لؤي الشقاقي
ذكرى ٢٢ وفاة الحافظ خليل اسماعيل
عرف العالمي العربي والاسلامي والشرق الاوسط ظاهرة قرءانية فريدة لن تتكرر هو ثاني الجنائن المعلقة وبستان الانغام وبلبل الالحان خليل اسماعيل عميد القراءة العراقية والعربية ودرة تاجها .
ولد خليل إسماعيل العُمر عام ١٩٢٠ في بغداد، المدينة التي احبها واحبته وترعرع فيها وتشرب روحها ووهبها صوته وروحه فصار من يسمعه وهو يتلو كلام الله يراها ويتخيلها، كرمها ورفع اسمها فكرمته ومنحته رتبة لا يرقى اليها الا المصطفين ووضعته في صف الخالدين.
درس وتتلمذ على يد كبار القراء والعلماء واخذ منهم الكثير وكانت قراءته تصويرية لمعاني الآيات تؤثر بالسامعين واضعاً امامه قول النبي صلى الله عليه وسلم "زينو القرآن باصواتكم فان الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا" وقوله "من لم يتغن بالقرآن فليس منا" وقوله "ما اذن الله لشيء ما اذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن الكريم يجهر به" وكان هذا من الأسباب التي شجعته على القراءة وفق الأنغام المقامية البغدادية الاصيلة, كانت قرائته حسبة لله بنية صادقة لوجهه لم يبغ شهرة أو مكانة أو نفع مادي.
في عام 1942 اخضع جميع القراء لاختبار عسير لبيان مدى حفظهم لكتاب الله لم يوفق فيه غيره وحيدر الجوادي من الموصل.
تنقل الحافظ بين الكثير من جوامع بغداد مبتدأ بجامع السراي حتى استقر به المقام في جامع بنية وخلالها اصبح شيخ محفل القراء في جامع الامام الاعظم .
دخل الأذاعة عام 1941 ولما عُرف وذاع صيته في الأمصار دعي الى كثير من الدول وقرأ في مساجدابرزها المسجد النبوي والمسجد الأقصى ومرقد السيدة زينب في الشام والكويت وقد سجلت له هناك تلاوات نادرة محفوظة لليوم.
عاصر اغلب القراء البغداديين, أما قراءاته مع العرب فهي كثيرة فقرأ مع الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي في وفاة الملكة عالية عام 1950 حيث بدأ عبد الفتاح وبعده قرأ خليل فقال الشعشاعي بحقه "والله كويس خالص" وكررها وأردف "هكذا يقرأ القرءان لقد أعتديتم علينا عندما أتصلتم بنا في مصر وعندكم هذا الخليل" وعند أنتهاء التلاوة باشروا بالختمة وكان الدعاء للحافظ خليل"اللهم أجعل أشرف صلواتك دائمأ أبدأ بعدد أنفاس الخلائق فردأ فردا" الى أخر الدعاء وعند أنتهائه توجه نحوه الشعشاعي قائلأ :يحفظك الله أكرمك الله ما هذا الدعاء البركة وما فعلت بنا يا شيخ أريد منك أن تسجله لي واردف "إني لم أطرب ولم أكن أسمع مثل الحافظ خليل أنه وتر الكمان" كذلك ألتقى مع أبو العينين شعيشع في بغداد وقرأ معه والتقى مع الشيخ عبد الباسط عبد الصمد ومحمد صديق المنشاوي في الستينيات وأيضأ مع الشيخ محمود خليل الحصري وقرأ معه في القصر الجمهوري عام ١٩٦٤في شهر رمضان بحضور الرئيس عبدالسلام عارف.
قال العازف سامي الشوا لعدد من القراء العراقيين عندما سمع قراءة خليل "أحب أن أقول لكم أن تراثكم في التلاوات هو الأصل وما عداه هو الفرع وقد زرت عدة دول عربيةولم أسمع مثل هذا التراث العظيم فحافظوا عليه من الضياع وسط موجة الدواخل من الأنغام البعيدة كل البعد عن تراثنا الزاهر الأصيل" وقال عنه العلامة الشيخ جلال الحنفي ان خليل يعد أرشيفاً للأنغام البغدادية يجيد استعمالها ويحسن التجوال في أرجائها قرارا وميانة، وما من نغمة يتقنها قدامى المقرئين إلا كان الحافظ خليل في هذا المدخل تصل درجته إلى تسعين درجة وهي درجة عالية لا يرقى إليها سوى العدد القليل في العالم”.
حضرت الى العراق عام 1970 لجنه أزهريه لتعليم القراء ضبط أحكام وقواعد التلاوه القرآنيه مؤلفه من شيخين أزهريين هما الشيخ رافع والشيخ محمود سيبويه وفتحوا دوره في جامع الحيدرخانه، ويروي الحاج محمد الخشالي صاحب قهوة الشابندر المعروفه القصة قائلآ "كنت أرافق الحافظ خليل وقد دخل على هذين الشيخين في جامع الحيدرخانه وكانا لايعرفان الحافظ خليل سابقآ وبعد السلام عليهما طلب منهما التسجيل في الدوره التي يفتحانها وأرادا سماع قراءته قبل درج اسمه لمعرفة قابليته الأقرائيه وما أن بدأ الحافظ خليل بالقراءة أمامهما حتى قفزا من مكانهما إعجابآ به وأندهاشآ لما سمعوا وقالا له توقف يرحمك الله ياشيخ، نرجو منك أن تفتح أنت لنا دوره لتعليمنا مثل قراءتك وأنقلب المجلس الى حفاوه بالحافظ خليل وخاصة بعدما عرفوا بمكانته بين القراء العراقيين واعتذروا منه اعتذارآ شديدآ"
اجادته للمقام وانغامه
اجاد المقام وفنونه ووظفه لخدمة القرءان، فتراه يقرئ ايات العذاب والنار بانغام الصبا والسيكاه الحزينة ويقرئ ايات الجنة بانغام الحجاز والخلوتي المفرحة، يدلف الى الرست فيرتقي مياناته "اي صيحاته" الواحدة تلو الاخرى بسهولة ويسر ويخرج منه الى المنصوري فيتناول السيكاه كمن يشرب فنجان القهوة ويعود الى البيات الذي ابتدأ القراءة فيه، ويمر على الخنبات والحكيمي ويتفنن بهما ويمرعلى الزنجران الذي عجز عن قراءته كل قراء القرءان كما فعل خليل، يمر بالمدمي والابراهيمي فيعذب بهما الروح والفؤاد قارئ لعرب فنية يعجز عنها كبار قراء المقام، وقرأ ايضاً بالانغام المصرية والتركية واجادها ايما اجادة دون خروج عن احكام التلاوة او احكام الانغام فكان قارئ قرءان مكتمل وقارئ مقام مكتمل, الا انه قطع على نفسه وعداً لشيوخه بعدم قراءة المواليد والمدائح والمناقب او المقام، قال عنه الموسيقارمحمد القبانجي “إن في صوته سحرا عجيبا وهو مقرئ العراق الأول دون منازع، نحن جميعاً بيد المقام العراقي، ولكن المقام بيد الحافظ خليل” وقال فيه الناقد الموسيقي عادل الهاشمي"هو القارئ المتميز في العراق وهو أعظم حنجرة جودت ورتلت القرءان الكريم في وقته وزمانه وقد تدرج بذكائه إلى نهج طريقة خاصة به في بناء قاموسه النغمي تدريجيأ بما أستفاده من الأصغاء الى جمهرة قراء عصره أضافة الى أمتيازه بالآداء الجيد من الأصول والفروع فهو يبشر وينذر في تلاواته فضلأ عن تنقلاته النغمية المتماسكة في أسلوب التلاوة والمساحة الواسعة في صوته من قراره الى جوابه إلى جواب الجواب، قرأ الحافظ المقامات الرئيسية والفرعية كلها.
مواقف شخصية
في احدى السنوات حضرت لجنة مكونه من كبار القراء المصريين لاختبار القراء العراقيين فقال لهم مدير الاوقاف في حينه عبدالحميد العاني "عم والدي" "اختبروا الكل الا الحافظ خليل" فرفضت اللجنة وقالوا "نحن اتينا بدعوة لأختبار كل القراء العراقيين ولا نستثني احد" ولاصرارهم وافق العاني على مضض وعندما بدأ الحافظ القراءة صدح باجمل المقامات ففغر اعضاء اللجنة افواههم وقالوا "اذا كان عندكم اصوات زي دي جبتونه ليه ده صوت من الجنة, انتو جبتونا ظلم"
كان سريع التصرف في المواقف الصعبة حيث يذكر والدي انه حضر الى الاذاعة في احد الايام للتسجيل وكان والدي هو المخرج فطلب منه القراءة بمقام السيكاه فقال له الحافظ "بس اني محضر روحي على البيات عود غير مرة اقرالك سيكاه" وابتدأ التسجيل فقرأ بعض الايات بالبيات ثم انتقل بعدها الى السيكاه، فقرئه وكل مقاماته الفرعية وانغامه, فقال له والدي"اذا ممحضر روحك وهيج قريت اذا تحضر شلون"
كان رحمه الله ذكياً جداً في احدى المرات كان ابي يوصله من الاذاعة الى داره الجديدة "حيث تربطه بوالدي وجدي واخيه علاقة قديمة كون جدي قارئ مقام ومناقب وعم والدي كان مدير للأوقاف وبعدها وزير ووالدي مخرج ومعد برامج في الاذاعة" اخذ الحافظ يدل ابي الى بيته كأنه يرى الطريق شارع شارع حتى قال له توقف هنا عند احد الدور وصاح بصوته الجهوري وبلهجته البغدادية "حجية تره وصلت" يقصد زوجته التي كانت تقف خلف الباب الخارجي وهنا قال له والدي "كلها الا هاي شلون عرفت وصلنه بيتكم والطريق بعده جديد عليك وعرفت الحجية ورا الباب" فاجاب "مو كل اعمى اعمى ولا كل مفتح مفتح اني حسبت سرعة مشيك بالسيارة من الهوا الي يضرب ايدي وحسبت المسافة للبيت"
كان رحمه الله لا يحب التقرب من السلطة ففي احدى المرات اتصل والدي بالحافظ وابلغه بوفاة ميشيل عفلق وانه يجب عليه الحضورلقراءة القرءان فاجابه "لؤي انته لا اتصلت بيه ولا سمعت صوتي صار معلوم" فاجابه والدي "تمام عمو" وتكرر نفس الموقف في وفاة عدنان خير الله فأجاب بنفس العبارة "انته لا اتصلت ولا سمعت صوتي" في حين كان باقي القراء يتسابقون للقراءة
كان رحمه الله عفيف الطبع كريم النفس ففي مجلس عزاء جد والدي في جامع 14 رمضان كان كل قراء بغداد يحضرون للقراءة واداء الواجب "كون عمي والدي كما اسلفت مدير للاوقاف ووزيراً فيما بعد وجدي قارئ مقام" وعندما حان وقت الطعام اعد جدي مأدبة خاصة للحافظ لما له من مكانه, فسأل الحافظ ابي "عمو شنو الاكل" فأجابه "كذا وكذا عاداً اكثر من 10 اصناف للطعام" فقال الحافظ "انطيني قطعة لحم صغيرة وكبة حلب وحدة" ولما ساله ابي لما رفض الاكل وامامه مائدة عامرة اجاب بصوته الجهوري "عمو لؤي اني وجبت الزاد لخاطركم لكن اني احب اكل في بيتي على راحتي"
يردف والدي ان الحافظ تعرض لمحاربة من قبل العديد من القراء والشخصيات داخل وخارج الاذاعة، شخصيته قوية ويترفع عن الكثير باللهجة البغدادية "رجال عالي جناب وكبار لغ" وانه له مقدرة لايملكها غيره.
أصاب الحافظ مرض عضال لم يمهله طويلا فتوفي يوم الأربعاء الخامس من يوليو عام 2000 فكان ذاك اليوم حزيناً على محبي وعاشقي هذا الصرح الكبير،حزنت يومها كل مساجد ومنابر ومآذن العراق فقد ذهب الصوت الذي كان يجلجل فيها ويصدح بحنجرته الذهبية في رحابها، شيعت بغداد في اليوم التالي قارئها الاول من جامع المعز تشييعاً مهيباً إلى مثواه الأخير في مقبرة الكرخ.
الذي اراحنا بالقرءان لعقود توفي وفي قلبه غصه على أسر ابنه مهنى الذي وقع في الأسر وكان يتمنى رؤيته قبل وفاته، قبل اشهر زرت قبره ووجدت روضة تنبت فوقه المزروعات وتضله نخله عالية دون باقي القبور المجاورة, فسبحان الذي جازاه بما قدمت يداه واحسن.
كسب قلوب الملايين
بكت بتلاوته العيون
وخشعت بصوته القلوب والجوارح
صوته يدور حيثما دارت ايات الله
رفيقه القرءان
لم ولن ينجب العالم قارئا بحجم خليل
كل القراء يستظلون بظله
ينهلون من نهره العظيم
وهبه الله مالم يهب احداً غيره
فكان ممن تلى كتاب الله حق تلاوته
قارئ للفقراء وللأغنياء
قارئ للملوك والرؤساء
هو طفرة بكل المقاييس
بوفاته انثلمت في المدرسة العراقية للقرءان الكريم ثلمة وانفرط عقدها الثمين
ومهما تكلمت عنه لن اعطيه حقه
رحلت عنا ياخليل بجسدك وبقي صوتك المهيب وقرائتك مادامت السموات والأرض
شاء الله ان يجعلك من الخالدين
شاءت ارادته ان يكون اسمك مقرونا بكتابه العزيز وهو شرف مابعده شرف
لن تجد مجلس عزاء في بغداد لايصدح فيه صوتك
ماذا اكتب عنك وكتاب الله يشهد لك
ماذا اكتب عنك وكل المساجد والمآذن والمنابر تشهد لك
لن ننسى فضلك
لن ننسى عطائك
خليل اسماعيل لن تموت ابداً
وكتاب الله يتلى بصوتك
كَالْأَرْضِ تَحْيَا إِذَا مَا الْغَيْثُ حَلَّ بِهَا
وَإِنْ أَبَى عَادَ فِي أَكْنَافِهَا التَّلَفُ
491 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع