حاتم جعفر
الوردة لم تمت بعد.( تغطية للمقابلة التلفزيونية التي أجريت مع الضابط الشيوعي، نوح علي الربيعي قبل بضعة سنوات).
ربما تأتيك من الصدف أجملها، وتأتيك من الأحاديث أشدها وقعا وأغناها فائدة وجدوى. ففي لحظات لم أكن مخططا لها وبمحض الصدفة وإذا بعيني تسقط على أحد البرامج الحوارية، والتي باتت في هذه الآونة تشغل حيزا واسعا وإهتماما كبيرا من قبل قنوات البث العربية وعلى محتلف توجهاتها، خاصة بعد الثورة التكنولوجية التي يشهدها العالم وما رافقها من طرق توصيل، عجزت السلطات القمعية الحاكمة في بلداننا ولحد الآن من إيجاد طرق تسعفها، من أجل إسكات أصوات معارضيها ومنعها عن قول الحقيقة، رغم كل المحاولاتها التي بذلتها ولا زالت على هذا الصعيد. وهنا لا نستثني أي نظام من تلك التي تتحكم بمصائر شعوبنا.
والقصة لم تتوقف عند الحوارات السياسية أو الثقافية، فأوجه الخلافات مع مَنْ يقبض على زمام الأمر قد توسعت وباتت تشغل أكثر مفاصل الحياة وأكثرها أهمية ووقعا. ولعل موضوعا كَسبرِ التأريخ والغوص فيه والوقوف على ما جرى من أحداث قبل عقود، لَيُعَدٌ من أهم المواضيع التي أخذت تؤرق المتلقي العربي وتشغله، خاصة مع جو الإنتكاسات والتداعيات والتراجعات التي تشهدها منطقتنا، بغية الوصول الى الحقائق وتفسير ما جرى وعلى نحو محايد وبالتالي البحث عن الطرق الكفيلة للخروج من هذه المآزق والمآسي، وبما ينسجم وتطلعات شعوبنا في بناء مستقبلها. فوسائل الإعلام وحتى الأمس القريب وبكل أشكالها ووسائل تعبيرها، كانت حكرا على القابض على السلطة.
وكي لا نطيل أو نذهب بعيداً فالمتحدث وصاحب المقام وسيده هنا وفي هذه المناسبة، هو الضابط الشيوعي وسليل المؤسسة العسكرية الوطنية وإبنها البار، نوح على الربيعي. فها هو أمامنا بكل شموخ وثقة وبكامل عنفوانه وحضوره البهي رغم زحفه أو تجاوزه العقد الثامن من العمر، وقد بانت عليه جلية كل تلك الصفات التي ورثها ممن كانوا قبله في هذا السلك، لتجده مدافعا شرساً وثابت الجنان كثباته على مبادئه وعلى ما جُبِلَ عليه، ليحدثنا وبلغة الواثق ما كانت قد حملته ثورة 14 تموز الخالدة عام 1958 من مبادئ وأهداف، والتي قادتها وفجرتها تلك النخب الواعدة والباسلة من أبناء قواتنا المسلحة.
وإذا كان التأريخ لم يكن منصفا أو بالأحرى لم يتوقف طويلاً ولم يسلط الضوء وبما يتناسب وحجم شجاعتهم وتضحياتهم، عند تلك الكوكية من الضباط الأحرار المنفذين للثورة، رغم تصدرهم الصفوف وأياديهم على الزناد، حاملين أرواحهم على أكفهم، يقظين منتبهين لردات فعل الطرف الآخر، والحذر من محاولاته الدنيئة وطرقه الخبيثة من أجل الإجهاض على الثورة وهي لم تزل بعد في مهدها، بإتباع أكثر الأساليب مكرا، والتي عودنا عليها، كمحاولات الإندساس وشراء الذمم وغيرها من وسائل. ففي عِرف رجال الثورة وقاموسها وإذا ما حانت لحظتها وإستكملت شروطها، فلا مناص من الشروع بتنفيذها فورا، ومن دون تردد أو تراجع، أو اللجوء إذا ما إهتزت فرائص البعض، الى نصف الحلول أو القبول بالمساومة وعلى حساب ما حملته من أهداف ونوايا، كان الشعب قد قررها وأجمع عليها.
وبالعودة الى مجريات اللقاء التلفزيوني الذي أجري مع الضابط نوح الربيعي، ومن بين الإنطباعات التي يمكن إلتقاطها، هي محاولة المحاور، ونعني هنا الإعلامي المعروف الدكتور حميد عبدالله، وفي أكثر من مناسبة، جَرَّ ضيفه الى مواقع، ظنها ستسبب لمن يلتقيه حرجا، كعقده مقارنة بين الإحتلالين البريطاني والأمريكي للعراق وعلى إختلاف الحقبتين وتباعدهما. فالضابط الربيعي لم يتردد ولم يساوم أو يجامل في إجابته، فالإحتلال يبقى إحتلالا على حدِّ قوله، وليس هناك من تسمية أخرى له تناسبه أو تنطبق عليه، إن جاء من الغرب أو من الشرق، فالأطماع واحدة وأهدافهم ستبقى رهن مصالحهم، معتبرا ما قام به ضباط ثورة تموز لهو عين العقل وعين الصواب، وجاء كذلك في التوقيت المناسب، وبعد تأجيل إعلان الثورة والكلام له لعدة مرات، وذلك إرتباطاً ببعض الظروف الخاصة وضماناً لنجاح الثورة، وصولا الى الإطاحة وبشكل تام ونهائي على النظام السابق وأجهزته الأمنية وأدواته، وصولا الى تحقيق أهدافهم التي حملوها على أكتافهم ومن دون تردد .
وتعليقا على فقرة الإحتلالين، فلم يَفُت الضابط الربيعي القول وبعبارة صريحة واضحة، بأن مَنْ جاء مع المحتل البريطاني وتربَّعَ على عرش السلطة يُعَدٌ عميلا ولا مساومة على ذلك. وذات التقييم والرأي، ينطبق ويُسقَطُ على مَنْ جاء مع المحتل الأمريكي، رغم اننا لا زلنا نعيش تحت حقبة الإحتلال الأمريكي، ورغم محاولات البعض ممن يتربع على عرش الحكم في بلادنا الآن، من تجميل الصورة وَسَوقهُ للكثير من المبررات والحجج لإثبات صحة خياره وتوجهاته، والتي لم تجد لها رصيدا ومقبولية من الشارع العراقي وبأغلبيته.
ومن بين النقاط التي تطرق لها الضابط الشيوعي في هذا المقام وعشية القيام بالثورة وعلى ما وضعه ورسمه مخططيها وقادتها، هو التأكد من أنَّ رجالات العهد البائد والمتحكمين بسلطته وقرارته والماسكين بزمام أمره، متواجدون داخل البلاد لحظة الشروع بتنفيذ الثورة، ففي ذلك ما سيمنحهم الفرصة لإلقاء القبض عليهم جميعاً ومن دون إستثناء، مستفيدين في ذلك من تجارب مماثلة، كانت قد حدثت في بلاد أخرى وتمَّ الإجهاض على ثورتها وهي في مهدها. وأهمية هذا الموضوع تكمن في عدم إعطاء رجالات العهد البائد الفرصة للمناورة كما حدث في مناسبات سابقة، والعودة من جديد لحكم البلاد والعباد وبالإتفاق مع سادتهم ومن خارج الحدود. وعن هذا الموضوع، فقد كشف الربيعي عن أحد أسرارها وربما لم يسبق للكثيرين من أبناء شعبنا وفعالياته السياسية من الإطلاع عليه، بأن لحظة القيام بالثورة والشروع بتنفيذها قد تأجلت لستة مرات ولعديد الأسباب.
ووفاءا من المتحدث الربيعي في وقفته على أحداث تموز والثورة التي فجرها كبار ضباطها، كالزعيم الخالد عبدالكريم قاسم وعبداللطيف الدراجي وعبدالسلام عارف ووصفي طاهر وماجد محمد أمين وأحمد صالح العبدي وفاضل عباس المهداوي، ورهطه الميامين من تنظيم الضباط الأحرار والقائمة تطول، فالرجل لم يكتفِ بإيراد بعض أسماء هؤلاء القادة الأبطال ممن تصدر صفوفها، بل راح مستذكرا وبفخر تلك الكوكبة من الضباط الذين كانوا آنذاك حديثي عهد على المؤسسة العسكرية، برتب تتناسب وأعمارهم وسنة تخرجهم من الكلية العسكرية، كتوقفه عند الضابط المقدام وأحد مرافقي الزعيم الأمين، وأعني به حامد مقصود، الذي كان أحد مرافقي عبدالكريم والمقرب جداً منه. كذلك الدكتور سامي الخفاجي والذي سيتقلَّدَ فيما بعد رتبة فريق، حيث كان هو الآخر أحد مقربي الزعيم، إضافة الى الضيف المتحدث، إذ كان آنذاك صلب العود رغم صغر سنه، حاملاً رتبة ملازم. فخلال مجريات اللقاء التلفزيوني، تجده من أشد المدافعين عن زعيم الثورة وقادتها وما حملته من مبادئ. فضلا عن أسماء أخرى، ربما التأريخ لم ينصفها كثيرا ولم يسلط الضوء عليها كما ينبغي، لكنها ظلَّت خالدة في ذاكرة الشعب، رغم مضي قرابة أكثر من ستة عقود على نجاح الثورة.
والملفت في كلامه حين إستعراضه لمجريات الثورة وضباطها، فالمشاركون فيها وبقليل من التركيز على أسمائهم، فستكتشف أنَّ جلهم ينحدرون من مختلف مشارب ومكونات الشعب العراقي، من حيث الدين والقومية والمذهب، وهذا ما كان يميز المؤسسة العسكرية العراقية عن سواها وحتى الأمس القريب. وفي ذلك ما يدلٌ على أن العراق كان رَهْنَ ومُلك أبنائه الغيارى، بصرف النظر عن ولاءاتهم وإنتماءاتهم وأصولهم، وإنَّ مبدأ الكفاءة والإخلاص والشعور الوطني ودرجة تحمل المسؤولية والإستعداد الدائم للتضحية، تُعَدٌ الرافعة الحقيقية والجامعة لكل المكونات وهو سقفها الذي تفخر فيه وتدافع عنه.
وفي محطات أخى من المقابلة، سيتحدث الضيف الشيوعي، نوح الربيعي، بفخر وزهو عن إنتماءه السياسي بل والدفاع عنه، رغم محاولة محاوره التوقف عند بعض الإنتكاسات والسياسات التي لم يوفق فيها الحزب، حيث لم يتخذ منها الموقف المناسب، والتي من المفترض أن تستجيب للظروف والتحولات التي يمرَّ بها البلد، وتنسجم كذلك مع ما حمله الحزب من مبادئ وأهداف وعلى وفق وما جاء في نظامه الداخلي، وبما يتفق كذلك وحجم القاعدة الشعبية الواسعة التي يتمتع بها، والتي سببت له أي تلك الإنتكاسات في سياساته على حد رأي مقدم البرنامج، تراجعاً وإنحساراً وعلى مختلف المستويات، والتي ستأتي نتائجها بالمحصلة على حساب رصيده من الشارع العراقي، قياسا بما كان يتمتع به من جماهيرية ومنذ تأسيسه ، إذ كان له منها ما يشار له بالبنان. وتأكيدا على إنتمائه ووفاءا لتأريخه السياسي والحزبي، فقد ترك في وصيته وبعد رحيله عن هذه الدنيا، دعوته الى مَنْ يحملها ويرثها من بعده، الى ضرورة الطوف بجثمانه حول مقر الحزب الشيوعي، الواقع في ساحة الأندلس من العاصمة بغداد وكان له ما أراد.
ملاحظة أخيرة عن اللقاء وكي لا يفوتنا التذكير به. فقبيل إجراء المقابلة، كان من الصعوبة بمكان على الضابط الشيوعي نوح علي الربيعي، التحرك برشاقة وخفة، بسبب ما كان قد تعرض له من تعذيب وحشي على يد أجهزة النظام السابق في أواخر السبعينيات، حيث على أثرها عموده الفقري مما تعذَّرَ عليه التحرك والتنقل وبشكل طبيعي، لذا جرى حمله على مقعد خاص الى حيث القاعة التي شهدت مراسيم المقابلة التلفزيونية معه.
نَمْ هنيئا أيها البطل في عالم الخٌلد، فلك من الرجال مَنْ سيسلكون ذات الطريق الذي سلكته. ولك مِنَ الرجال أيضا مَنْ سيصححون المسيرة التي شهدت إخفاقات هنا وهناك ولا يمكن إنكارها أو العبور عليها، وصولاً الى تحقيق الأهداف النبيلة والمشروعة التي حملتها على كتفيك، يوم كنت حيّاً وحتى آخر لحظات حياتك.
حاتم جعفر
السويد ـــ مالمو
1363 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع