البير كامو وأنسانه المتمرد.. عبثية أم تجديد؟

                                          

                   د.عصام البرام - القاهرة

البير كامو وأنسانه المتمرد.. عبثية أم تجديد؟

شكل الكاتب والروائي البير كامو انعطافاً كبيراً في المدرسة العبثية بالأدب العالمي رغم حياته القصيرة نسبياً،.. وما بين العبث والتمرد كتب في روايات سابقة، منها رواية الطاعون واسطورة سيزيف وكذلك روايته الشهيرة الغريب، إلا إن ما كتبه كامو في رواية الانسان المتمرد، يقودنا الى معرفة ما دفعه للخوض في كتابتها لما امتلكت من مفهوم بعيد وغريب وذات أبعاد فلسفية تكمن في الوجدان الإنساني.
ان الظروف الصعبة التي عاشها وتعرض لها كامو في حياته مع أمه في أواسط القرن العشرين، وما جرت عليهما من انعكاسات ظروف الحرب العالمية الثانية، شكلت في ذاته النزعة التشاؤمية والمتمردة، وهذا ما انعكس على روايته التي تميزت بعمقها وثرائها الفكري، لذلك نجد عند قرائتنا لروايته التي يستفز فيها القارئ بعمقها الفلسفي واسئلته المتكررة، للبحث عن سر الوجود وكيوننة الانسان، فكامو يشكل نقطة مهمة في تأريخ الادب العبثي او المدرسة العبثية، ولم يختلف اثنان على ان شخصية البير كامو شخصية انسان تتصارع في داخل ذاته المتمردة، صراعات؛ تحمل تاريخ طفولته المعذبة، فضلاً عن الفترة الزمنية التي عاشها في منتصف القرن العشرين، ومدى انعكاسات هذه الفترة التاريخية على حياته الخاصة، وبالتالي على كتاباته الروائية.
ففي روايته الانسان المتمرد، يسعى كامو في البحث عن جوهر الانسان ومناقشته لنتاج القيمة الانسانية الخارجة منه، أي من خلال تمرده للبحث والخوض عن شكل التمرد وبعده وماهيته الوجودي والتاريخي.
فمثلاً في روايته اسطورة سيزيف، نجد اولى ملامح العبثية التي بدأ فيها كتابته وهو يسعى دائما من خلالها ليشكل معنى جديد لوجوده .. ليتقدم فيما بعد بمفهوم الفلسفة العبثية، والتي نجدها في روايته الانسان المتمرد التي قدمها للعالم باسلوبه الادبي الرفيع.
ان قرائتنا لما يسعى اليه كامو في هذه الرواية، إنما هي دعوة تكمن وراء الثورة على الواقع لتجديده وفق الشروط التاريخية التي تحكم حركة الواقع المتطور.. ومن الجدير بالذكر، ان الانعاكاسات النفسية الواقعية كما أشرنا التي عاشها بين فرنسا والجزائر، كان لها تأثيرها على فلسفته للحياة ونظرته للتعامل معها وكتاباته الروائية.
لقد كانت آحداث الحرب العالمية الثانية وتحرير فرنسا من الاحتلال النازي في عام 1944 من العوامل الرئيسية التي استفزت البير كامو.. فرغم ان روايته الانسان المتمرد لم تنال الشهرة كما في روايتة الغريب، التي حاز عليها جائزة نوبل للآداب، الا انه في رواية الانسان المتمرد، شيء آخر تماماً، حيث كانت تحمل عمقاً فلسفياً وبعداً تاريخياً، ففي هذه الرواية كان لا يريد أن يقف عائقاً عن التفريق بين مفهومي الثورة والتمرد، وهذا يعني ان مفهوم الثورة لديه هو ذلك الانسان الثائر المتمرد على ذاته والواقع الذي يحيط من حوله.
رغم انه لم ينظر للعالم بنظرة المفكر الاكاديمي، بقدر نظرته التحليلية من منظور ادبي، ودراسته لأهم ثورتين حصلتا في التاريخ الحديث، وهما الثورة الفرنسية والثورة البلشفية الروسية ..
كما لم يكتفي كامو بهذا القدر من السعي لفهم وابعاد روح التمرد الانساني ، فقد سعى الى دراسة العديد من الشخصيات والفلسفات والاحداث التاريخية عبر العصور.. ومنها عصر الاغريق وتحديداً أخذ الشخصيتين التي عرفتا بالصراع بينهما وهي شخصية زيوس وشخصية برموثيوس، حيث تعمق ببحث شخصيتهما، فضلا عن شخصيات أخرى أعطاها دراسة واسعة تمثلت بشخصيات أمثال ماركس وكذلك نيتشه، وصولاً الى المدارس الفلسفية الفنية وغير الفنية كالسريالية والدادائية والشيوعية، ومنهم من الكتاب الذين اضافوا للفكر الانساني والادب العالمي امثال تيودور دوستوفسكي واندريه بريتون، إن اطلاعه الواسع اراد من خلاله، ان يعطي في روايته الانسان المتمرد حقائق مكشوفة اكثر للمرحلة التي اعقبت الحرب العالمية الثانية، ودلالات تكمن ورائها نزعة الانسان الذي يتمرد لواقعه بشتى الاساليب، لما أمتلكت هذه الفترة من تحولات كبيرة ليس على اوربا فحسب بل على العالم كله.
وهذا البعد الداخلي الوجداني إن صح التعبير، للانسان المتمرد عند كامو، ليس تمرداً عشوائياً، بقدر ما هو التمرد الثائر داخل الوجدان الانساني والذي ياخذ باشكال متعددة عبر المنطق التأريخي لحركة الواقع في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية تحديداً، والتي عاشها بكل ارهاصاتها.
فاذا كان البير كامو يقودنا بانسانه المتمرد نحو الحلم الجديد الذي يكتنف واقعه الداخلي المؤلم، وصراعته الداخلية المعذبة، فأن هذا يشدنا ايضاً الى ما ارتبط بالواقع العربي من تغيرات كثيرة خلال او بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في مرحلة الاربعينيات من القرن العشرين، لنجد ما افرزته الحالة الابداعية في عالم التجديد بحركة الشعر العربي والرواية العربية وسردياتها والانتاج السينمائي الذي عبر باساليب تفرعت منها الرمزية و الثورية على نمطية ورتابة الابداع السينمائي آنذاك، الذي أكثر ما كان يركز على الجانب الرومانسي، فضلا عن التجديد في مجال الفن التشكيلي والنحت والتصوير والموسيقى وحتى عالم الصحافة والاذاعة، وكل الفنون الابداعية الاخرى.
ان فكرة التمرد عند انسان البير كامو هو سعيه الحثيث لاكتشاف عالم جديد آخر لعصره وعدم الالتزام بالتقيد الذي يفرض عليه، مما يعني انها نزعته او ضآلته الوجودية والتاريخية، التي يريد ان يحقق وجوده وتفجير الكامن من عذابات الانسان المعاصر، اذن هو لم يكن يسعى بعبثيته بالمفهوم الأهوج أو اللامعنى أو اللاغاية، بل هو الغاية المنشودة وراء عبثيته، هي نحو التحرر دون الالتزام بالقيود المفروضة او القوالب الجاهزة شريطة ان تكون علاج للفكر الانساني، وارتباطات الانسان بها مادياً كان او معنوياً، نحو فكر متجدد يعطي للحياة معناها الجديد لا ضدها.
فإنسان كامو المتمرد جاء من خلال اطلاعه لتاريخ العالم وما اعقبت ذلك من صراعات أفرزت عوالم جديدة، فهو يستند للثورية التي تبحث التجديد في البناء التأرخي، فعندما يكون العدل هو عكس الظلم، إنما يقوده الدليل الى ان الانسان دائماً ينشد الى العدالة.
فهو يرصد في روايته او كتابه مفهوماً، بأن أنسانه المتمرد ينبغي أن يحمل افكاراً لا عبثية منغلقة بل متجددة، وأن تكون لديه القدرة على التوازن بين الموافقة والرفض أو بين القبول والرفض أو بين القيمة العليا للانسان وموقعه داخل المجتمع أو بين الاحساس بالمهانة والدونية، ان تكون لديه القدرة على أدراك إن الثورة التي يسعى اليها قائمة على بناء الانسان ولها دوافعها الايجابية التي جاء بها أو يرنو نحو تحقيقها، فالعالم عنده تتصارع فيه البشرية وهي تحمل في داخلها ذئاب مفترسة.
فكامو يرى أن حالة التمرد عند إنسانه، دائماً ما تواجه بالرفض والمواجهة العنيفة، أو المحاولة لمنعها دون ان تاخذ حيزها عند الانسان الساعي نحو الخروج لعالم أرحب، لكي ينقذ الانسان من حصار ذاته او ذاته المحاصرة.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

979 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع