الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل
الدكتور عادل البكري: سيرته وأبرز آثاره - الجزء الثالث
الدكتور عادل البكري علم من اعلام العراق، امتهن الطب ودرسه، وشغله التراث فأعطاه جلّ وقته؛ بحوثا ودراسات وتحقيقات.
كتب الدكتور البكري الشّعر ومارس الصحافة، وكان موسوعياً في معرفته؛ ثرّ العطاء في كتابته؛ اهتم بتراث مدينته الموصل خاصة، والعراق عموماً، وقد أشار واشاد به حميد المطبعي في موسوعة (أعلام العراق)، كما فعل ذلك الدكتور عمر الطالب في موسوعة (أعلام الموصل).
اكتشف الدكتور البكري قبر الشاعر المُتنبي، وكتب عن مبدعي الموصل ورموزها، ومنهم المُلا عثمان الموصلِيّ (1854-1923م) الذي شغله عشرين عاماً لينجز كتابه الأول عنه: (عثمان الموصلِيّ الموسيقار.. الشاعر المتصوف).
يقول الدكتور البكري: "الطب هو علم ومهنة، أما الموسيقى فهي فن وهواية وهي في الوقت نفسه دراسة وأبحاث". من الآثار المهمة للدكتور البكري أنه هو الذي أحيا سيرة الملا عثمان الموصلِيّ ووثق العديد من أعماله الفنية.
يقول الدكتور البكري: " درستُ المقامات الصوتية على يد شيخ القراءات السبع وشيخ القُراء في الموصل الشيخ محمد صالح الجّوادي (1888-1973) أثناء دراستي القرآن على يديه، وهو الذي أخذ إجازة القراءات العشر عن المُلا عثمان الموصلِيّ. وقد اكملتُ دراستي الموسيقية بعدئذ على يد أساتذة معروفين..".
يضيف الدكتور البكري: "كانت المرة الاولى التي التقيتُ فيها بالنابغة العبقري عثمان الموصلِيّ عام 1964 عندما كنتُ أدرس القراءات السبع مع المرحوم محمد صالح الجّوادي. ولم يكن ذلك لقاءا بالمعنى المعروف لأنني قد ولدت بعد وفاة المُلا عثمان بسبع سنين، ولكن الشيخ الجّوادي أخبرني مرة أنه أخذ إجازة القراءات العشر عن الملا عثمان الموصلِيّ وحكى لي بعض أخباره وقصصه فتجمعت لدي معلومات عنه وكان ذلك هو اللقاء الذي عنيته.
ومضت الأعوام وأنهيتُ دراسة الطب عام 1956 وفتحتُ عيادة لي، وكان يوم من أيام عام 1959 لم أجد إلا ورجال الأمن يأخذوني من عيادتي مغفورا لاعتقالي في سجن (أبو غريب)، وهناك التقيتُ مع المرحوم عبد الجواد الجّوادي الذي اعتقله الشيوعيون أيضا للسبب نفسه: وهو دفاعنا عن عروبتنا وديننا. وكان من جملة ما نتحدث به: أخبار الموصل، فذكر لي اسم عثمان الموصلِيّ الضرير الذي ملأ الدنيا بأخباره. وعندئذ استعدتُ المعلومات التي أخبرني بها شيخي محمد صالح الجّوادي من قبل، فقررت أن أكتب عن هذا الرجل، ومضيت أبحث في الصحف والمجلات الصادرة في عهده واتصل بالمعمرين من الأدباء وذوي الخبرة.
يقول الدكتور البكري: وانتهيتُ بعد سنين من البحث إلى تأليف كتابي الأول الذي بعنوان "عثمان الموصلِيّ الموسيقار الشاعر المتصوف" والذي صدر عام 1966 من القرن الماضي.
لقد كان لصدور هذا الكتاب الذي صدر بمساعدة المجمع العلمي العراقي صدى واسع في أوساط المثقفين وأعلام الموسيقى والفن ولقي قبولا حسنا في البلاد العربية. وقد قال أحد المعنيين بالأمر مخاطبا الدكتور البكري: (إنكَ اخرجتَ هذا العبقري من قبره ونفضتَ الغبار عنه، فلم يكن أحد آنذاك يعلم تفاصيل حياة عثمان الموصلِيّ وكان القليل من سمع باسمه).
كما أدى ظهور الكتاب الأول إلى انطلاق عدد كبير من المؤلفين والكُتاب للكتابة عنه وكان مصدرهم الوحيد على الاطلاق هو ذلك الكتاب الأول.
يضيف الدكتور البكري: "لقد نجم عن ولادة الكتاب الأول أن ظهر اسم عثمان الموصلِيّ في كل مكان وسُمّيت محلات كثيرة باسمه؛ ومنها قاعة في معهد الفنون الجميلة ببغداد وشارع في الموصل وحي بأكمله: (حي عثمان الموصلِيّ). واقيم لعثمان الموصلِيّ تمثال في هذه المدينة سعيتُ أنا مع المحافظة لإقامته وكنتُ المُشرف على تصميمه، وبقى التمثال قائم يتحدى الزمن، وقد وضعوا اسم كتابي على قاعدته (عثمان الموصلِيّ الموسيقار الشاعر المتصوف). كما ظهرت عشرات المقالات والأبحاث في الصحف والمجلات عن عثمان الموصلِيّ وكلها تأخذ من مصدر واحد هو كتابي المذكور وتشير إلى المصدر".
لقد تضمن كتاب الدكتور البكري معلومات مستفيضة عن نشأة عثمان الموصلِيّ منذ ولادته وعندما أصيب بالعمى وعطف محمود أفندي العمري عليه، ثم دراسته الأولى في قراءة القرآن والمقامات الصوتية والموسيقى، وانتماءه عند بلوغه إلى الطريقة القادرية وسفره الى عاصمة الخلافة العثمانية والتقائه بشيخ مشايخ الطرق الصوفية (أبي الهدى الصيّادي) واخذه عنه الاجازة بالطريقة الرفاعية، ثم دخوله قصر السلطان عبد الحميد الثاني ليكون المقرئ والمنشد له.. فنال عطفه مع تعيينه أستاذا للموسيقى في أحد معاهد العاصمة استانبول.
ولقد ترك الشيخ عثمان الموصلِيّ بصماته الفنية على الموسيقى التركية حتى أن دار الإذاعة التركية سجلت له عدة الحان باسم (طرز الحافظ عثمان الموصلِيّ) وكانت تذيعها باستمرار من الإذاعة التركية.
ونظرا لتألق شخصية المُلا عثمان بعد نشر كتاب الدكتور البكري عنه قررت مديرية الاذاعة والتلفزيون تقديم مسلسل إذاعي عنه ليذاع خلال شهر رمضان الذي كان سيحل بعد أيام. فتم العمل واختير الفنان كنعان وصفي ليقوم بدور عثمان وأذيع المسلسل من ثلاثين حلقة من دار الإذاعة العراقية وكان مسلسلا ناجحا.
ثم أنجز الدكتور البكري تأليف الكتاب الثاني عن هذا النابغة بناءا على تكليف وزارة الثقافة والإعلام والتي طلبت منه على أن يكون الكتاب بشكل قصة متتابعة الأحداث ليُعرض في حلقات بمسلسل تلفزيوني، والكتاب بعنوان (عثمان الموصلِيّ قصة حياته وعبقريته) حيث أدخل فيه بعض الاضافات.
لقد قدَّم الدكتور البكري الكتاب بعد صدوره إلى المسؤولين في التلفزيون، فجرى العمل على وضع السيناريو من قبل الكاتب القصصي الأديب عبد الإله حسن وتم اختيار الممثلين. وكان الدكتور البكري هو المشرف التاريخي على المسلسل.
كما أنجز الدكتور البكري تأليف الكتاب الثالث وعنوانه: "مع عثمان الموصلِيّ وقيثارة النغم". وقد قامت وزارة الإعلام بطبعه ونشره بمناسبة مرور خمسين سنة على وفاة المُلا عثمان.
تستذكر حفيدة المُلا عثمان السيدة المهندسة (كفاح جهاد فتحي مُلا عثمان الموصلِيّ) الذكرى الخمسين لوفاة جدها، وهي من مواليد 1959، وخريجة هندسة مدنيّة جامعة الموصل، وقد عملت مهندسة موقع في إسالة ماء بغداد، وبعد انتهاء المشروع تحولت لقسم متابعة محطات الإسالة، ثم عملت في قسم الإجازات في أمانة بغداد، ثم هاجرت هي وزوجها إلى أوربا.
تقول السيدة المهندسة كفاح الموصلِيّ: "في العام 1973 اقيمت احتفالية كبرى في بغداد بمناسبة ذكرى مرور خمسين عاما على وفاة جدنا المُلا عثمان، وقد حضرها أحفاد الملا عثمان الذكور الثلاثة أولاد ابنه فتحي مُلا عثمان: الوالد جهاد، محمود، محمد سعيد. وقد نقل تلفزيون بغداد الاحتفالية التي جرت في قاعة الخُلد. وفي تلك السنة زارنا الدكتور عادل البكري وأخذ منا كل المعلومات والتفاصيل المتعلقة بحياة جدنا المُلا عثمان".
وتضيف المهندسة كفاح الموصلِيّ: "لقد كان عندنا في البيت عكازة جَدنا المُلا عثمان الشهيرة، ويوجد معها سيف ضمن الغمد المصنوع من الفضة وعليه نقوش تُركية، وهي هدية من السلطان عبد الحميد الثاني للمُلا عثمان الذي كان من المقربين إلى السلطان. وهذه العكازة برأس نحاس بشكل راس نسر، والغمد مستدير بلون غامق، وعند سحب السيف يظهر مدخل السيف وهو من النحاس".
وتضيف الحفيدة قائلة: "لقد طلب الدكتور عادل البكري العكازة من أبي وقال إنه سيضعها في متحف في الموصل، ففرح أبي بذلك وأعطى العكازة والغمد إلى الدكتور عادل البكري. كما أخذ الدكتور عادل البكري بعض الأوراق المتعلقة بجدنا المُلا عثمان ولا أعلم ما كانت تتضمنه".
لقد علمتُ من مصدر موثوق أن المرحوم الدكتور عادل البكري قد قام بإعارة تلفزيون بغداد مقتنيات المُلا عثمان؛ بما فيها العكازة، عند قيام تلفزيون بغداد بتسجيل مسلسل المُلا عثمان سنة 1990، وكان يُذكر اسم الدكتور عادل البكري في المسلسل تحت عنوان (معالجة تاريخية). فكانت المقتنيات الأصلية للمُلا عثمان معروضة ضمن المسلسل، وقد استرجعها الدكتور عادل البكري وأخذها بعد إكمال المسلسل ولا يُعرف مصيرها الآن.
وقام الموسيقار الفنان سالم حسين/ أستاذ القانون في معهد الفنون الجميلة بإعداد الموسيقى والأغاني، وقد أخرج هذا المسلسل المخرج الراحل جاسم شعن. ولقد عُرض المسلسل في تلفزيون بغداد في ثلاثة عشر حلقة، وكان مسلسلا ناجحا حيث انهالت الطلبات من الفضائيات التلفزيونية العربية لنشر المسلسل، غير أن دخول الجيش العراقي إلى الكويت حال دون ذلك. فضاع هذا المسلسل مع ما ضاع وسُرق وأحترق.
تُعد أعمال المُلا عثمان الموصلِيّ العمود الفقري للتراث الفني العراقي، وقد ذكر الدكتور البكري: لقد سُئل المرحوم ناظم الغزالي عن لحن (يا أم العيون السود) ممن أخذه؟ قال إنه أخذه من لحن قديم من ألحان عثمان الموصلِيّ. ويذكر الدكتور البكري أن الموشحات الدينية للمُلا عثمان كانت ولا زالت تُردد ألحانه في التكايا في العراق وسوريا وبلدان عربية وإسلامية أخرى.
لقد قام الشاعر المعروف الشيخ (علي حامد الراوي) بنظم قصيدة من أكثر من عشرين بيتا أهداها إلى الدكتور البكري تثميننا لجهوده في إحياء سيرة المُلا عثمان الموصلِيّ وتوثيقها ومما جاء فيها:
أنتَ يا عثمان زدها نغمـــة... واملأ الأسماع من حسن الأداء
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى
753 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع