إعداد وحوار / احمد الحاج
((سلسلة نور المشكاة في الرد على أبرز الشبهات)) ...الحلقة (٤)
مع استاذ الفقه المساعد بجامعة الازهر / الدكتور حلمي الفقي
قال تعالى : "إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ".
برزت في الآونة الأخيرة وبشكل جلي وغير مسبوق ظاهرة التشكيك بثوابت الإسلام ورموزه ومقدساته وشخوصه وبطريقة مستفزة للغاية عبر العديد من القنوات والمواقع والصحف العربية المعروفة ومن خلال برامج يقدمها ما يسمى بـ" القرآنيين الجدد" ،بهدف فصل السنة النبوية عن القرآن الكريم تماما ، وقد وصل الحال بهم الى إنكار السنة النبوية "الفعلية والقولية والتقريرية"جملة وتفصيلا والتشكيك بكل كتب الحديث النبوي وما تضمه بين دفتيها من الأحاديث المتواترة الصحيحة والحسنة على سواء، بزعم انها مؤامرة على القرآن الكريم حدثت في مكان وزمان ما ، فضلا على شبهات أخرى يثيرها ما يسمى بـ " التنويريين والمستشرقين والشعوبيين الجدد" من خلال ذات الفضائيات علما بأنه والى وقت قريب كانت تلكم الشبهات تثار بين الفينة والأخرى..هنا وهناك ..في هذا المؤتمر أو ذلك المؤلف ،من دون أن تسلط عليها الأضواء الكاشفة ، وبتوقيتات متباعدة نسبيا ، ما جعلنا تتراخى في الرد عليها ونغض الطرف عنها إجمالا ، بعضنا أغفل الرد تكاسلا ، وبعضنا تقاعسا ،وبعضنا لعدم علمه بما يجري من حوله أساسا ، ولسان حاله ،وربما مقاله أيضا يردد قول المتنبي:
انام ملء جفوني عن شواردها ...ويسهر الخلق جراها ويختصم
بعضنا تريث قليلا من باب "أميتوا الباطل بالسكوت عنه"،الا ان الملاحظ بأن الظاهرة أخذت تتنامى وتتسع وتتصاعد وتتسارع بشكل مريب ، باطراد مع ظهور الفضاء السيبراني ومنصات التواصل والاتصال ، لتثار بشكل شبه يومي، بمناسبة ومن دون مناسبة ،في عالم قد تحول الى قرية صغيرة ، فما يثار في الصين من شبهات يصل الى بغداد قبل أن يقوم أحدنا من مقامه ، وقبل أن يرتد اليه طرفه ، مع الحرص على تضخيمها إعلاميا، ونشرها على أوسع نطاق ممكن، حتى صار سفهاء الاحلام ،وحدثاء الأسنان ، يلوكونها و يتناقلونها فيما بينهم ، الأمر الذي ألزمنا الحجة بالرد على بصيرة وبالحكمة والموعظة الحسنة ، وعدم غض الطرف أكثر بما قد يفسره المشككون أنفسهم فضلا عن المتأثرين بغثاء ما يهرفون وبما لايعرفون ،بتفسيرات خاطئة لا تحمد عقباها ، ولات حين مندم .
وبناء على ما تقدم وبعد التوكل على الله تعالى وحده ، ها نحن نطلق ((سلسلة نور المشكاة في الرد على أبرز الشبهات)) دفاعا عن حياض ديننا الحنيف ، وعن رموزنا ، ومقدساتها ،وثوابتنا، صونا لشبابنا ، وحماية لعقولهم من عبث العابثين ، وأباطيل المبطلين،وأراجيف المرجفين لنرد من خلالها ونبدأ حلقتنا الثانية بالرد على شبهات حول السنة النبوية المطهرة ومن الله التوفيق في حوار شائق مع الدكتور حلمي الفقي ، أستاذ الفقه المساعد بجامعة الازهر :
* اذا كان القرآن الكريم قد جاء مبينا (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء) ومن غير تفريط (ما فرطنا في الكتاب من شيء )، فعلام يحتاج المسلمون عبر التاريخ إلى السنة النبوية القولية والفعلية والتقريرية ، نود من جنابكم هاهنا بيان " حجية السنة " بأدلة واستدلالات مستنبطة من القرآن الكريم ، ليكون الناس على بصيرة فيما يتعلق بشبهات المستشرقين والقرآنيين الجدد ممن يحاولون فصل السنة عن القرآن الكريم وبشتى الوسائل والطرق ومنها زعمهم بعدم حجية السنة ،ودعوتهم إلى الاكتفاء بالقرآن الكريم لتلقي الأحكام فحسب.
- أقول وبالله التوفيق إن القرآن الكريم كما عرفه العلماء هو : كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وهو «نوره المبين الذي أشرقت له الظّلمات، ورحمته المهداة التي بها صلاح جميع المخلوقات، والسبب الواصل بينه وبين عباده إذا انقطعت الأسباب، وبابه الأعظم الذي منه الدخول فلا يغلق إذا غلّقت الأبواب، وهو الصراط المستقيم الذي لا تميل به الآراء، والذّكر الحكيم الذي لا تزيغ به الأهواء، والنّزل الكريم الذي لا يشبع منه العلماء؛ لا تفنى عجائبه، ولا تقلع سحائبه، ولا تنقضي آياته، ولا تختلف دلالاته، كلما ازدادت البصائر فيه تأملا وتفكيرا زادها هداية وتبصيرا، فهو نور البصائر من عماها، وشفاء الصّدور من أدوائها ، وحياة القلوب، ولذة النفوس.
ويقول النبي ﷺ عن القرآن الكريم فى الحديث الذى رواه عنه ، علي بن أبي طالب وأخرجه الترمذي والدارمي وغيرهما :
{ كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: {إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد} [الجن: 2] من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم }
والقرآن الكريم هو المصدر الأول للتشريع في دين الإسلام ، وقد تكفل تبارك وتعالى بحفظه من عبث العابثين وتحريف المحرفين ، قال تعالى { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } ( الحجر : 9 )
والسنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع لأن السنة هي المفسرة للقرآن والمبينة له ,
وقد دل علي وجوب اتباع السنة القرآن الكريم نفسه والآيات التي تدل على ذلك كثيرة جدا منها :
1 - يقول الله تبارك وتعالى فى كتابه الحكيم : { وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } ( الحشر :7)
2 - وقال تعالى : { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي } ( النجم : 3 ،4 )
3 – قال تعالى : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } ( النساء : 80)
4 – وقال تبارك وتعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } ( النساء : 59 )
5 – ويقول سبحانه وتعالى: { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} ( ال عمران: 32)
6 – ويقول عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) (الأنفال : 20)
7 – ويقول سبحانه وتعالى : { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (النور :54)
8 – ويقول أيضا تبارك وتعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (النور : 33)
9 – ولكي يكون الأمر واضحا فقد حذر ربنا تبارك وتعالى من مخالفة رسول ﷺ ، وتوعد من عصاه بالخلود في النار فقال تعالى : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }(النور :63)
10 – جعل الله تبارك وتعالى طاعة رسول الله ﷺ من لوازم الإيمان ، ومخالفته من أدلة النفاق وأماراته فقال تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتّى يحكمُّوك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مـمّا قضيت ويسلموا تسليما } ( النساء : 65 )
11 – أمر المولى تبارك وتعالى عباده المؤمنين بالاستجابة لله والرسول فقال عز من قائل : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول } ( الأنفال : 24 )
12 – أمر الخالق سبحانه وتعالي المسلمين برد ما اختلفوا فيه إلى الله والرسول ، فقال تعالى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } ( النساء : 59 )
ودلت أحاديث كثيرة من سنة النبي ﷺ على وجوب اتباع السنة ، وأجمع علماء الإسلام على حتمية اتباع السنة بلا مخالف في أي عصر من العصور .
ولهذا قال علماؤنا إن اتباع السنة فريضة واجبة كاتباع القرآن تماما ، ومن أنكر السنة فقد ارتكب خطأ فادحا ، وإثما كبيرا .
* لماذا تثير الدعوة الى "غربلة التراث وتنقيته من بعض ما علق به من ضعيف وربما موضوع عند بعضهم "حفيظة المؤسسات الدينية عامة ،عادة اياها بمجملها محاولة للعبث بالسنة النبوية المطهرة و لغايات خبيثة ؟
- إن تنقية التراث وغربلته من الضعيف والموضوع ، مهمة قائمة علي قدم وساق منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام فنحن المسلمين لدينا علم السند ، أو علم الجرح والتعديل ، ومهمته تنقية التراث وغربلته ، ونحن سادة العالمين في هذا الفن ، فنحن من ابتكرناه ، ولقد سبقنا الدنيا كلها بأكثر من 1400 عام في مهمة تنقية التراث وغربلته ، وهل البخاري إلا واحدا من أعلام هذا الفن ، وهل كانت مهمته إلا تنقية التراث وغربلته ، وانتقاء الصحيح كما ينتقي أحدنا أطايب الثمر .
وعلى الجميع رفع القبعات احتراما وإجلالا وإكبارا لعلماء الجرح والتعديل من المسلمين الذين ابتكروا هذا العلم ، و تفردوا به ، وما زالوا هم أساطينه وعباقرته ممن لا نظير لهم في دنيا الناس حتى يومنا هذا.
وما زلنا وسنبقى نرحب بأي دعوة علمية لتنقية التراث ، شريطة أن تكون صادرة من أرباب الصنعة والعلم ، ولا بد أن تكون قائمة على أساس علمي .
* واحدة من الشبهات المثارة على الدوام هي شبهة هي " عدم تدوين السنة النبوية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم " وقد نهاهم عن تدوينها خشية اختلاطها بالقرآن الكريم ،او لعدم وجود من يجيد الكتابة انذاك الا القلة القليلة من الصحابة وقد تفرغوا لكتابة القرآن الكريم بدلا من ذلك ، ولم يشغلهم النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة السنة حتى لايختلط عليهم الامر ويتداخل، ولم تدون بعد ذلك الا في عهد الامام الزهري- رسميا - وبأمر من الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز في القرن الثاني للهجرة ، ومن ثم توقفت في القرن الخامس ليبدأ عصر نقد السند والمتن بما عرف بعلم الجرح والتعديل وعلم الرجال ، وقد رد بعضهم على هذه الشبهة بأن تدوين الحديث لم يبدأ على يد الزهري اذ سبقه الى ذلك من دونَّ الاحاديث النبوية منذ عصر النبوة ومنها رسائل النبي الاكرم صلى الله عليه وسلم الى الملوك والقياصرة ، وبعض الخطب النبوية ، واحكام الدية والقصاص ، ومن المدونين عبد الله بن عمرو ، وانس بن مالك ، وسمرة بن جندب ،كذلك ابن عباس وغيرهم ..ماهو رأيكم في الاحتجاج بعدم الالتفات الى السنة النبوية لتأخر مدة التدوين ولفترة طويلة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ما يشكك بصحة الكثير مما ورد فيها بوجود الوضاعين وأصحاب الغرض وأمثالهم ؟
- صحيح أن النهي ورَد عن كتابة الحديث في أول الإسلام، ولكن كان ذلك خشية من اختلاطه واشتباهه بالقرآن، وليأخُذ القرآنُ الكريم مجالَه الرَّحْب في صدورهم وسطورهم، ثم نُسِخ الأمرُ بعد ذلك، بل أصبح من المندوب تقييد العلم وكتابته، ولا أشرف من العلم الذي يتلفَّظ به الرسولُ عليه الصلاة والسلام، والدليل على نسخ النهي ما ورد من أحاديث صحيحة ثابتة , فقد حضَّ النبي ﷺ على الكتابة، وثبَت في السُّنَّة الحَضُّ على كتابة العِلْم وتدوينه، فعندما خطب النبي ﷺ في فتح مكة، قام أبو شاه اليماني ، وهو رجلٌ من أهل اليَمَن، فقال: اكتبُوا لي يا رسول الله.
وقد سأل الأوزاعي: ما قوله: اكتُبوا لي يا رسول الله؟ قال: هذه الخُطْبة التي سَمِعَها من رسول الله ﷺ، .
وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قيِّدُوا العِلْم بالكِتابة)).
وروى رافع بن خديج رضي الله عنه حديثًا يقول فيه، قال: قلنا يا رسول الله، إنا نسمَعُ منكَ أشياءَ، أفنكتُبُها، قال: ((اكْتُبُوا ولا حَرَجَ))، ونحوه من حديث عبدالله بن عمرو مرفوعًا، وأسند الخطيب عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال لرجُلٍ من الأنصار لا يحفَظُ الحديث: ((استَعِنْ بيمينِكَ)).
وفي أحاديث عبدالله بن عمرو من مسند الإمام أحمد نجد أربع روايات صحيحة تُثبِتُ هذه الكتابة، منها قوله: كنت أكتُبُ كلَّ شيء أسمَعُه من رسول الله ﷺأريد حِفْظَه، فنهتْني قريش، فقالوا: إنك تكتُب كلَّ شيء تسمَعُه من رسول الله ﷺ ، ورسولُ الله ﷺ يتكلَّم في الغَضَب والرِّضا، فأمسكْتُ عن الكتاب، فذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((اكْتُبْ، فوالذي نفسي بيده ما خرَج منِّي إلَّا حَقٌّ))، وفي رواية: ((ما خَرَجَ منه إلَّا حَقٌّ))، وفي رواية ثالثة: ((فإنه لا ينبغي لي أن أقولَ في ذلِكَ إلَّا حقًّا))، وفي الأخيرة من الرِّوايات الصحيحة: ((.... فإنِّي لا أقول فيهما إلا حقًّا)).
وقد ورد عند أبي داود والترمذي، وأحمد في المسند بأسانيد صحيحة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "ليس أحد من أصحاب رسول الله ﷺأكثرَ حديثًا عن رسول الله ﷺ مني، إلَّا عبدالله بن عمرو، فإنه كان يكتُب، وكنت لا أكتُب"، وفي هذا دليل على أنه كان يكتُبُ كلَّ ما سمِعَه من النبي ﷺ ويقُوم بتدوينه، وهذه الرِّواية لم ينفرِد بها البخاري؛ بل ثبَتت أيضًا بأسانيدها الصحيحة المتصلة في سُنَن أبي داود والترمذي، ومسند أحمد، وهي ثابتة في صحيفة همام بن منبِّه التي نقلها مُشافهةً من سَماعِه لأبي هريرة، وقد بلغ عدد أحاديث صحيفة عبدالله بن عمرو ، ألفَ حديثٍ، وكان يُسمِّيها بالصادقة، وقد انتقلت إلى حفيده عمرو بن شعيب، وروى الإمام أحمد في مسنده جُزءًا كبيرًا منها؛ بل لربما استوعبها كاملةً في مسنده، وروى كذلك البخاري ومسلم بعضًا منها، وتناقَلَها أولادُه وذريَّتُه من بعده، ونالت جانبًا كبيرًا من الرعاية والحِفْظ والتداوُل والنَّقْل والدِّراسة ، والخلاصة : أن تدوين السنة النبوية بدأ فى حياة النبي ﷺ، وبأمر مباشر منه .
* هل إن ما نقرأه اليوم من أحاديث نبوية جاءت بمعنى وحكم ومضمون نبوي شريف الا انها بمبنى صاغه ونقله لنا الرواة والمحدثون انفسهم ، ام انها هكذا وردت على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ؟
- اختلف العلماء في مسألة رِواية الحديث بالمعني إلى فريقين: فريق يرى أنَّه لا تجوز رِواية الحديث بالمعنى، وأنَّه ينبغي للرَّاوي تأدية الذي سمِعه بحروفه دون تدخُّل منه، وفريق يرى جوازَ ذلك بشروطٍ اختلفوا فيها اختلافًا بيِّنًا.
وقد استدلَّ كلُّ فريق بأدلَّةٍ عقليَّة ونقلية لتأييد مَذهبه، غير أنَّهم اتَّفقوا على أنه لا يجوز للجاهِل بمعاني المفردات والأساليب العربيَّة روايةُ الحديث على المعنى.
وخلاف العلماء في مَسألة الرواية بالمعنى، فيما قبل عصر التدوين، أمَّا بعد تدوين الحديث وكتابتِه في المصنَّفات، فلا خِلاف بين العلماء في عدم تجويزه.
قال ابن الصلاح: "ثُم إنَّ هذا الخلاف لا نراه جاريًا - ولا أجراه النَّاسُ فيما نعلمُ - فيما تضمَّنَته بُطون الكُتب، فليس لأحدٍ أن يُغيِّر لفظَ شيءٍ من كتابٍ مُصنَّفٍ، ويُثبت بدله فيه لفظًا آخر بمعناه؛ فإنَّ الرِّواية بالمعنى رخَّص فيها مَن رخَّص؛ لما كان عليهم في ضبط الألفاظ والجُمود عليها من الحرج والنَّصَب، وذلك غيرُ موجودٍ فيما اشتملَت عليه بطونُ الأوراق والكُتب، ولأنَّه إن ملك تغيير اللَّفظ، فليس يملكُ تغيير تصنيف غيره، والله أعلم؛ إذًا الكلام وخِلاف العلماء فيما قَبل التصنيف، أمَّا بعده، فلا "
والراجح من قولي العلماء هو جواز الرواية بالمعنى ، قال الحافظ ابن حجر في شرح النخبة: "وأما الرواية بالمعنى فالخلاف فيها شهير، والأكثر على الجواز أيضًا ومن أقوى حججهم الإجماع على شرح الشريعة للعجم بلسانهم للعارف به. فإذا جاز الإبدال بلغة أخرى فجوازه باللغة العربية أولى "
وروي عن الحسن البصري أنه قال " ومن حجتهم كذلك أن الله تعالى قد قص من أنباء ما قد سبق قصصًا كرر ذكر بعضها في مواضع مختلفة بألفاظ مختلفة، والمعنى واحد ونقلها من ألسنتهم إلى اللسان العربي، وهو مخالف لها في التقديم والتأخير والحذف والزيادة " ، وروي أيضا هذا القول عن الرامهرمزي .
ولكن ترجيح الرواية بالمعني مشروط بأن يكون الراوي عارفا بلغة العرب ، لئلا يبد لفظا يغير المعنى ، ويوهم غير المراد ، وأن لا يكون ذاكرا للفظ الحديث ، فإن كان ذاكرا للفظ الحديث لم تجز الرواية بالمعنى . والله أعلم .
* من الشبهات التي تثار بين الحين والاخر ،مسألة الأحاديث التي وردت في الوصية والميراث على وصفهم ، ومن شبهاتهم الأحاديث التي تعارضت - بزعمهم - مع نصوص القرأن الكريم ومنها " مسألة نجاسة ريق الكلب، حديث الميت يعذب ببكاء أهله عليه ، مع أن لا تزر وازرة وزر أخرى ، وارضاع الكبير ، ونحوها ، نتمنى عليك توضيح هذه المسائل والرد على تلكم الشبهات .
- أولًا :
لا يمكن وجود تعارض بين آية وأخرى ، ولا بين حديث وحديث ، ولا بين آية وحديث ، لأن الله تعالى قال : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } ( النساء/82 ).
قال " الشاطبي " في " الاعتصام " (3/ 272): " لا تضاد بين آيات القرآن ، ولا بين الأخبار النبوية ولا بين أحدهما مع الآخر، بل الجميع جار على مَهْيَع واحد، ومنتظمٌ إلى معنى واحد، فإذا أداه بادئ الرأي، إلى ظاهر اختلاف: فواجب عليه أن يعتقد انتفاء الاختلاف، لأن الله تعالى قد شهد له أن لا اختلاف فيه، فليقف وقوف المضطر، السائل عن وجه الجمع، أو المسَلِّم من غير اعتراض، إن كان الموضع مما لا يتعلق به حكم عملي. فإن تعلق به حكم عملي، التمس المخرج حتى يقف على الحق اليقين، أو يبقى باحثا إلى الموت، ولا عليه من ذلك، فإذا اتضح له المغزى، وتبينت له الواضحة، فلا بد له من أن يجعلها حاكمة في كل ما يعرض له من النظر فيها، ويضعها نصب عينيه في كل مطلب ديني، كما فعل من تقدمنا ممن أثنى الله ورسوله عليهم " انتهى.
وإذا حصل إشكال في فهم بعض الناس، فإن العلماء يلجأون إلى طرق لدفع الإشكال، منها:
1- تحرير وجه الإشكال .
2- معرفة سبب النزول .
3- رد المتشابه إلى المحكم، وإلى العالم به مع الإيمان والتصديق .
4- جمع الآيات ذات الموضوع .
5- النظر في السياق .
6- تلمس الأحاديث والآثار الصحيحة لدفع الإشكال .
7- إعمال قواعد الترجيح .
فهذه طريقة أهل العلم قديماً وحديثاً، أما طريقة أهل الأهواء بالتكذيب والرد لما يظنونه لا يدخل عقولهم وطريقتهم هذه مبتدعة ومتناقضة، وقد توصلهم إلى الكفر إن أعملوها في نصوص القرآن الكريم، وهم إنْ لم يُعملوها في القرآن وأعملوها في السنة فقد تناقضوا؛ فإن القرآن والسنة الصحيحة كلاهما وحي وكلاهما حق .
وأما بالنسبة لحديث رضاع الكبير :
فحديث رضاع الكبير جاء في الشرع مقصورًا على حالة واحدة، هي حالة سالم مولى أبي حذيفة، والقصَّة كما جاءت في صحيحِ مسلم والسُّنن: "أن أبا حذيفة كان قد تبنَّى سالِمًا، وكان مَن تبنَّى رجلاً في الجاهلية دعاه الناس إليه، وورث ميراثَه، حتى أنزل الله - سبحانه وتعالى - في ذلك قوله: ﴿ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ﴾ (الأحزاب: 5)
فلما أُلغي التبنِّي صار أبو حذيفة يجد حرَجًا من دخول سالم إلى بيته وزوجتُه فيه؛ حيث إنه لم يعُدِ ابنًا لها؛ ولهذا اشتكت سهلةُ إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقالت: إن سالمًا قد بلغ ما يبلغ الرجال، وعقَل ما عقَلوا، وإنه يدخل علينا، وإنِّي أظن أنَّ في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئًا، فقال لها النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: (( أرضعيه تحرُمي عليه، ويذهب الذي في نفس أبي حذيفة" فرجعت فقالت: إنِّي قد أرضعتُه، فذهب الذي في نفس أبي حذيفة" فهي حالة خاصَّة في ظروف خاصة.
ولكن هل يوجد تعارض هنا بين الحديث الشريف الصحيح وبين القران الكريم ، لا يوجد أدنى تعارض , ولا يوجد شبهة تعارض ، كيف ذلك والقران الكريم يخبرنا ان الرضاع لا يكون الا دون الحولين ، واكثر من حديث صحيح يقول بهذا ، ففي الحديث { إنما الرضاعة من المجاعة } وفى حديث آخر عند أبي دواد والدار قطني وغيرهما عن ابن مسعود { لَا رِضَاعَ إِلَّا مَا شَدَّ الْعَظْمَ وَأَنْبَتَ اللَّحْمَ} ، وهذا يفيد أن الرضاعة التي يثبت بها التحريم لا بد وان تكون دون الحولين ،
فهل حديث رضاع الكبير يتعارض مع هذه النصوص الشريفة ؟ لا ، لا يتعارض ، كيف نفهم ذلك ، أولا : لم يقل أحد من العلماء إطلاقا أن سهلة بنت سهيل بن عمرو أرضعت سالما مولي أبي حذيفة بأن ألقمته ثديها في فمه ، جاء في ترجمه سهلةَ في "الطبقات الكبرى" لابن سعد، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر أنها: "كانت تحلُب في مِسعط أو إناء قدرَ رضعتِه، فيشربه سالم في كلِّ يوم حتى مضت خمسة أيام، فكان بعدُ يدخل عليها وهي حاسر؛ رخصةً من رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم – لسهلة.
بل إنَّ الإمام ابنَ عبدالبر قد نقل اتفاق العلماء على عدم جواز أن تكون الرضاعةُ هنا بالتقام الثدي، حيث قال: "هكذا إرضاعُ الكبير كما ذُكر: يُحلَب له اللبن ويُسقاه، وأما أن تُلقمه المرأةُ ثديها كما تصنع بالطفل، فلا؛
وللعلماء ثلاثة أوجه في توجيه حديث رضاع الكبير ذكرها ابن القيم في زاد المعاد : قيل إنه منسوخ ، وقيل هي حالة خاصة بسالم فقط ، وقيل هي حالة خاصة لمن يجد ضرورة فى الدخول عليهن كحالة سالم .
وحكى ابن عبد البر في التمهيد إجماع العلماء علي عدم جواز رضاع الكبير وأن هذه حالة خاصة بسالم ولا تجوز لأحد بعده ، والله أعلم .
وأما بالنسبة لحديث الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها ،فقد ذكر الله سبحانه وتعالي المحرمات من النساء في قوله تعالي :
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } (النساء : 23 ، 24 )
وقوله تبارك وتعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } عام يفيد حل كل النساء التي لم يرد تحريمها فى الآية الكريمة ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها» وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها لم يرد فى الاية الكريمة ، ولكن هذا من باب تخصيص العام ، وجمهور الأصوليين على أن السنة تخصص العام في القرآن وفي السنة .
وخلاصة الأمر نقول مستعينين بالله : إذا ورد ما يوهم التعارض فى نصوص القرآن والسنة والعلماء الأجلاء وضعوا قواعد تعرف بقواعد التعارض والترجيح نصير إليها ونأخذ بها ،ومن أهم هذه القواعد ما يلي :
وليس لدينا في ديننا أي تعارض بين النصوص ، ولا حتي شبهة تعارض ، وهذه الشبه التي أوردها البعض ليست ناتجة إلا عن سوء نية أو قصور فهم .
* من الشبهات التزويرية والاستشراقية شبهة" قولهم بتعارض بعض الأحاديث النبوية مع بعض ما ورد في كتب الطب التجريبي الحديث " ويوردون أحاديث عدة نحو : {غمس جناحي الذبابة }، {العلاج بالحبة السوداء ،بالكمأ }، {العلاج بأبوال الابل} ،بالعود الهندي ، بالاثمد ، بالعسل ، بالحجامة ،بالرقية الشرعية "فهل أن تعارض بعض الأحاديث النبوية مع بعض العلوم ظاهريا يدفعنا الى شطبها ، تصحيحها ،ركنها جانبا ؟
*في أطروحتي للدكتوراه والتي كانت بعنوان مدى مشروعية إجراء التجارب الطبية على الإنسان والتي نوقشت بجامعة الأزهر بالقاهرة فى العام 2010م تم التأكيد فيها على أن الإسلام يرحب بالجديد النافع في كل ميادين الحياة وخاصة في مجال الطب ، وأن الإسلام يحث ، ويشجع أهل كل فن ، وأهل كل علم على التجديد والابتكار في المسار العلمي الذي يراه أهل كل علم هو الأنفع والأصلح لعلمهم وفنهم ، هذا على العموم ، وبالأخص في مجال الطب فالإسلام يشجع الأطباء علي تطوير علمهم حسب القواعد العلمية المعتبرة عالميا ، والتي يراها أكابر أطباء العالم بصرف النظر عن دينهم وقوميتهم وجنسهم ، والإسلام يوجب علي الأطباء أن يبذلوا قصارى جهدهم في ابتكار العلاجات والأدوية للأمراض التي لم يهتد العلم لعلاج ناجح لها حتى حينه ، وأما هذه الأحاديث التي وردت في السؤال مثل {غمس جناحي الذبابة }، {العلاج بالحبة السوداء ،بالكمأ }، {العلاج بأبوال الابل} ،بالعود الهندي ، بالاثمد ، بالعسل ، بالحجامة ،بالرقية الشرعية "
فنعب على ذلك بالاتي :
1 – الإسلام أمرنا بالتداوي بما ينصح به الأطباء المتخصصون في الطب ويأمرنا بأن نسأل أهل كل علم ، وأهل كل فن عن فنهم وعلمهم فيقول تعالى : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون }.
2 – هذه الأحاديث ليست للوجوب ولم يقل أحد من أهل العلم بالشرع بوجوب غمس الذبابة أو بوجوب التداوي بأبوال الإبل ، فمن عافت نفسه الشراب أو الطعام الذي وقعت فيه الذبابة فله طرحه بلا أية كراهة في ميزان الشرع ومن قبلت نفسه غمس الذباب قله ذلك .
3 – لم يثبت من خلال الأبحاث العملية لأطباء وعلماء ليسوا مسلمين وفي بلاد غير إسلامية ما يتعارض مع ما جاء في الاحاديث النبوية الشريفة . والله أعلم
* ومن الشبهات التي تثار بين الحين والأخر الزعم بتعارض وتناقض واختلاف أحاديث نبوية واردة في كتب السنة والصحاح وغيرها مع احاديث اخرى من السنة ذاتها ، نحو ( لا يوردن ممرض على مصح ) و{ فرَّ من المجذوم فرارك من الأسد }المتعارض بوصفهم مع حديث {لا عدوى ولا طيرة } ، وحديث{ والله لا يؤمن، من لا يأمن جاره بوائقه} المتعارض بزعمهم مع حديث " الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" ..نرجو توضيح ذلك وفك اللبس والرد على الشبهة .
- قلنا كما قال سلفنا الصالح عبر العصور والدهور : لا تعارض بين آية وآية ،ولا بين آية وحديث ، ولا بين حديث ، وحديث , هذا ما استقر عليه الفكر الإسلامي الرشيد بلا أدني خلاف ، فما ورد مما ظاهره التعارض فمرده إلى الفكر السقيم أو إلى الذهن المريض ، أو الى خبث نية ، وسوء طوية ، ونقول وبالله التوفيق ، مستمدين من ربنا التوفيق والسداد ، والهداية والرشاد :
قد يتوهم بعضهم بوجود تعارض ظاهر فى قول النبي ﷺ: ( لا يوردن ممرض على مصح ) وقوله عليه الصلاة والسلام :{ فرَّ من المجذوم فرارك من الأسد }وبين قوله ﷺ: {لا عدوى ولا طيرة } .
أولا : حديث :( لا يوردن ممرض على مصح ) وحديث :{ فرَّ من المجذوم فرارك من الأسد }المتعارض مع حديث {لا عدوى ولا طيرة } ، يوضحان قواعد الحجر الصحي التي يجب أن يلتزم بها المجتمع – أفرادا وجماعات - أثناء الجائحات الوبائية والامراض المعدية التي تصيب الأمم والشعوب فتفتك بها ، وتوهن قواها ، وتذهب بالكثير من خيرة شبابها وفلذات أكبادها ، وهذا ما رآه العالم في كثير من الأمراض المعدية والتي كان من آخرها وباء كورونا .
وقواعد الحجر الصحي التي بينتها السنة النبوية تعد من أفضل سبل الوقاية ، ومن أنجع طرق مقاومة الأوبئة المعدية ، والإسلام يوجب علي المسلم أن يكون حريصا علي صحة غيره من الأفراد كما يحرص علي صحة نفسه وولده ، ويجب على المسلم أن يكون حريصا أشد الحرص على محاربة المرض ومحاصرته ومنع انتشاره ، ويجب على المسلم أن يحافظ على صحة غير المسلم كما يحافظ على صحة المسلم سواء بسواء ، لأن النبي ﷺ يقول في الحديث الشريف { لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه } والمراد بأخيه هنا في الحديث ، اضافة الى مرادها المتعارف عليه، الاخوة في الإنسانية ايضا كما نص على ذلك النووي في شرح مسلم.
ولكن هل يوجد تعارض بين هذين الحديثين وحديث { لا عدوى ولا طيرة } ، لا يوجد أي تعارض ، فكلمة لا عدوى الواردة في الحديث ليس معناها نفي العدوى كما يتوهم بعضهم ، ولكنه خبر بمعنى النهي ، أي لا يتسبب أحد بعدوى غيره .
فالمعنى المراد من الحديث : نهي للمسلم عن أن يتسبب فى إيذاء غيره بعدوى ، أو بأي مرض معد، ففي الحديث أمر للمسلم بأن يلتزم بالمحافظة علي صحة أخيه الإنسان ، وألا يتسبب فى مرض يعدي أخاه ، والله أعلم .
*هناك شبهة يجعلها بعضهم ذريعة لعدم الآخذ بالسنة بزعم أن معظمها أخبار آحاد ولم يتواتر منها سوى 17 حديثا فقط ، ومنهم من شط بعيدا ليجعل المتواتر منها واحدا فقط الا وهو حديث (مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)، ومنهم من طالب بتأويل أحاديث السنة النبوية على ظاهرها دفعا للتعارض ، وبزعم الحفاظ على الدين وتنقيته مما لحق به ..ماهو ردكم ؟
- السنة النبوية فيها أكثر من أربعة آلاف حديث صحيح ، وهذا الرقم وفقا لعلماء الحديث العارفين بأصول علم الجرح والتعديل ، أما من يقولون بأن الحديث الصحيح سبعة عشر حديثا فقط ، فهذا القول لم يذهب إليه واحد قط من علماء الحديث المعتبرين ، فضلا عن أن يكون الصحيح حديث واحد فحسب ، فهذا شطط كبير ، وخطأ عريض، يهدف إلى محاربة الإسلام وليس السنة .
وأما تأويل أحاديث السنة على ظاهرها دفعا للتعارض ، وحفاظا على الدين وتنقيته ، فالتأويل والتوفيق بين الأحاديث علم قديم ، فلدى المسلمين علم يسمى علم مشكل الحديث ، أو مختلف الحديث ، وأول من كتب فيه حسب علمي هو الإمام الشافعي بكتابه مختلف الحديث ، وكتب ابن قتيبة الدينوري كتابه تأويل مختلف الحديث ، وللإمام الطحاوي كتاب في هذا العلم يسمى مشكل الآثار ، فالتأويل والتوفيق يجب أن يخضع لمصادر الدين المعتبرة ، وقواعد الشرع الحنيف ، والأصول المتعارف عليها لدى العلماء الراسخين ، وليس بابا مفتوحا لكل من في قلبه مرض ، أو لديه هوى فى هدم الشرع ، والإتيان على الدين من أصله ، كما يفعل من يسمون أنفسهم بالقرآنيين . والله أعلم
* من شبهاتهم كذلك قولهم اذا كانت السنة النبوية بأهمية القرآن في الحكم والاستنباط وتسيير حياة المسلمين الى قيام الساعة ، فلماذا لم يتكفل الله تعالى بحفظها كما تكفل بحفظ القرآن الكريم كما في قوله تعالى: " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون".
- أرسل الخالق سبحانه وتعالى نبيه محمدا ﷺ بالهدى ودين الحق ، وأنزل المولى تبارك وتعالى القرآن على نبيه الكريم ﷺ وقال تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } والقرآن الكريم وحي من الله ، والسنة النبوية التي نطق بها محمد ﷺ وحي من الله كذلك
وقد وَكَلَ إلى نبيه صلى الله عليه وسلم مهمة البيان للقرآن ، فقال عز وجل : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) ، وقال: ( وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
فقامَ رسول الله ﷺ بذلك خير قيام : يُفَصِّلُ مُجْمَلَهُ ، ويُقَيِّدُ مطلقه ، ويشرح ألفاظه ، ويُوَضِّحُ أحكامه ومعانيه ، فكان هذا البيان منه ﷺ هو سُنَّتَه التي بين أيدينا .
ولما كان هذا البيان منه بياناً لكتاب الله ، فإنه كان مؤيداً في ذلك من الله عز وجل ، وكانت سُنَّتُه وحياً من عند الله ، كما قال سبحانه وتعالى : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى).
قال ابن حزم الظاهري في كتابه الإحكام في أصول الأحكام : " فأخبر تعالى أن كلام نبيه صلى الله عليه وسلم كله وحي ، والوحي بلا خلاف ذكر ، والذكرُ محفوظ بنص القرآن .
فصح بذلك أن كلامَه صلى الله عليه و سلم كلُّه محفوظ بحفظ الله عز وجل ، مضمونٌ لنا أنه لا يضيع منه شيء ، إذ ما حفظ الله تعالى فهو باليقين لا سبيل إلى أن يضيع منه شيء ، فهو منقول إلينا كله ".
قال ابن القَيِّم في كتابه مختصر الصواعق المحرقة : " فَعُلِمَ أَنَّ كَلَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدِّينِ كُلِّهِ وَحْيٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَكُلُّ وَحْيٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُوَ ذِكْرٌ أَنْزَلَهُ اللَّهُ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : ( وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) فَالْكِتَابُ : الْقُرْآنُ ، وَالْحِكْمَةُ : السُّنَّةُ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ) ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أُوتِيَ السُّنَّةَ كَمَا أُوتِيَ الْكِتَابَ ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ ضَمِنَ حِفْظَ مَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ ؛ لِيُقِيمَ بِهِ حُجَّتَهُ عَلَى الْعِبَادِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ ".
وإن من مظاهر هذا الحفظ لسنته صلى الله عليه وسلم : ما قام به علماء الإسلام وجهابذة من جهد ظاهر ، وعمل دؤوب مُضْنٍ ، في سبيل جمع هذه السنة وتدوينها ، ووضع القواعد التي تضبط روايتها ، وتحدد قبولها من ردها ، وتمحص أحوال نقلتها ورواتها .
فالسنة تكفل الله بحفظها ﷺ عن طريق هؤلاء الرواة الذين سخرهم لحفظ سنته .
قال الحافظ ابن رجب : " فأقامَ اللّهُ تعالى لحفظِ السُّنَّةِ أقواماً ميَّزوا ما دخلَ فيها من الكذبِ والوهم والغلطِ ، وضبطُوا ذلكَ غايةَ الضبطِ ، وحفظوه أشدَّ الحفظِ ".
وصفوة القول : أن السنة النبوية محفوظة بحفظ الله تعالى ،وكل ما صدر عن النبي ﷺ من قرآن أو سنة فهو ذكر والذكر محفوظ بحفظ الله تعالى
* هناك من يرد أحاديث علامات الساعة الصغرى والكبرى برمتها ويرفض الأخذ بها ،صحيحها وحسنها وضعيفها ، لأنها أحاديث آحاد ، داخلة فيما يسمى بعلم " الاسكاتولوجي " أو علم الاخريات أو أحداث آخر الزمان ، أو نهاية العالم ، ما تعقيبك على ذلك ؟
- أولا أحاديث علامات الساعة ليست كلها أحاديث آحاد بل فيها أحاديث صحاح كثيرة ، إخبار النبي ﷺ بعلامات الساعة ليس ادعاء للغيب ، بل هو من الغيب الذى علمه الله تبارك وتعالى لرسوله الكريم ، قال تعالى : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا } والنبي ﷺهو ممن ارتضى رب العالمين اطلاعهم على بعض الأمور الغيبية .
ثانيا : قوله تعالى : { لا تأتيكم إلا بغتة } لا يعارض أحاديث علامات الساعة وأشراطها ، لأن القرآن الكريم نفسه قد أخبر عن بعض علامات الساعة ، كخروج الدابة ، ويأجوج ومأجوج ، ومن المعلوم أنه لا يوجد في علامات الساعة ، وقت محدد لقيامها بل هي علامات وأمارات على قرب قيام الساعة ،وأما حديث { ما المسئول عنها بأعلم من السائل } فالمقصود منه إثبات أن علم جبريل عليه السلام بالساعة أوسع من علم النبي ﷺ وليس نفي علم النبي ﷺ بالساعة نفيا مطلقا ، وهذا الحديث نفسه قد تحدث فيه النبي الاكرم عن بعض علامات الساعة فعجيب جدا أن يأخذوا من الحديث الواحد بعضه ويتركوا بعضه .
*لماذا البخاري ومسلم تحديدا من تسلط عليهما جل الحملات التحريضية الاستشراقية والتنزويرية وهي ماضية على قدم وساق وعلى مدار الساعة بزعم التمحيص والتجديد والتصحيح والتصويب ، هل لأنهما الاصح تحقيقا ، الأدق دراية ورواية ،الأوثق سندا ومتنا ، أم لوجود أجندات خفية وبروباغندات تقف وراء تلك الحملة الشرسة وتعمل على دعمها وتمويلها يراد منها ما يراد ، ووراء الاكمة ما وراءها يأتي في مقدمتها العمل على فك الارتباط بين القرآن الكريم والسنة النبوية ..بين الكتاب والحكمة في خطوة استباقية سيتبعها ولاشك وبعد الفراغ منها والنجاح فيها - خابوا وخسئوا ، التحول الى القرآن الكريم هذه المرة للتشكيك فيه والطعن به قبيل إطلاق ما بات يعرف بـ" الديانة الابراهيمية " على وصفهم ، او الديانة الوهمية على وصفنا .. هل أن تركيزهم على الصحيحين ،البخاري ومسلم " في لعبة مكشوفة " مرده الى ان التطرق الى أحاديث وردت في كتب اخرى غير الصحيحين قد اوردت بعض الضعيف الى جانب الحسن والصحيح كما اسلفنا قد يقلب السحر على الساحر وقد يقلب لهم ظهر المجن ويردهم على أعقابهم خائبين ، الا ان التطرق الى البخاري ومسلم لوجود الصحيح من الاحاديث بين دفتيها فحسب ، سيجعلهم - بزعمهم - يحققون مرادهم ويصلون الى غايتهم ؟
- الحملة على السنة النبوية لا تقصد إصلاحا ولا تنقية ولا تنويرا بل هي حملة علي الإسلام تهدف إلى الاتيان عليه من أصله ، ولكن هيهات لهم ما يريدون فلم نسمع يوما عمن تمكن من حجب نور الشمس عن العالمين ، والسنة النبوية هي جزء من نور الله المبين الذي أرسل به محمدا ﷺ إلى العالمين ، قال تعالى { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون }. ولكن لماذا تستهدف الحملة على الحديث الشريف في المقام الأول صحيحي البخاري ومسلم أولا ، وثانيا شخص الإمامين الجليلين ، نقول لو كان مثل البخاري ومسلم في أية أمة من الأمم لأ تخذوا منهما قدوة للأجيال ، ولصاروا مفخرة من مفاخر القوم ، واعتبروهما إرثا حضاريا إنسانيا ، والحملة المأجورة على السنة المطهرة تستهدف كتابيهما لأنهما الاصح بعد كتاب الله تعالى ، ولو تم لهم ما أرادوا ، ولن يكون بإذن الله أبدا ، فيكونون بذلك قد قضوا على السنة المباركة أحد شقي الوحي المنزل من عند الله تبارك وتعالى ، فتكون مهمتم الأخيرة القضاء على القرآن الكريم ، وكلنا يقين أن شيئا من هذا لن يحدث بإذن الله تبارك وتعالى ، لأن هذا هو الذكر المبين المحفوظ بحفظ رب العالمين ، والله أعلم.
3996 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع