أ.د. سلمان الجبوري
التعليم في العراق عبر ازمنة الحكم منذ تأسيس الدولة العراقية
لقد بلغنا من العمر مدى تمكنا عبره ان نعاصر تجارب التعليم في عراقنا الحبيب عبر فترات حكمته انظمة مختلفة يمكن تجزئتها الى ثلاثة أنواع، النظام الملكي ، النظام الجمهوري الوطني و النظام الولائي. ان ما ميز تلك الأنظمة هو ان النظام الملكي والذي يعتبر نظام تأسيس الدولة العراقية والذي لايخلو حتما من إشكاليات في التطبيق قد تميز بأنه نظام التخادم بين السلطة الحاكمة والاقطاع وأصحاب الاعمال الكبار اما العهد الجمهوري فأنه هو الاخر قد تميز بعدة مراحل: المرحلة الأولى هي مرحلة التخبط والاضطراب ومرحلة ثانية الهدوء غير المنتج والمرحلة الثالثة وهي مرحلة البناء والنهوض والتقدم ، اما مرحلة النظام الولائي والذي جاء منذ الاحتلال في 2003 وهو ما يصلح ان نطلق عليها تسمية مرحلة التخريب والهدم لكل ما تم بناؤه ليمتد اثره الى المستقبل.
وبأمكاننا ان نلقي نظرة سريعة على حال التعليم عبر تلك الأنظمة والتي يمكن ان نقسم النظام التعليمي عبرها على أساس الانضباط والرصانة العلمية الى مرحلتين الأولى تمتد من بداية تأسيس الدولة العراقية الى غاية 2003 والتي تمييز فيها التعليم بالرصانة والقوة والثانية هي ماتستحق ان نطلق عليها الفترة السوداء بكل المقاييس وعلى كافة الأصعدة.
لقد تميز التعليم في العهد الملكي بما يمكن ان نطلق عليه تعليم النخب الاجتماعية كونه كان مكلفا ويثقل أعباء الكثير من العوائل العراقية وكان في جزء كبير منه يتوقف على مبادرات الاقطاعيين وكبار الملاك فعلى سبيل المثال انا أكملت دراستي الابتدائية في مدرسة الجبور التي انشأها احد اجدادي في منطقة الزنبرانية التابعة الى قضاء المحمودية فحمِلَتْ ذلك الاسم كون مؤسسها شيخ قبيلة الجبور. ولم يكن التعليم متاحا في أماكن أخرى لايوجد فيها راعيا لذلك لكن هذا لاينتقص من مستوى انضباط ورصانة التعليم واخذ التعليم يحبو نحو الأعلى منذ بداية العهد الجمهوري الا ان افضل عهد شهده التعليم ويعد بالعصر الذهبي له هو خلال الخمسة وثلاثين عام من حكم النظام الوطني أي منذ 17 تموز 1968 ولعاية 9/4/2003 .
ففي تلك الفترة انطلق العمل من مبدأ الانسان أداة الثورة وغايتها والذي استوجب تنمية مهاراته وقدراته انطلاقا من تمكينه من امتلاك ناصية العلم بهدف خلق أجيال واعية مثقفة ومحصنة وطنيا، وفاعلة في إدارة عجلة البناء والتنمية. فكان البدء بحملة محو الامية والتعليم الالزامي والمجاني حتى شملت المجانية التعليم العالي ومن ثم تعريق وتطويرالكوادر التعليمية وتثوير المناهج الدراسية بما ينسجم مع متطلبات التطور المنشود من خلال التوسع في فتح الدراسات العليا في الجامعات وزيادة الابتعاث الى الخارج والتركيز على النوع قبل الكم دون التفريق بين أبناء الشعب على أساس عرقي او ديني او سياسي بل كان الأساس الوحيد هو المواطنة وخدمة العراق وليس كما يدعي المغرضون بأن القبول في الجامعات والتعيين كان حكرا على البعثيين. يضاف الى كل ذلك الانفتاح على العالم للاطلاع على اخر مستجدات التطورالعلمي وتشجيع التأليف والنشر وتسهيل المشاركات في المؤتمرات والدورات والورش العلمية التي تقام في العالم. يضاف الى كل ماسبق فقد راعت الثورة جانب ابراز طلبة الجامعات بالمظهر الانيق من جانب ولالغاء الفوارق المادية بين الطلبة والذي كان ذا تأثير سلبي على نفسية اقرانهم الضعفاء ماديا فشرعت الثورة الى تطبيق الزي الموحد المجاني لجميع الطلبة والذي لاقى تطبيقه نجاحا كبيرا .
كانت تعتمد صيغ اصيلة في إدارة العملية التعليمية بدءا من التمهيدي مرورا برياض الأطفال والتعليم الأساسي والثانوي والعالي يبدأ بأعادة تأهيل البنى التحتية للعملية التعليمية بعدما ورثت الثورة عددا من الأبنية لايفي بتحقيق ثورة في التعليم وكان جزء منها متهالك فتوجه العمل على إعادة تأهيل القائم منها واضافة ابنية جديدة منها ما تم إنجازه عن طريق العمل الشعبي من قبل المنتمين للحزب وتوفير الكوادر التعليمية التي تمتلك القدرة العالية على إيصال العملية التعليمية الى المستوى الذي تبتغيه السياسة التعليمية من خلال الضوابط الرصينة في المتابعة والتقييم للمخرجات ولم يتم اغفال توفير المستلزمات الدراسية من كتب وقرطاسية اعتمد فيها على توفر النوع المتقدم للمادة العلمية. يضاف الى كل ذلك مراعاة العلاقات التربوية السليمة بين المعلم والتلميذ وصل الى حد معاقبة التربوي الذي يستخدم العنف الجسدي مع الطلاب. كان التربوي حينها مؤهلا علميا وتربويا ويعير اهتماما كبيرا لمهنته اكثر مما تدر عليه مهنته من دخل وكانت مكانة المعلم كبيرة مجتمعيا.
ترسخت في هذا الزمن قيما كثيرة بسبب حرص الجهات المسؤولة عن التربية والتعليم على غرسها فكان التدريس الخصوصي مقيدا في أجواء غير مكشوفة ومن يثبت عليه تدريس احد طلبته وخاصة على مستوى التعليم العالي كان يتعرض الى عقوبات قاسية تصل الى حد إخراجه من سلك التعليم. وبالنسبة للتعليم العالي فقد تم العمل على استكمال ملاكاته ومضاعفة كوادره بعد زيادة الابتعاث الى الخارج وكذلك التوسع في فتح الدراسات العليا ، ومما شجع الاقبال على التحصيل العالي هو الدعم الحكومي وزيادة الحوافز للتقديم عليها. كل هذا التقدم الممنهج والنوعي اكسب التحصيل العلمي في الجامعات العراقية ثقة عالية في جميع دول العالم، كما لم يشهد التحصل على الشهادات العراقية أي تزوير او سرقات كما هو شائع منذ 2003. وكانت الرقابة تشمل حتى الكليات الاهلية التي سمح النظام بعملها وفق ضوابط مركزية ووفق ما هو متبع في الكليات الحكومية.
ومما يؤسف له ان هذا الحال المتقدم لم يستمر بعد وقوع الاحتلال وتسييد قيادة البلد من قبل أناس سراق ومجرمين هدفهم التخريب خدمة لاجندات اجنبية مما اشاع ترديا في نوعية مخرجات التربية والتعليم وإشاعة الفوضى بسبب التخبط في قيادة وتوجية هذين القطاعين الهامين في حياة أي مجتمع. فبدءا من الاجتثاث على أساس سياسي وطائفي للكفاءات التي ساهمت في بناء هذين الصرحين وتردي ادارتهما وتفشي الولاءات والتدخلات وتفشي الفساد المالي والأخلاقي في ظل عدم وجود رادع قانوني والذي يضاف اليه ضعف الضوابط وشيوع المتاجرة بالشهادات واستخدام الشهادات المزورة التي شاع انتشارها في أوساط أجهزة الدولة، ففي اعتراف لعضو لجنة التعليم النيابية رياض المسعودي عام 2021 أكد فيه على وجود (30-40) ألف شهادة مزورة في العراق. كما ان هناك ارقام أخرى للشهادات المزورة التي منحتها جامعات لبنانية وأخرى إيرانية . حيث بلغ عدد الشهادات المزورة والممنوحة في لبنان 27 الف شهادة ومن ايران 85 الف شهادة.
وبذلك استطاع ان يصل الحاصلون عليها الى حصن التربية والتعليم الحصين منذ تأسيس الدولة العراقية ولغاية 2003 والذي كان بداية للتخريب الذي نشهده منذ ذلك التأريخ . ان الفوضى قد تجاوزت التربية والتعليم الرسميين وذلك بالشروع بالسماح لكل من هب ودب حتى من لم تكن له صلة بهذين القطاعين بتأسيس جامعات ومدارس خاصة والتي اخذت بالتكاثر على غرار الارانب مما أدى الى هبوط حاد في المستوى العلمي لمخرجاتهما.
يضاف الى كل ماسبق وبما يؤكد فساد التعليم على مسمع ومرأى من الحكومات المتعاقبة ووزارة التعليم العالي هو فوضوية القبول في الدراسات العليا وضعف ضوابط المراقبة وشيوع تدني المحتوى العلمي للاطاريح وعدم مطابقتها للاسس العلمية المتعارف عليها سابقا وعالميا هذا إضافة الى شيوع سرقتها وكتابتها من قبل مكاتب شاع انتشارها منذ 2003 عدا عن انعدام مراعاة ضوابط الترقيات العلمية والتي أصبحت هي الأخرى منتشرة مما جعل هرم الدرجات العلمية في التعليم العالي العراقي مقلوبا. اضف الى كل ذلك السماح للوزارات المختلفة الحق في منح منتسبيها من حملة الشهادات العليا الدرجات العلمية والتي هي حكرا على من يمارسون العمل الاكاديمي في التعليم العالي.
ونتيجة كل ذلك سيكون هناك جيش من الجهلة الفاشلين غير المؤتمنين من مزوري الشهادات في مواقع مهمة ومراكز الفرار في وزارات الدولة مما سيعم الخراب في كل زاوية ومرفق في العراق، هذه النتيجة الكارثية المتوقعة ستتسبب في ارتفاع الامية بين اليافعين والشباب وعموم العراقيين الذين أصبحت اعدادهم بعشرات الملايين.
552 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع