جابر رسول الجابري
العولمة ..مسار أم إنهيار
*المقدمة :
مصطلح العولمة ليس بجديد على الإنسانية فقد نشأ بشكل بسيط مع بزوغ فجر المدنية والحياة الحضرية كوسيلة تهدف إلى خلق حالة تكامل واكتفاء بين حياة الريف وحياة المدينة وذلك باستخدام منهج تبادل المنتجات الزراعية و الحيوانية الفائضة عن حاجة أهل الريف بما يعادلها من قيمة للسلع الحرفية أو الصناعية عند اهل المدينة ،بعد تطور الحياة البشرية ونشوء المدن وتكاثرها اصبحت الحاجة ملحة لتوسيع رقعة التجارة كي تشمل كل المدن التي يمكن حدوث التواصل بينها بما يشبه ما نسميه الآن بالتكامل الإقتصادي ونهج التصدير والاستيراد ،
دفع هذا التطور بالإنسان إلى إبتكار وسائل ليتمكن عبرها بتنفيذ نظام عولمة التجارة وذلك من خلال تسيير قوافل تجارية بين البلدات والمدن سواء كان ذلك على شكل قوافل تجارية على اليابسة أم سفن تخوض البحار والانهار ،
استمرّت عولمة التجارة بالتوسع لتشمل عدة مجالات ونشاطات وفق حاجة البشرية ووفق مراحل تطور حياة الإنسان على الكرة الأرضية فكلما زادت المدنية كلما زاد نشاط ومجال العولمة حتى أصبحت العولمة مهنة ثم تحولت لفكر علمي ( إقتصاد وإدارة) يُدرس في الجامعات بل راحت الأنظمة السياسية الى عولمة الجامعات والدراسة أيضاً .
**الموضوع :
لقد مهدت عولمة التجارة عبر التاريخ الطريق لإنتقال الأديان والدعوة و التبشير الديني أو الفكر الفلسفي والسياسي إضافة إلى أنه ساهم في تعدد وتنوع مصادر الغذاء ،
القران الكريم كوثيقة تاريخيّة كشف عن نهج وسلوك حياة الأمم التي سبقتنا والتي باتت في حضن التاريخ ،
ومن تلك المناهج التي كانوا يمارسونها عولمة التجارة ،
وبالرغم من إختلاف وتغير التسمية عبر العصور إلا أن المنهج والممارسة باقية نفسها،
عولمة التجارة عند عرب الجاهلية كانوا يطلقون عليها تسمية الإيلاف (من الألفة والتآلف بين الشعوب) ،
فعلى الرغم من جدب مستوطنتهم لكنهم كانوا يتبادلون تجارياً عبر استخدامهم قوافل الجمال للقيام برحلتيهم التجارية واحدة شمالاً في الصيف والأخرى جنوباً في الشتاء وذلك لهدفين الاول لأجل توفير الأمن الغذائي والثاني لتقصي الأخبار
( الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) ،
قصة يوسف هي الأخرى تروي لنا كيف كانت المدينة في مصر القديمة تطلق عليها تسمية الكيل ، فكان الحاكم يُكيل الغذاء لمواطنيه وإن كانوا من سكان البادية
(قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُلَحَافِظُونَ) ،
العولمة بمجالاتها التجاري ، الديني ، الثقافي ، الأمني كانت حاضرة كنهج إنساني لابد منه هدفها توحيد مسار حياة الإنسان على كوكب الارض وتقليص الفوارق في أسلوب و منهج حياة و عيش المستوطنات البشرية على الرغم من استغلالها من قبل السلطة الحاكمة و جشع التجار،
أول تطور لإتساع مفهوم عولمة التجارة حدث في جزيرة العرب عندما راجت أنذاك تجارة العمالة البشرية الواردة من أفريقيا (الحبشة) لوجود فائض بشري في أفريقيا دفع الكثير منهم إلى الهجرة لجزيرة العرب عبر اليمن والشام ،
لكن سرعان ما تحولت تجارة العمالة البشرية إلى تجارة العبيد فأصبح التاجر سيداً قرشيا و والعامل عبداً حبشيا ( ولهذا روج ذوو الفكر الظلامي في الإسلام بأن القرشي هو السيد والباقي عبيد ( على الرغم من أن الإسلام حرم هذه النظرة العنصرية ) ،
في حين كانت العبودية عند الأمم الأخرى هي من نتاج أسرى الحروب ولا يوجد عندهم مفهوم السبايا ،
أما عند عرب الجاهلية كان العبيد هم نتاج العمالة أو من يقع تحت طائلة الدَين والفاقة حيث تتم معاملته بالظلم والإضطهاد و بلا حقوق وبلا حرية ،
أما السبايا من النساء والأطفال فكانوا أيضاً عبيدا بلا حقوق ولا حريات بل كانوا يستخدمونهم للهو والمتعة الجنسية ،
لهذا نجد أن ثقافة العبودية والسبي قد تأصلت في المجتمع العربي منذ زمن الجاهلية ثم انتقلت للأجيال اللاحقة بالرغم من أن دين الإسلام منع هذه الثقافة ومع علمهم بأن الرسول العربي ص لم يسبي ولم يتخذ سبايا ولم يتخذ من المشركين الأسرى عبيداً له أو لصحابته بل كان هدفه هداية الناس لدين حنيف ومحاربة الفكر العربي الجاهلي وتقاليده الظلامية ومنها ثقافة السبي والعبودية إلا أن المجتمع العربي أصر على إمتلاكه موروث ثقافة آبائه وأجداده فاستمر على نهج تلك النزعة الجاهلية ،
وبمجرد أن توفي الرسول ص تم دس الموروث الجاهلي كتراث اجتماعي إسلامي ثم اتخذوها سُنة لابد للأجيال أن تحتذي بها،
بعد نهاية خلافة الصحابة تحول نظام الحكم الى حكم وراثي ( ملك عضوض ) لكن بحلة دينية مما سهل ظهور عرف اجتماعي وديني جديد يعتمد على نظام التوريث سواء توريث الدين أو توريث السلطة وتم وضع شرط أن يكون السلطان قرشيا حصرا أو الإنتماء للقرشية ولو كذباً ،
ومن أجل أن يتقبل الناس تلك الممارسات التي اطلقوا عليها سُنة ونهج ديني نشأت في المجتمع العوائل الدينية التي أفرزت عمائم فاسدة وحرفت الدين وفقا لرؤيتها ولنزواتها
كما وأفرزت أيضا سلالات حكم أطلقت على نفسها جزافاً تسمية خلافة إسلامية وبالرغم من أن الإسلام أكد على عدم توريث الحكم لأن الحاكمية تتم بالشورى ،
وكذلك الدين لا توريث فيه والمقصود بحديث ( نحن الأنبياء لا نورث ) أي لا توريث للنبوة أو في الدين ،
لقد انتقل مفهوم استخدام العمالة كعبودية في منتصف الألفية الثانية بعد الميلاد إلى الغرب عن طريق ثقافة العبيد والسبايا زمن الخلافة العثمانية،
وبمجرد ظهور حاجة الغرب لجلب عمالة من أجل إستخدامهم في الزراعة أو الرعي أو كعمالة في تشغيل المصانع بسبب النهضة الصناعية تم إعتماد نظام العبيد في مجتمعهم ،
لكن سرعان ما تلاشى هذا النظام بداية القرن العشرين عند ظهور منظمات حقوق الإنسان وتم فتح نظام باب الهجرة واللجوء كبديل عنه من أجل سد خلل العمالة ،
عند بزوغ فجر عصر الصناعة والنهضة ظهرت الحاجة أيضاً للمعادن والمواد الأولية التي تعتبر الركيزة الأساسية لوجود الصناعات ، كما ولابد من إيجاد منافذ لتسويق المنتجات الصناعية لهذا تمدد فجأة مفهوم العولمة فإتجه ليشمل مصادر المعادن والمواد الأولية فسارعت الحكومات إلى الاستيلاء عليها والتجارة بها ،
لهذا اتجهت الدول ودخلت في سباق محموم شرقا وغربا على الكرة الأرضية للحصول على مصادر الطاقة والمعادن مما نتج عن تلك السباقات ظهور مفهوم عولمة الحروب و عولمة الصراعات الدولية ثم تلاها عولمة الجيوش ولهذا تم نشرها في بقاع الكرة الأرضية وتم بناء ونشر قواعد عسكرية مسلحة ،
تطاول مفهوم العولمة فشمل أيضا على عولمة السلطات والحكومات السياسة وعولمة الأمن والتجسس وعولمة العلوم والتربية وعولمة الصحف وقنوات الإعلام ،
ظهر السباق في قيادة العرلمة بشكل محموم والانشطار على دهاليز حياة الإنسان بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وظهور قطبين دوليين قطب شرقي واخر غربي ،
لم يكتفي الإنسان بعولمة الكرة الأرضية فقط بل اتجه إلى البحار والمحيطات ثم دلف متجها إلى السماء فراحت الدول والشركات تتسابق للاستيلاء على كواكب المجرة الشمسية بل زاد خيالهم أكثر في حاضرتنا فراحوا يُراقبون خارج المجرة الشمسية أملاً بالوصول لعولمة المجرات المتموضعة خارج المجرة الشمسية ،
اليوم نعيش في مفترق بعد سطوع قوى دولية وضعت نظام القطب الأوحد في الزاوية وأمام مفترق طرق إما الحرب ورسم نهاية الإنسانية على الأرض أو قبول ثنائية أو ثلاثية الأقطاب الدولية التي ستقود العولمة الجديدة ،
فهل هي البداية لعصر عولمة حديثة أم هي إنهيار نظام عولمة الإقتصاد والسياسة القديم ،
فهل سيولد نظام عولمة إقتصادي جديد
وهل سيبقى الدولار سيد قرشيا أم سينتهي به المطاف إلى عبدا حبشيا .
المملكة المتحدة - الثامن من نيسان 2025
**************
المصادر :
ما بعد العولمة / أريك جاردن وأمري زيمان
معضلة العولمة / داني رودريك
رؤية الكاتب وقرائته لنشوء العولمة ومسارها
1521 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع