د.عدنان هاشم
خاطرة العدد
يحدثنا القرآن الكريم في سورة الكهف حول ذي القرنين الذي أمده الله سبحانه بالملك والبأس والعلم والإيمان وسخر له من الأسباب ما لم يسخرها لغيره من الملوك. طوَّفَ ذو القرنين في غرب الأرض حتى وصل يوما عند غروب الشمس إلى عين ماء كبيرة ذات ماء حار عكر وطين أسود، ووجد عندها قوما كافرين، فأوحى ربه أن يحكم فيهم بأمره، فقال ذو القرنين " أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يُرَدُّ إلى ربه فيعذبُه عذابا نُكرا. وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاءً الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا". ثم اتجه ذو القرنين شرقا فتوغل في سيره حتى بلغ مطلع الشمس في أقصى الشرق، فوجد هناك أقواما بدائيين لهم بيوت بلا سقوف تحجبهم من الشمس، ثم واصل السير حتى بلغ موضعا بين جبلين عظيمين ووجد هناك قوما أشد جهلا ممن رآهم من قبل، فكانوا لا يفهمون ما كان يقول ولا يكاد يفهمهم إلا بصعوبة بالغة. وقد أخبره أولئك القوم أن يأجوج ومأجوج يسكنون وراء الجبلين ولا قدرة بهم على قتالهم وصدهم، فهم قساة متوحشون يكثرون الهجوم عليهم فيشيعون فيهم النهب والقتل والسبي والخراب ثم يعودون إلى بلادهم غانمين موفورين. طلب أولئك القوم من ذي القرنين أن يبني لهم سدا بين الجبلين ليكون لهم ردءا وحاجزا يمنع يأجوج ومأجوج من الوصول إليهم على أن يؤدوا لهم ما يطلبه من مال. فأجاب ذو القرنين أن ما عنده من نعمة ربه تغنيه عن أموالهم، ولكنه طلب منهم جلب قطع الحديد حتى صارت أكواما ضخمة بين الجبلين ثم أضرم النار لتليين الحديد ثم سكب النحاس المذاب على الحديد فاختلط به حتى صار سدا صلدا منيعا عجزت يأجوج ومأجوج عن ثقبه أو تسلقه لارتفاعه. فنجى أولئك الأقوام الضعفاء من شر يأجوج ومأجوج بفضل ذي القرنين وعلمه وحكمته.
لم يوضح القرآن من هو ذو القرنين ولا اسمه ولا في أي عصر كان. لأن القرآن نزل مجملا في أغلب الأحيان فلا يذكر تفاصيل لا تزيد في عبرة القصص القرآني. ولكننا نستطيع أن نستنتج من القرآن أن ذا القرنين كان ملكا مؤمنا صالحا، وكان على قدر كبير من العلم بطبيعة الأشياء، واستطاع بعلمه وبأسه أن يطوف بجيش كبير في غرب الأرض وشرقها ويحكم شعوبا كثيرة تلك التي تغلب عليها. ولكن من هو يا ترى ذلك الملك العظيم وهل هنالك قرائن تاريخية تدل عليه! اختلف الرواة والمفسرون في ذي القرنين فمنهم من قال إنه الإسكندر المقدونيAlexander the Great وهو الذي بنى السد بين الجبلين وكثرت الأساطير حول هذا السد ومكانه ومنعته. ومنهم من قال أنه الملك الفارسي كورش الكبير Cyrus the Great ومنهم من قال أنه تُبّع ملك حِمْير في اليمن الذي تهود وأدخل اليهودية إلى اليمن قبل ظهور الإسلام.
أما تبع الذي ورد ذكره في القرآن فيمكن أن نستثنيه لأن ما ذكره المؤرخون القدامى حوله يكاد يشبه الأساطير فلم يكن ملكه عظيما ولم يكن بتلك السطوة والقوة العظيمتين، حتى أنه حاصر يثرب قبل الإسلام وعجز عن فتحها رغم أنها لم تكن آنذاك إلا قرية صغيرة.
كان كل من الأسكندر وكوروش يلقبان بذي القرنين الذي يرمز إلى ملك الأرض بشرقها وغربها، وكلاهما سارا شرقا وغربا وكلاهما قهرا الممالك القديمة فأسسا ملكا عظيما، فأيهما هو المذكور في القرآن؟
عاش كورش الكبير مؤسس السلالة الفارسية الإخمينية في القرن السادس قبل الميلاد، وقد قهر مملكة ليديا في الأناضول ومملكة ميديا غرب إيران وفتح بابل وصار ملكا عليها ووصل ملكه إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط وإلى بلاد السند. وقد أثنت عليه وعلى عدله أسفار العهد القديم التي أظهرته بأنه موحد مؤمن بالله وهو الذي سمح لليهود بالعودة من بابل إلى اورشليم فبنوا هناك هيكل سليمان الثاني بعد عودتهم.
أما الإسكندر المقدوني فقد عاش في القرن الرابع قبل الميلاد وملك مقدونيا شمال اليونان بعد مقتل أبيه فيليب ملك مقدونيا، وحارب الفرس وهزم ملكهم الفارسي داريوس وطردهم من بلاد الأناضول ثم فتح مصر سلما. كان الإسكندر كبقية اليونانيين يؤمن بتعدد الإلهة وعلى رأسهم إلههم الأكبر زيوس. ولكنه بعد أن فتح مصر سلما جعل من نفسه إلها أرضيا لإله السماء آمون الذي كان يعبده المصريون، ثم فتح الإسكندر بابل وأمعن في السير شرقا حتى فتح بلاد فارس وبلاد ما وراء النهر في آسيا الوسطى ثم وصل إلى الهند وعاد أدراجه إلى بابل بعد أن أجبره قواده على العودة ومات في العراق مسموما أو بمرض التيفوس.
لم تكن سيرة الإسكندر بالمحمودة فهو على الرغم من تلمذته على يد الفيلسوف أرسطو إلا أنه لم يستفد كثيرا من فلسفته، فتارة كان يؤمن بآلهة اليونان وتارة يجعل نفسه إلها لمصر. وكان كثيرا ما تعتوره سورات غضب عنيفة يريق فيها الدماء بلا مبرر معقول. كان يشرب الخمر كثيرا حتى يصير مخمورا لا يعي ما يقول ويفعل. وقد اتخذ له عشيقا ذكرا اسمه هفيستيان Hephaestion الذي مات قبله بسنة فبكاه الإسكندر بحرقة وقام على قبره طويلا.
مما أستنتجه من هذا البحث القصير أن ذا القرنين المذكور في القرآن هو الملك كورش الفارسي لسيرته المحمودة والقرائن على ذلك ما ذكر في أسفار العهد القديم من إيمانه ورحمته وعدله. وتلك الصفات كانت على الضد من صفات الإسكندر المقدوني فلا يمكن للقرآن ان يشيد بذكر من كان مشركا وادعى الألوهية واتخذ له عشيقا وخدينا خلاف الفطرة الإنسانية.
ذكر المفسرون أسباب نزول سورة الكهف أن قريشا استشارت أحبار اليهود في محمد وهل هو نبي مرسل أم هو كذاب! فاقترح الأحبار عليهم أن يسألوا محمدا أسئلة تعجيزية الذي يعرفونه في اسفارهم وعن الساعة. فنزلت سورة الكهف بالجواب. وكان جواب النبي عن الساعة " ما المسؤول بأعلم بها من السائل"
18 آذار 2024
1066 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع