سقوط الكتابة.

 حاتم جعفر

سقوط الكتابة

حين أستدعيَ سقراط للمثول أمام المحكمة، جلس قبالته أربعون شخصاً لمقاضاته، وهم يُعَدّون من كبار وخيرة قضاة اليونان في عهده. تبادلوا الأدوار ووزعوا التهم فيما بينهم بغية إرباكه والتي ستصب جميعها بالنتيجة بما يفيد بقيامه في التحريض ضد الدولة وسلامة أمنها. وبعد التداول الشكلي وجودة الأداء المسرحي للقضية وعلى ما أزعم، فقد قضت المحكمة حينها بإصدار أقصى درجات العقوبة بحقّهِ والتي تمثَّلَت بقرار الإعدام. اللافت للنظر فإنَّ (المدان) وإذا ما إستخدمنا هذه المفردة إفتراضاَ فلم تهتز فرائصه ولم تجده مبالياً.
وللحقيقة التأريخة، فإنَّ سقراط (المتهم) والذي كان يُعّدٌ في حينها عن حقٍّ وجدارة بشيخ الفلاسفة اليونانيين في جمهورية أفلاطون، وعلى أرضٍ سيسجل لها التأريخ قصب السبق في هذا المجال مقارنة بسائر الدول والحضارات التي كانت سائدة آنذاك، لم يكتب حرفاً واحداً، لكنه في ذات الوقت كان متبعا أسلوبا آخر ولعلَّهُ كان ومن حيث التأثير أكثر وقعاً وليتفرَّدَ به عن سواه، حيث تمثَّلَ بالترويج لأفكاره من خلال الحلقات الدراسية والحوارات واللقاءات التي كان يجريها مع مختلف الفئات وخاصة المهتمة منها بالشأن الثقافي بشكل عام والفلسفي بوجه خاص، حيث كان ومن خلال تلك المحاضرات وما يعطيه من دروس، يبين أخطاء ونقاط ضعف مجايليه وزملاءه وعُلل ذلك العالم الذي إستهواه وشغله والمسمى بالفلسفة ، حتى بلغ به الأمر أن راح يُدحض بعضا من أبرز آراءهم، وصولا الى إهتزاز قناعات مَنْ كان يسير على خطاهم وليعيدهم الى صواب الوجهة.
وللأسباب الفائتة أصبح وبما لا يدع مجالاً للشك، وبحسب أولي الأمر وأصحاب السلطة وسدنتها، يُشكل خطرا كبيراً وماحقاً على الدولة ورموزها وقادتها، خاصة وأن نتائج توجهاته، قد بدأت تُثمرُ وتظهر للعيان وبشكل جلي، بعد أن أخذ يجتذب الى جانب طروحاته أعداداً كبيرة ومهمة من الشباب، كذلك لسخريته من تلك (العقائد) والمسلمات وذلك الجمود وبلغة يمكن وصفها وبحسب مفاهيم العصر الحديث بالخشبية. ومما زاد في قلق أصحاب السلطة والقرار، هو إصرار الرجل (سقراط) على المضي فيما إختاره من رؤى وتصورات وبقناعات راسخة، حيث راح مضاعفا من جهده وتحيده، (ممتشقا) أفكاره، مروجا لها هنا وهناك ومن دون حساب. متبعا في ذلك نهجا يمكن وصفه بالتمسك والإنحياز التام والثابت للحقيقة وبكل ما تحمله من دلالات ومعانٍ.
وإرتباطاً بأصل الفكرة وما ينبغي الإشارة اليه بل والتوقف عندها، هو أنَّ عزوفه عن الكتابة، لم يشكل نقطعة ضعف أو يمكن عدّه مثلبة، قد يروق للبعض أن يسجّلها ويحسبها ضدّه خلال سيرورة حياته الفلسفية، فالرجل لا تنقصه الحنكة والحجة لدعم أفكاره، وليس هناك من عوائق فنية تمنعه عن الكتابة على ما قد يذهب اليه البعض ويظنه، فآثاره وآرائه ظلَّت راسخة ثابتة، تتحرك على وفق حسابات ومقتضيات، إستدعتها الضرورة وما كان يمليه الواقع والأولويات آنذاك. ولأنه كان على صواب ورجاحة عقل حتى لحظتذاك فستدين له الأجيال التي تعاقبت من بعده ومنذ مئات السنين وحتى عصرنا الحالي، على الرغم من تقادم الكثير من الفلاسفة والنظريات التي حملتها معها، والتي لا تقل شأنا وقيمة عما جاء به صاحب السيرة والمقام.
وفي نهج الرجل هذا وميله الى عدم تدوين آراءه الفلسفية التي يدين في الولاء لها ويحسبها رسالة لابد من التبشير بها والترويج لها بغية نشرها على نطاق واسع وإشاعتها وعلى أوسع نطاق، ربما يكون سقراط في ذلك المنحى وفياً وحريصاً ومنطلقاً كذلك من فكرة ومقولة، طالما آمن بها وعمل بموجبها وعلى أساسها، مفادها بأنَّ (الكتابة تُعَدٌ من أسوأ وسائل التعبير بالنسبة للمثقف). عن هذا وتعليقا على ما آمن به، فللرجل ما يقول ولنا ما نقول وقد نختلف فيما بيننا على ذلك غير إنّأ سنمضي سوية فله ما له وعليه ما عليه. ثم راح مفسرا ميله هذا ومبرره بالقول وبما يفيد وعلى النحو التالي: لِما تنطوي عليه الكتابة من تفسيرات عديدة، يأتي في مقدمتها الإبتعاد عن الدلالات والغايات التي يعنيها الكاتب. وبذا سيكون سقراط قد أعلن وبصوت مسموع عن مدى حرصه وإنسجامه مع أفكاره التي دعا لها وآمن بها.
وعود على بدأ وإنطلاقا من ذات القناعة التي كان سقراط قد تعاطى معها، والمتمثلة في كيفية إيصال أفكاره وقناعاته، وبالإرتباط مع ما نراه في هذه الأيام من إستسهال من قبل البعض في شروعهم وتوجههم نحو الكتابة والنشر، دون الإلتفات الى قدراتهم الحقيقية والتي يقتضيها النص وشروطه. فعن ذلك كله فسيبرز السؤال هنا مرة أخرى: هل ضاقت بسقراط وإنحسرت فعلاً وسائل التعبير المقروءة، أم تمَّ منعه من الكتابة وبالتالي ستجده مضطراً الى إيصال ما يجول بخاطره والبوح به من خلال (الحلقات الدراسية) التي كان يعقدها بين فترة وأخرى، وبشكل خاص فيما يتصل منها بالجانب الفلسفي، الذي بات وبما لا يدع مجالاً للشك بأنه أحد رموزه الكبار ومعلميه، والذي لا زال البعض يدين لأفكاره ولطروحاته!!! وردا على ذلك فأنا أنفي ذلك جملة وتفصيلا.
وإذا ما أردنا الذهاب الى ما هو أبعد من ذلك وأعدنا صياغة السؤال وعلى نحو آخر، والذي نعدَّه على درجة كبيرة من الأهمية، فسيتمحور ويأتي على النحو التالي: هل كان الرجل حقاً يخشى (التورط) من دخول عالم النشر بإعتباره أحد وسائل التعبير الشائعة والمنتشرة آنذاك والتي لا زال معمول بها ومعتمدة حتى يومنا هذا؟ أنا أشكٌ في ذلك بل أكاد أنفي وبثقة عالية، إذ كان الرجل بإمكانه لو أراد صياغة ما يبغي الوصول اليه وبلغة شديدة الأناقة والجمال، سيراعي فيها حتماً وبكل تأكيد طبيعة الأجواء والظروف السائدة وموازين القوى، واضعاً نصب عينيه وفي حساباته القدرة على النفاذ والإلتفاف على عيون الرقيب وأجهزته، منطلقا من فكرة مفادها: أن الكاتب الحر وصاحب الرأي، لقادر على تحمل المسؤولية ومهما ترتب عليها من تبعات ونتائج. وهو أيضاً (أي الكاتب) وفي ضوء ما فات ذكره، فإنَّ مهمته الأساسية وما سيقع على عاتقه، سيتمثل في الحرص على نشره لأفكاره وإشاعة ما يراه مناسباً وصحيحاً وفي مواقيت محسوبة وبدقة، هذا إذا ما كان حقاً على قدر ما من تحمل المسؤولية .
وبالترابط مع ما يجري على ساحتنا العربية، فالملاحظ (وهنا لا نقصد التعميم) في السنوات الأخيرة، قيام بعض الصحف وحتى دور النشر وإن على نطاق محدود، بنشر مواد صحفية ما أنزل الله بها من سلطان، حيث تجدها متجاهلة عن قصد أو دونه، جوانب وشروط أساسية لابد من توافرها وترافقها مع كل مادة صحفية أو أي نصٍّ سيجد طريقه للنشر، سواء كانت سياسية أو ثقافية أو أو أو....ألخ، كوضوح الفكرة وجمال اللغة وإشتراطاتها، مرورا بإشباع المادة بكل شروطها أو على الأقل تجتاز عتبة الرضا وأيضاً تلاقي الإستحسان والتجاوب من قبل المتلقي.
فما يلاحظ وللأسف وعلى بعض (الكتاب) إنْ لاق بهم الوصف وتطابق، أصبح يُصدر أحكامه وفي مختلف المجالات، دون أن يراعي شروط الكتابة ولا الأمانة الصحفية، بحيث بات يصدر أحكامه ويغوص فيما لا قدرة له عليه، وصولاً الى محاولة الإلتفاف على عقل القارئ، وكأن الأخير لا ذاكرة له ولا رصيد معرفي. والأنكى من ذلك وفي كتابات بعضهم، تشعر بأن أكثر من يدٍ وعقل ولغة قد شاركت في كتابة نصّه المزعوم، عدا عن عدم إشارة هذا البعض الى مصادر كتابته عند إقتضاء الحال، وهذا ينطبق على المواد التي تستدعي التضمين والتي تُلزمُ ناقل النص الى الإشارة للمصدر الذي إستقى الكاتب منها معلوماته، حفاظاً على أمانة النشر والعمل بِقيمهِ المتعارف عليها والمعمول بها.

مالمو ـــ السويد

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

984 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع