عبد يونس لافي
في الطريق إلى مكة
مرَّتْ أيّامُ المدينةِ حُلْمًا أردْتُهُ أن يطولْ،
لكنَّها كذلك طبيعةُ الْأحلامِ لا تعْبَأْ!!
عليَّ الآنَ أُوَطِّنُ القلبَ،
فها هيَ ذي ساعةُ الفراقِ،
ولاتَ حينَ مناص!
أجْلِسُ ... أطرِقُ رأسي،
أتَصَفُّحُ خِطابًا أرسلْتُهُ
الى صديقيَ في جَدَّة،
من مطارِ إسطنبول،
مُيَمِّمًا وجهيَ شطرَ المدينةٌ:
"كم انا مشتاقٌ للمدينة!
سيكونُ يومًا مشهودا...
انا لا أستطيعُ حبسَ دموعي،
كلَّما تذكرتُ اني ذاهبٌ إلى هناك"
انتهى الخطاب.
هذا ما دوَّنْتُهُ قبل أن
تَكْتَحِلَ عينايَ برُؤيا المدينة،
وعليكَ، يا ابْنَ عَمِّي،
أن تُدْرِكَ بعد هذا،
هل انا بالقادرِعلى أن
اكتمَ دموعي حين أُغادرُها،
بعدما اسْتنْشقْتُ هواءَها
المُشَبَّعَ بعبَقِ النبوَّة؟
نعم لقد غمرتْني ترانيمُ الروح فيها،
فبعثت فيَّ هُيامًا لو قُسِّمَ
على أهل الارض جميعًا،
ما بقيَ منهم إلاّ ولَه،
نصيبٌ من ذلك الهُيام.
كنت أُزْمِعُ مغادرةَ المدينةِ
غداةَ أنْهيتُ زيارةَ البقيع،
وكان صديقي الذي دأبتُ أن أُلقبَّهُ
أبا المحامِدِ ـ ولا أبالغ ـ فهو كذلك،
يُلِحُّ بأن يأتيَ من جدة الى المدينة،
ليأخذَني بسيارته إلى مكةَ،
(وهو المكِّيُّ أصلاً).
كان الرجلُ يُلِحُّ عليَّ بطيبتِهِ المعهودةِ،
التي أُحِسُّها في كل كلمةٍ كان ينطقها.
هذه هي جزءٌ من خِصالِه،
فقد جرَّبْتُهُ على مرِّ السنين،
يعملُ للآخرين ولا يُشْعرُهُم
غيرَ انهم اصحابُ فضلٍ عليه،
وتلك لَعَمْري خِصالُ الكرام.
ولكي أُحاولَ ان أُقنعَهُ بألّا يأتي،
ذهبتُ أستطلعُ حيْثيّاتِ النقلِ
من المدينة إلى مكة.
دخلتُ مكتبَ النقلِ وانْتظرتُ
كي يفرغَ احدُ المسافرين،
من أُمورٍ تخُصُّ سفرَه.
وبينما كنت أتحدَّثُ مع بعض الزبائنِ،
عن مواضيعَ تتعلَّقُ بالعلم والثقافة،
إذ دخل رجلٌ اتَّضحَ فيما بعد أنَّه
المالكُ لخطوط النقل،
فجلسَ بجانبي،
وكنت مستغرقًا في الحديث.
راحَ يُصْغي إلَيَّ بشغفٍ،
وحين انتهيتُ صافحني، وقال :
انا فلان! لقد أعْجِبْتُ بحديثِك،
هل هناك من خدمةٍ أقدِّمُها لك؟
قلت له أردتُ أن اسْتطلعَ
أوقات السفرِ، وحالةَ السيارةِ التي
تأخذُ المسافرين الى مكةَ.
أفصَحْتُ له عن غايتي
في أن أكونَ على بيِّنةٍ من الأمر،
عَلّي أُقْنِعُ أخًا لي يريد أن يأتيَني من جدَّةَ
لكي يأخذَني إلى مكةَ، وانا لا أريد أن
أسبِّبَ له المتاعب.
قال تعالَ معي،
لقد كان الرجلُ في منتهى الأدب.
قادني الى داخل الحافلةِ وقال:
عَلَّك تراها بأمِّ عينِكَ،
فهي واسعةٌ مُكيَّفةٌ، وكانت حقًّا كذلك.
كان يقولُ لي التقطْ صورًا
لما تشاهدُ، وأرْسِلْها الى صاحبِك.
ثم قال وستتوقَّفُ الحافلةُ في الميقاتِ،
لكي يُحرِمَ المعتمرون،
وأنَّ السفرةَ تستغرقُ خمسَ ساعاتٍ
تكونُ فيها في مكة.
بعد هذا اندفعتُ أكثر لإقناعِ صاحبي
بألّا يُكَلِّفَ نفسَهُ عناءَ المجيء،
فما كان منه الّا الرَّفضُ،
وعدمُ السماح لي بالكلام!
قال: لا عليك، وإنَّه سيأتي
مَعِيَّةَ أحدِ أصدقائِه.
مُصِرٌّ هذا الرجلُ فماذا أفعل؟!!!
في صباحِ اليومِ الثاني،
اتَّصلَ بي وقال:
إنَّه وصاحبَه في طريقِهما اِلَيَّ
وأنَّهما سيصلانِ الثامنةَ صباحًا،
حيث الفندقُ الذي أُقيم.
لم أكن أعرفُ صاحبَه في ذلك الوقت،
ولم أرَهُ من قبلُ، لكني أعرفُ
أنَّ من صاحبَ طيِّبًا،
لا بدَّ أن يكونَ كذلك،
والمرءُ على دينِ خليلِهِ،
وهكذا وجدتُ الرجل!!
أنزلتُ حقائبي الى بَهْوِ الفُنْدُق،
انتظرتُ قليلًا،
وإذا بهما عندي،
فقلتُ في نفسي:
لله درُّكُما متى غادرتُما جَدَّةَ،
كي تصِلا المدينةَ هذه الساعة!
لقد كان لقاءً فريدًا لا يوصَفُ
وانا ألتقي بصاحبيِ بعد سنينَ طوالٍ.
تعرَّفتُ على رفيقهِ أبي أحمد،
وإذا به كما توقعتُ خَلْقًا وخُلُقًا.
ركبنا السيارةَ فشقَّتْ طريقَها
في شوارع المدينة الحبيبة.
آهٍ أيتها المدينةُ
كم سلبتِ العقلَ مني!!
مررْنا بمحطةٍ لم تعُدْ عاملةً،
قالا إنَّها لِسِكَّةِ بناها التركُ،
ما بين دمشقَ الشّامِ والمدينة.
هل زرتَ معالمَ المدينة؟
قلتُ نعم، قالا:
إذن سنُوَلّي وجوهَنا شطرَ مكة.
بعد دقائقَ وإذا بنا في ذي الحُلَيْفَةِ،
ميقاتُ إحرامِ سُكّانِ المدينةِ،
بل ومن يمرُّ عِبرَها.
راحَ صاحبي يسألُني:
إن كان معي ملابسُ الإحرامِ،
أجَبْتُهُ نعم،
واطْمأنَّ حينما أخبرتُهُ
انها صُنْعُ المدينة!
بيدَ أنَّه لاحظ أَنّي
دون حزامٍ للإزار،
فجاء لي بواحدٍ؛
لم أكنْ أعرفُ أني
سوف أحتاجُ حزامًا للإزار.
اغتسلتُ فأحْرَمْتُ فصليتُ
في مسجدِ الميقاتِ رَكعَتيْن.
وانا، إن نسيتُ، فلن أنسى
كيف درَّبني ابو أحمدَ
على مَسْكِ الإزار
حقًّا لقد كان خبيرًا
(وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبيرٍ).
انطلقنا وكان أبو أحمدَ ربّانَ القافلةِ،
وراح الاثنان يشرحان بإسهابٍ،
تاريخَ المناطقِ التي نمرُّ بها.
سُرِرْتُ لما سمعتُ منهما،
فقد كانا حريصيْن على
نقلِ ما صَحَّ من الأخبار.
أشهدُ أنّي تعلَّقْت بهذي الأرضِ،
سهولًا وجبالًا وشَجَرْ،
وما ضمَّتْ في حناياها
من شخوصٍ وعِبَرْ!
واصلنا المسيرَ نريدُ مكَّة،
لكنْ توقَّفنا في مكانٍ
له من التأريخ شأنٌ، فنَزلنا عنده،
إنَّه موقعُ بدر.
عند مدخَلهِ، رأيتُ نُصْبًا،
وقد خُطَّتْ عليه أسماءُ الشُّهداءْ،
إنهم شهداءُ الغزوةِ الكُبرى.
ثم عرَّجْنا على أرضِ المعركة،
وقد أُحيطتْ كما رأيناها بسور.
في ذلك الميدان،
لاحظتُ بقعةً منخفِضة،
فقيل لي: إنَّها القُلَيْبُ (كما يُظَنُّ)،
مدفنُ قتلى المشركين.
لقد شعرتُ بالرَّهبةِ وانا أحَدِّقُ
في تضاريسِ هذا الميدان،
مُسْترْجِعًا بعضَ الذي كان.
قلتُ في نفسي:
انا الآنَ في بدرٍ؟
إذن انا في حضرةِ الرِّجالْ
إنَّهُ الواقعُ، فعلًا لا خَيالْ؟
في لحظةٍ رحتُ بعيدًا،
فتذكَّرْتُ اجْتِماعًا للرسولْ.
يجمعُ الصحبَ في أمْرِ مَشورَة،
عندما فكَّرَ في أمرِ التَّعَرُّضْ:
هيَ قافلةٌ لقريشٍ عائدةْ،
من بلادِ الشّام، ماذا ترتأون؟
هو ذا أبو بكرٍ يباركْ
ثم يتلوهُ عُمَرْ،
يصدحُ المقدادْ:
يا رسولَ اللهِ إنّا عن يمينِكَ،
عن شِمالِكَ، لا نرْتَدُّ لا نتردَّدْ.
وانْبرى سعدٌ يقولْ،
بعد ان سمعَ الرسولْ،
قالها ثانية: هيّا اشيروا...
يا رسولَ الله!......
ها نحن هنا معشرَ الأنصارِ جندُكْ!
ليس فينا أحدٌّ إلّا وأكَّدْ.
حانت ساعةُ التنفيذْ ....
ها هو (الحُباب) يعطي رأيَهُ
يشيرُ والقائدُ يسمعُ ثم يأخذْ!
هكذا كانوا وكانْ،
هكذا اختاروا المكانْ.
وكأني بالعَريشْ
نعم تذكرتُ العَريشْ
ذاك مركزُ القائدِ، سعدٌ* خطَّهُ،
حبَّذا الأنصارُ يحمونَ الرسولْ،
كي تحيا الرسالةُ، كي تعيشْ
ساءلْتُ إذن أين عُبَيْدَة؟
أين حمزةُ بل أين عليّْ؟
هَبّوا لِفرسانِ قريشٍ بارَزوهم؛
ثم أرْدَوْهم تِباعا!
هنا عُبَيْدَةُ يُجْرَحُ ثم يُحْمَلْ
ها انا الآن أُحدِّقُ في عُمَيْرٍ
اين تمراتُ عُمَيْر؟
بخٍ بخٍ يرمي بهنْ،
لا وقتَ لهُ
يا لهُ نالَ مرادَهْ
أوَّلُ الأنصارِ يسعى للشهادةْ.
تركْنا بعدها موقعَ بدرٍ نحوَ مكة.
وتوقَّفْنا قليلًا عند قبر العامرية،
ميمونةٍ، آخرَ زوجاتِ الرسولْ.
قبرُها كان مهيبًا،
غيرَ أنَّه كان بسيطا،
هو المنزلُ ذاته
حينما زُفَّتْ إليه!
بعد ذلك عرَّجنا
إلى قبر عبد الله بنِ عُمَرْ،
محدِّثٌ فقيهٌ زاهدٌ يؤخذ منه،
رافق النبيَّ في الخندق،
في مؤتةَ، ثم في فتحِهِ مكة.
وبعد وفاته،
شاركَ في فتوحاتٍ كثيرة.
دخلنا مكةَ، فلاحَ من بعيدٍ
برجُها الشاهق.
كان الوقت ليلًا وانا مع أهل مكة،
ويا لَهُم من أهلٍ لم يكونوا
أدرى بشعابِها حسب،
بل كانوا أدرى بشعابِ شعابِها،
وأبنيتِها بأسماءِها القديمةِ.
لم يجِدا صعوبةً في الوصول
إلى الفندق الذي كنت قد حجزت فيه،
وأنا في المدينة.
ودَّعْتُهما واتَّفقْنا على موعدٍ للقاءٍ قادم،
نستطيع فيه زيارة الأماكن المأثورةِ في مكةَ،
بعد ان أُنهي عمرتي الأولى.
جزى الله عني خيرًا أبا المحامِدِ وصاحبَه
على كلِّ لحظةٍ قضيناها معًا،
فلم ألحظْ ايَّ علامةٍ للضجرِ منهما،
رغم خروجِهما في وقتٍ مبكرٍ
من جَدَّةَ الى المدينة،
ثم العودة من المدينة الى مكة،
ورجوعُهما الى جَدَّة.
كلُّ ذلك لأنهم اسيادٌ لا ريبَ،
ومن خدمَ ساد.
* الصحابي الجليل سعد بن معاذ.
1369 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع