"إن شكوت الهوى" أيقونة شاردة من التراث العراقي

                                                

                الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط

      

"إن شكوت الهوى" أيقونة شاردة من التراث العراقي

"إن شكوت الهوى" أنشودة كانت تُردد في مجالسِ الذكر الدينية في شمال العراق، وهي من الدُّرر المكنونة وتحمل في طيات كلماتها معاني عميقة ذات دلالات معنوية كبيرة.

كما أنها أغنيه غنتها الأجيال السابقة والمعاصرة، وتحمل في طياتها الرقة والعذوبة والحب والخيال. وهي موشح الطفولة والمدرسة والحفلات والسهرات والمناسبات، وهي نشيد الأعياد المغروسة في الوجدان.

يتميز هذا الموشح بمعانيه التي تحمل في طياتها الرقة والعذوبة والخيال، ويعتبره البعض مدرسة لكل المطربين.

يدور فلك هذا الموشح حول (الشكوى)، والشكوى تنافي دعوى المحبة، ومَن أحب أطاع؛ قال الإمام الشافعي رحمه الله:

تَعْصِي الإِله وَأنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ ... هذا محالٌ في القياسِ بديعُ
لَوْ كانَ حُبُّكَ صَادِقاً لأَطَعْتَهُ ... إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
في كلِّ يومٍ يبتديكَ بنعمة ٍ ... منهُ وأنتَ لشكرِ ذاكَ مضيعُ

وقال تعالى (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ) (النحل: 30). أي قيل للذين اتقوا التقوى الكاملة: ماذا أنزل ربكم من المقادير؟ قالوا: خيرًا، فكل ما ينزل بالذين اتقوا من قدر الله وقضائه، جلاليًا كان أو جماليًا، جعلوه خيرًا، وتلقوه بالرضا والتسليم. لا يتضعضعون ولا يسأمون، ولا يشكون لأحد سوى محبوبهم؛ لأن الشكوى تنافي دعوى المحبة.

لقد أنشد هذه الأنشودة بلحن قديم مختلف المنشد المصري يوسف خفاجي المنيلاوي (1850-1911 م). وقد تطورت هذه الأنشودة الدينية إلى أغنية عاطفية في العراق، وقد غناها أغلب الفنانين العراقيين القدامى منهم رشيد أفندي القندرجي (1886-1945) ومنيرة الهوزوز (1893-1995) ومحمود الكويتي (1904-1982) وفؤاد سالم (1945–2013) وآخرون، كما غناها عدد من الفنانين المعاصرين.

وعلى الرغم من أن هذه الأنشودة من التراث العراقي الأصيل، إلا أن هنالك جدل واسع حول مؤلفها وملحنها: فهنالك من ينسب الكلمات إلى الشاعر ابن النبيه المصري (1165- 1222م)، وهو أحد شعراء العصر العباسي والذي غنت أم كلثوم من قصائده: افديه إن حفظ الهوى، وقل للبخيلة بالسلام تودعا، أماناً أيها القمر المُطل.

وهناك من ينسبها إلى شاعر عراقي مغمور عاش في بغداد وتوفي فيها وهو في عز الشباب. وقد شاب هذه القصيدة تغييرات بالزيادة والنقصان من جراء التواتر الشفوي والتي مسّت بنيتها الوزنية والدلالية.

أما اللحن فهناك من ينسبه إلى الملا عثمان الموصلي (1854-1923م)؛ وهذا ليس ببعيد عن لون الملا عثمان؛ وخاصة إيقاع الأنشودة هو (إيقاع الجورجينا). وهنالك من ينسبه إلى عازف القانون العراقي يوسف زعرور (1902-1969م)، وهناك من ينسبه إلى آخرون.
وتذكر الباحثة الموسيقية ورئيسة مجلس أدارة موقع الوتر السابع السيدة فاطمة الظاهر أن: " إيقاع الجورجينا إيقاعاً عراقياً بحتاً وغير موجود (بشكله المتعارف عليه في العراق) في الموسيقى العربية لأغلب الدول العربية ولا في الموسيقى الغربية.. أول ظهور لإيقاع الجورجنينا في العراق كان في مدينة الموصل في نهاية القرن التاسع عشر وقد أستخدمه الملا عثمان الموصلي في أغلب تنزيلاته وابتهالاته الدينية وأشتهر استخدامه مع بدايات القرن العشرين حين أنتشر في مدينة بغداد فأبدع في التلحين فيه العديد من الملحنين البغداديين ودخل في أغلب البستات العراقية التي تعقب المقامات العراقية..".

الشاعر حمدون بن الحاج السلمي وقصيدته:
بعد البحث والتحري تبين أن أنشودة "إن شكوت الهوى" موجودة من ضمن قصيدة لشاعر مغربي من أهل فاس هو أبو الفيض حمدون بن عبد الرحمن بن حمدون السلمي المرداسي (1174 - 1232 هـ / 1760 - 1817 م)، المعروف بابن الحاج، وهو من شعراء العصر العثماني. وقد عرَّفه السلاوي (بالأديب البالغ، صاحب التآليف الحسنة والخُطب النافعة). وللسلمي كتب منها (حاشية على تفسير أبي السعود)، و(تفسير سورة الفرقان)، و(منظومة في السيرة) على نهج البردة؛ في أربعة آلاف بيت، وشرحها في خمس مجلدات، وغير ذلك.

النسخة الأصلية لقصيدة الشاعر حمدون بن الحاج السلمي هي:

اِلزَمِ الصَبرَ إِن تَعَشَّقتَ حُسناً... وَاِرتَضيهِ وَلَو تَهَشَّمت بينا
وَإِذا بُحتَ بِالصَبابَةِ قُلنا... إِن شَكَوت الهَوى فَما أَنتَ مِنّا
اِحمِلِ الصَدَّ وَالجَفا يا مُعنّى
*****
فَأَسيرُ الغَرامِ لَيسَ يُفَكُّ ... لا يَكُن فيهِ عِندَكَ الدَهرُ شَكُّ
وَالمَلَلُ في مِلّةِ الحُبِّ شِركُ ... تَدَّعي مَذهَبَ الهَوى ثُمَّ تَشكو
أَينَ دَعواكَ في الهَوى قُل لي أَينا
*****
فَاِجتَنِبنا إِذا كَرِهتَ جَفانا ... وَاِتّبِع مِن في حُبِّنا قَد تَوانا
وَاِترُكن أَمرَنا وَباعد بِهانا ... لَو وَجَدناكَ صابِراً لهَوانا
لَمَنَحناكَ كُلَّ ما تَتَمَنّى
*****

يذكر بعض الكُتاب أن الأبيات الثلاثة الأولى من المصدّر مقتطعة من قصيدة شهيرة من بحر الخفيف شاعت في البلاد العربية من المشرق إلى المغرب ولم يُعرف ناظمها على وجه الدقة، وقد شابتها تغييرات بالزيادة والنقصان من جراء التواتر الشفوي مسّت ببنيتها الوزنية والدلالية.

لذلك نجد هذه القصيدة في أكثر من رواية، وفي تونس تغنّى كقصيدة على النحو التالي:

إن شكوت الهوى فما أنت منّا ... احمل الصدّ والجفاء يا معنّى
لو وجدناك صابرا لبلانا ... لعطيناك كل ما تتمنّى
تدّعي مذهب الهوى ثم تشكو ... أين دعواك في الهوى يا معنّى
ما عشقناك للصفات ولكن ... نحن قوم إذا نظرنا عشقنا
*****
قم من النوم واطرد الهمّ عنّا ... يا مليحا إذا مشى يتثنّى
قم لقد قامت الطيور تغنّي ... أيكون الحمام اطرب منّا
تدّعي مذهب الهوى ثمّ تشكو ... أين دعواك في الهوى يا معنّى
ما عشقناك للصفات ولكن ... نحن قوم إذا نظرنا عشقنا
كنتَ مثل الحمام تألف ليلا ... صرتَ مثل الغزال تنفر عنّا
كلّما دارت الزجاجه درنا ... يحسب الجاهلون أنا جننّا

كيف وصلت القصيدة إلى العراق:
بعد أن توطدت علاقة المُلا عثمان الموصلي (1854- 1923م) مع السلطان عبد الحميد الثاني (1842-1909م)، كلفه السلطان بمهام سياسية. فقد طلب السلطان عبد الحميد من ملك ليبيا محمد المهدي السنوسي (1844-1902) إرسال قوة من رجاله من الأقطار البرقاوية الطرابلسية لمساعدة الدولة العثمانية في حربها ضد روسيا في شبه جزيرة القرم، إلا أنَّ السنوسي امتنع عن تنفيذ الطلب، مما جعل السلطان يُرسل المُلا عثمان لمعرفة المقاصد السياسية للسنوسي، فأكرمه السنوسي أجل إكرام ونجح المُلا عثمان في مهمته.

ولربما تكون قصيدة الشاعر حمدون بن الحاج السلمي من الآثار التي نقلها الموصلي إلى العراق والتي لحنها وأخذ يُرددها في المحافل الدينية حالها كحال العديد من آثاره الدينية والتي تم تحويرها إلى أغاني عاطفية أمثال (زُر قبر الحبيب مرة) والتي أصبحت (زوروني بالسنة مرة)، و (بهوى المختار المهدي) والتي أصبحت (طلعت يا محلى نورها)، و (يا صفوة الرحمن سكن فيكم غرامي) والتي أصبحت موشح (ربيتك صغيرون حسن ليش انكريتني).

ويذكر كبار السن أن (إن شكوت الهوى فما أنت منّا) كانت تُردد في المحافل الدينية كما كان بعض الخطباء يستشهدون ببعض أبياتها عند تفسير بعض الآيات الكريمة.

لقد أدت الفنانة (فاطمة الظاهر) رئيسة مجلس أدارة موقع الوتر السابع موشح " إن شكوت الهوى" في العام 2002 عندما كانت طالبة في كلية الفنون الجميلة في جامعة بغداد بالاشتراك مع الفنان (يوسف عزيز) ضمن احتفالية جامعة بغداد في ذكرى تأسيسها الرابع والأربعون. كما أنشده الفنان الراحل جعفر حسن (1944-2021) في مئوية الشاعر محمد مهدي الجواهري (1899-1997).

لقد قررت الفنانة العراقية المغتربة في هولندا (نادين عامر) أن تسبح عكس التيار السائد في الأغاني الحالية وتؤدي موشح (إن شكوت الهوى فما أنت منّا) وتُبدع فيه، لتتجلى أصالة التراث العراقي الخالد والمتدفق العطاء.

https://www.youtube.com/watch?v=VpIrFr-rCeg

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

440 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع