحبيبها وتحكي للقطار عنه وعن خوفها الدائم عليه.

بعد ذلك استطاعت تلك الفتاة الهروب والذهاب إلى بغداد، ثم تشاء الأقدار أن تلتقي بالشاعر مُظفر النَّواب بالقطار لتحكي له قصتها قبل قرابة عشرين عاما، فيقوم الشاعر بتحويل تلك القصة الأليمة الى قصيدة مؤثرة، ثم بعد عشر سنين يقوم ياس خضر بغنائها فتتحول من جديد إلى واحدة من روائع التراث الغنائي العراقي الأصيل.

مرينه بيكم حمد واحن بقطار الليل ... واسمعنه دق اگهوة شمينا ريحة هيل
يا ريل صيح بقهر صيحة عشق يا ريل ... هودر هواهم ولك حدر السنابل كطة
***
يا بو محابس شذر يلشاد خزامات ... يا ريل بالله بغنج من تجزي بأم شامات
و لا تمشي مشية هجر قلبي بعد ما مات ... وهودر هواهم ولك حدر السنابل گطة
***
يا ريل طلعوا دغش والعشق چذابي ... دك بيه كل العمر ما يطفه عطابي
نتوالف ويه الدرب وترابك ترابي ... وهودر هواهم ولك حدر السنابل گطه
***
آنه ارد الوك لحمد ما الوك انا لغيرة ... يجفلني برد الصبح وتلجلج الليرة
يا ريل بأول زغرنه لعبنه طفيرة ... وهودر هواهم ولك حدر السنابل گطة


https://www.youtube.com/watch?v=jQx0GuOcVG0

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1261 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع