ماذا أراد جورج أورويل في مزرعة الحيوان

د. عصام البرام

ماذا أراد جورج أورويل في مزرعة الحيوان

عندما راح الفيلسوف الهند (بيدبا) يحكى حكاياته عن أبطاله فى كليلة ودمنة على ألسنة الحيوانات، إلى الملك الهندى (دبشليم) تناول فيها الحكم والمواعظ وتناقضات الحياة ودروسها، فضلاً عن ذلك فإن الكتاب الذى يعتبر من أهم عشرة كتب عربية فى المكتبة العربية، احتوى الجانب الإصلاحى والأخلاقى، وعندما قام بترجمته فيما بعد الكاتب ابن المقفع، من اللغة الفارسية (الفهلوية القديمة) وقبلها الهندية إلى اللغة العربية، أخذ هذا الكتاب وترجم إلى أغلب اللغات العالمية، ومن الجدير بالإشارة أن الشاعر الإيطالى (دانتى) عندما كتب ملحمته الكوميديا الإلهية، فإنه استنبطها من كتاب رسالة الغفران لأبى العلاء المعرى، والأخير استلهمها من القرآن الكريم. إن الواقع الراهن بما تمليه حياتنا الحاضرة، من صراعات سياسية وتحديات جمة، فضلا عن التحديات الاجتماعية والازمات التى تعصف بالعالم من كل صوب، يُبقى لعالم الأدب الروائى صفة الراصد للأحداث مانحاً إياها بعداً دراماتيكياً تارة، ولغة وتكنيكا وخصوبة خيال تارة أخرى.
لقد أراد جورج أورويل من خلال رواية «مزرعة الحيوان» رصد الأحداث السياسية التى عاشتها المرحلة التاريخية الحديثة من القرن العشرين، من ثورات اشتراكية او ليبرالية فى العالم، وما أعقبها من تحولات جذرية فى الواقع السياسى والاجتماعى لتغيير المعادلة وانقلابها بالاتجاه المعاكس.
ورواية مزرعة الحيوان يمتزج فيها الواقع بالخيال والرمز والتشبيه والمجاز، حيث يرصد من خلالها جورج أورويل، عالمًا بتورية عالية حول الثورة الروسية، متناولاً شخصيات حيوانية تمثلت بأبطالها الذين يشكلون ثيمة النص، حاملاً العمق السياسى للدولة بشخوصها الذين تولوا مرحلة الحكم بعد قيام الثورة البلشفية، يقول الأديب الألمانى خورخى بورخس: (إن القص لا يستقيم كما هو معلوم بداهة إلا بأساليب وأركان هى مقومات أساسية تقوم عليها كل حكاية) لذا فإن جورج أورويل عندما أراد أن يعطى نقداً للحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للفترة التى تولى بها ستالين الحكم، وخلافه الفكرى مع تروتسكى، إنما أراد أورويل ألا يدخل فى سجالات سياسية معقدة، خلال التوترات حينذاك، والحساسية بين المعسكر الغربى والمعسكر الشرقى، فضلا عن الدعوة المبطنة التى أراد جورج أورويل من خلال روايته فى الاختفاء بشخوص أبطاله الحيوانية، عندما منح مسميات لقادة مشهورين بأسماء الحيوانات، الخنزيز جون والخنزير نابليون والخنزير الثالث سنوبل، اضافة الى توزيع شخوص الرواية بحركة انبساطية هارمونية تتوزع داخل النص بين مسميات لحيوانات تتمثل بالحصان والحمار والقطط والأغنام والغراب.. الخ».
لم تكن هذه الرواية سابقة أولى، فقد أشرنا إلى كليلة ودمنة، التى جاءت أحداثها بلغة الحيوانات لتعطى منعطفاً فى البناء الحكائى والأسطورى والتى سبقت غيرها من الروايات، كما يستند النص الى اسلوب حوار يمنح المتلقى واقع حياة للأحداث يمزج الخيال بالواقع، الذى يتداخل فى متن النص السردى، وإذا كان جورج أورويل يسعى الى التجديد فى البناء السردى الروائى عندما أصدر روايته مزرعة الحيوان، فلم يكن الدافع وراء ذلك، غير البعد السياسى الذى سعى اليه أورويل، ولكن بقوالب ومستويات فنية أفقية تتشظى فى ابطال شخوص الرواية.
إن مقارنة موجزة وبسيطة لما قدمته لنا كليلة ودمنة وبين رواية مزرعة الحيوان، لنجد أن اركان النص تدور فى فضاء موهوم بالزمان والمكان المطلقين، كما يستند القص الى نمط من أسلوب الحوار الذى يوحى للقارئ وكأنه مسرح قائم على ابطال يختفون وراء وجوه وشخصيات تؤدى دورها على واقع يرتبط بواقع آخر متخف، ويسعى هذا الواقع بشخوص رمزية لتضرب واقعا آخر لينقده ويحرض الجمهور او القارئ ويعنى هنا (الشعب) للثورة والتغيير.
لقد سعى جورج اورويل الى استخدام اسلوب الهجاء والسخرية، والذى يقف وراءهما الهدف السياسى، ولكن بأسلوب أدبى ذى مسحة تقترب الى الغرائبية والعجائبية او الفنتازية إن صح التعبير، والذى استنبط الرؤى من خلال الفلسفة الحكائية لكليلة ودمنة، الا انه تبقى لجورج أورويل الخصوصية من خلال سعيه الى الهدف المنشود، فهى رواية حملت مفاهيم انسانية وأخلاقية كثيرة، وهو لم يكتب روايته لتخليق أسلوب روائى فحسب، إنما أراد نقدا غير مباشر للنظام السوفييتى السابق، مختفيا بالتوظيف الخيالى الادبى بشخوص أبطاله من الحيوانات.
ان الادب الكلاسيكى العالمى الذى انضوت تحته العديد من الكتابات، التى توزعت بين الرواية والقصة والشعر والدراما والمسرحية.. أخذت بمستويات متعددة وقوالب فنية ونهجت مدارس عدة، وظفت من خلالها نقداً للحياة والسلوك البشرى، فضلاً عن نقدها للحياة السياسية.
ان البحث فى عالم الخطاب السردى للنصوص القديمة التى وردت الينا من العصور السابقة، حمل لنا أوجها متعددة، فهى ليست طارئة علينا فى التاريخ الحديث أو المعاصر، كما جاء به أورويل فى مزرعته، فكليلة ودمنة وما سبقتها من رحلة الخلود لجلجامش السومرى، قد أشبعت التراث الانسانى، الا ان ما ارادت به رواية مزرعة الحيوان، هو تحول فى السرد الروائى الذى تناغم مع التحولات التاريخية السياسية فى عالمنا المضطرب، خصوصا بعد قيام الثورات الكبرى كالثورة الفرنسية والثورة الروسية، فكان الانعكاس الكبير على حركة الادب وبكل فنونه.
لقد أعطى لنا جورج أورويل من خلال توظيف الشخصيات الحيوانية بروايته بعداً جمالياً، فضلا عن انه لم يحصر الاحداث بزمان ومكان، كى لا يبدو للاحداث والرمزية التى اتخذها الروائى أى تعبير وبشكل مباشر عن شخصية واقعية او بلد ما.
إن ما نريد ان نقرأه فى هذه الرواية، ليس هو الخلاف مع النص، بل اكتشاف قدرة أورويل على توظيف ابطاله داخل ثيمة البناء الروائى، وتحليل المفاهيم التى اراد منها جورج أورويل انتقادها بأسلوبه الادبى، موظفاً فى نفس الحال توجهاته وأفكاره السياسية. إن قدرة الكاتب تتجلى فى تصويره الدقيق عندما يكسر الهوة بين ما هو خيالى وواقعى، فكلما كان دقيقاً فى حبكة النص تحول من كونه نصاً عائماً الى حضور وعلاقات مترابطة بين عناصره وابطاله، ليطرح نفسه على أنه نص واحد، هذه العلاقة التى تجمع القارئ بالرواية وتفاصيل احداثها ليشكلا وحدةً لصيقة بينهما، وهذا ما نجده لدى جورج أورويل وفى أغلب روايته التى تميزت بأسلوب الوضوح والسلاسة والدقة، فضلا عن خصوبة الخيال التى تجعل القارئ يبحر معه الى أمكنة وأزمنة مختلفة تمس حياة الإنسان.

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

478 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع