اَلدُّكْتُورِ وَائِلْ اَلْقَيْسِي
مَحَطَّات اَلْعُمْرِ
لَطَالَمَا نَسْعَى ، وَنَبْحَثُ ، وَنَعْمَلُ ، وَنَكْدَحُ ، وَأَحْيَانًا فَوْقَ طَاقَتِنَا ، وَلَكِنْ تَشَاءُ اَلْأَقْدَارُ أَنَّ لَا يَتَحَقَّقُ مَا نَصَبُوا إِلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ فَوَاتِ اَلْأَوَانِ ، وَعِنْدَهَا يَكُونُ قَدْ فَقَدَ طَعْمُهُ وَلَذَّتُهُ . . .
سَأَرْوِي لَكُمْ ، قِصَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ نَقْلاً عَنْ اِبْنِ أَخِ اَلشَّخْصِ صَاحِبَ اَلْقِصَّةِ ( رَحِمَهُمَا اَللَّهُ) . . .
فِي نِهَايَات اَلْقَرْنِ اَلْمَاضِي ، كَانَ هُنَالكَ رَجُلٌ عَجُوزٍ ، قَدْ مَضَى فِيهِ قِطَارُ اَلْعُمْرِ بَيْنَ اَلْمَحَطَّاتِ كَثِيرًا ، يَسْكُنُ فِي مَحَلَّةِ اَلْبَارُودِيَّةِ ، خَلْفَ جَامِعٍ اَلْحَيْدَرْ خَانَة ، وَكَانَ إمَامَ وَخَطِيبِ ذَلِكَ اَلْجَامِعِ هُوَ اَلدُّكْتُورُ اَلْعَلَّامَةُ جَلَالْ اَلْحَنَفِي - رَحِمَهُ اَللَّهُ - ( 1914 _ 2006 ) ، وَقَدْ لَقَبِهِ اَللُّغَوِيِّ اَلْجَهْبَذِ اَلْأَبْ أَنِسْتَاسْ مَارِي اَلْكَرَمَلِّيْ فِي عَامِ 1933 بِالشَّيْخِ اَلْعَلَّامَةِ ، وَتَنَقُّل بَيْنَ جَامِعِ اَلْخُلَفَاءِ وَجَامِعِ اَلْمَرَادْيَّة فِي اَلْمَيْدَانِ وَكَذَلِكَ كُلِّيَّةُ اَلْإِمَامِ اَلْأَعْظَمِ فِي اَلْأَعْظَمِيَّة وَالْأَزْهَرُ فِي مِصْرَ ، وَقَدْ أَوْفَدَتْهُ اَلْحُكُومَةُ اَلْعِرَاقِيَّةُ فِي عَامِ 1966 إِلَى اَلصِّينِ لِتَدْرِيسِ اَللُّغَةِ اَلْعَرَبِيَّةِ، مِمَّا أَتَاحَ لَهُ إِجَادَةُ اَللُّغَةِ اَلصِّينِيَّةِ بِإِتْقَانٍ ، حَتَّى أَنَّهُ أَلَّفَ قَامُوسُ لِلُغَتِي اَلْعَرَبِيَّةِ _ اَلصِّينِيَّةِ لَكِنَّ أَصَابَهُ اَلتَّلَفُ بِمَاءِ اَلْبَحْرِ اَلْمَالِحِ أَثْنَاءَ عَوْدَتِهِ إِلَى اَلْعِرَاقِ عِنْدَمَا كَادَتْ أَنْ تَغْرَقَ اَلسَّفِينَةُ اَلَّتِي أَقَلَّتْهُ ، فَلَمْ يَرَ اَلنُّورُ ذَلِكَ اَلْقَامُوسِ لِلْأَسَفِ .
نَعُودُ إِلَى حِكَايَةِ اَلرَّجُلِ اَلْعَجُوزِ ، اَلَّذِي كَانَ يَسْكُنُ بَيْت قَدِيمٍ ، مُهْتَرِئًا ، سَقْفُهُ مِنْ اَلْخَشَبِ وَحَصِير اَلْقَصَب ، فِي مَحَلَّةِ اَلْبَارُودِيَّةِ اَلْبَغْدَادِيَّةِ اَلْعَتِيقَةِ ، وَهُوَ يَعِيشُ وَحْدَهُ فِي تِلْكَ اَلْخَرِبَةِ ، لَا وَلَد وَلَا تَلِدُ ، وَكَانَ مُعْدَمٌ اَلْحَالِ ، حَتَّى أَنَّهُ لَا يَجِدُ قُوتَ يَوْمِهِ، بَلْ كَانَ لَا يَحْصُلُ عَلَى طَعَامِ لِيَوْمَيْنِ وَرُبَّمَا أَكْثَرُ . . .
كَانَ اَلْبَيْتُ يَخْلُو مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ، وَلَا تُوجَدُ لَدَيْهِ إِلَّا قِطْعَةَ فِرَاشٍ مُهَلْهَلٍ ، وَرُبَّمَا لِحَافٌ أَكَلَتْهُ اَلْعُثُّ وَلَا نَفْعَ فِيهِ . . .
وَفِي لَيْلَةٍ شَتْوِيَّةٍ مِنْ لَيَالِي شُبَاطَ اَلْلبّاط ( كَمَا يَقُولُ أَهْلَنَا ) ، كَانَ يَشْعُرُ بِجُوعٍ يَقْطَعُ أَحْشَاءَهُ ، وَيَرْتَعِدَ مِنْ قَسْوَةِ اَلْبَرْدِ ، وَيَفْتَقِدَ اَلدِّفْءُ تَمَامًا .
أَخَذَ يَفْقِدُ أَعْصَابَهُ، وَالدُّمُوعَ تَتَجَمَّدُ عَلَى خَدَّيْهِ مِنْ شِدَّةِ اَلْقَهْرِ وَالْبُؤْسِ وَالْحِرْمَانِ ، فَلَا طَعَام، وَلَا دِفْءً، وَلَا لِبَاسِ، وَلَا فِرَاشَ مِثْلٍ ( اَلْأَوَادِمْ ) .
حِينُهَا ، شَعَرَ وَكَأَنَّ اَلْمَوْتَ اِرْحَمْ لَهُ أَلْفَ مَرَّةٍ مِنْ هَكَذَا حَيَاةٌ بَائِسَةٌ ، فَقَامَ يَتَحَرَّكُ فِي اَلْغُرْفَةِ جِيئَةً وَذَهَابًا ، وَعَصَاهُ اَلَّتِي يَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا بِيَدِهِ ، وَيَدْعُو اَللَّهُ بِبُكَاءٍ مُرّ ، وَانْكِسَارٍ يَقْطَعُ نِيَاطَ اَلْقُلُوبِ ، وَيُدْمِي اَلْأَفْئِدَةَ ، فَهُوَ لَا أَحَد لَهُ فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا سِوَى اَللَّهِ . . .
بِلَحْظَةِ هِسْتِيرْيَا أَفْقَدَتْهُ صَوَابَهُ ، أَخْذٌ يَضْرِبُ اَلْحِيطَانَ تَارَةً ، وَيَضْرِبَ اَلسَّقْفُ بِعَصَاهُ تَارَةٍ أُخْرَى ، وَكَانَ سَقْفُهُ مِنْ خَشَبٍ وَحَصِيرَ اَلْقَصَب كَمَا أَسْلَفْتُ ، وَاسْتَمَرَّ يَعَسْ وَيَضْرِب ذَلِكَ اَلسَّقْفِ بِشَكْلٍ لَا يَفْعَلُهُ سِوَى مِنْ فَقْدِ اَلصَّوَابِ وَالْأَعْصَابِ ، وَبِشَكْلً هِسْتِيرِيٍّ ، كَانَ اَلْغُبَارُ يَهُرّ عَلَى أَرْضِ اَلْغُرْفَةِ كَغَيْمَةٍ ضَبَابِيَّةٍ فِي صَحْرَاءَ قَاحِلَةٍ ، وَكَانَت أَعْوَادَ اَلْقَصَبِ تَتَكَسَّرُ وَتَتَسَاقَطُ فَوْقَ رَأْسِهِ ، وَعَلَى اَلْأَرْضِ . . .
فَجْأَةٌ... ؟!!
سَقَطَتْ ( صُرَّة ) مِنْ اَلْقُمَاشِ اَلْبَالِي، وَتَنَاثَرَ مَا فِيهَا.
أصَابَتَهُ اَلدَّهْشَةَ ...
مَاهْذَا ؟ ! ! . . .
عِنْدَهَا حَمْلَ اَلْفَانُوسِ اَلَّذِي لَا يَكَادُ يُضِيءُ ، نَظَرَ بِدِقَّةٍ ، فَوَجَدَ أَنَّهَا صُرَّةُ قُمَاش مُهْتَرِئَةٍ وَقَدِيمَةٍ جِدًّا ، وفِيهَا لِيرَاتٌ ذَهَبِيَّةٌ عُثْمَانِيَّةٌ كَثِيرَةٌ ، تَتَسَاقَطَ مِنْ سَقْفِ اَلْغُرْفَةِ فَوْقَ رَأْسِهِ وَعَلَى اَلْأَرْضِ . . .
لَمْ يَتَمَالَكْ نَفْسَهُ مِنْ هَوْلِ اَلْمُفَاجَأَةِ وَالِانْدِهَاشِ . . .
أَخْذٌ يَغْرِفُهَا بِكَفَّيْهِ وَيَنْثُرهَا بِكِلْتَا يَدَيْهِ ، لِيَسْمَع رَنِينَهَا . . .
حَقًّا إِنَّهَا مُفَاجَأَةٌ ، أَنْسَتْهُ جُوعَهُ وَذَلك اَلْبَرْدُ اَلْقَارِسُ . . .
لَكِنَّ . . . ! ! !
لَكِنَّهُ سُرْعَانَ مَا اسْتَفَاقَ مِنْ هَوْلِ تِلْكَ اَلْمُفَاجَأَةِ.
وَبَكَى بِمَرَارَةٍ . . .
قَالَ مُحَدِّثًا نَفْسُهُ : مَا فَائِدَتُهَا بَعْدَ أَنْ رَاحَ اَلْعُمْرُ وَالْحِيَلُ؟؟.
757 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع