مجيد ملوك السامرائي [*]
بـغـداد نشأتها وتوسعاتها وتخريبها
بهدف التحقق ابتدءا من تعيين موضع مدينة بغداد عند انشائها وهو جزء من موقعها؛ نحتاج إلى الدقه في ذلك من الذين وصفوها جغرافيا من القدماء أمثال الخطيب البغدادي وياقوت الحموي وان لم يعاصروها، وما تيسر لاحقا من الكشوف الاثارية، وباعتماد تكنولوجيا المعلوماتية المتاحة الان وفقا لنظم المعلومات الجغرافية وتطبيقات الذكاء الاصطناعي المناسبة للتحليلات الجيومكانية للمرئيات الفضائية والصور الرادارية والليزرية والجوية لمتابعة التغيرات المكانية على المدى الزمني. ومدينة (بغداد المدوّرة، أو المنصور، أو العبَّاسية، أو مدينة السَّلام كما عُرفت به رسميًا) أسسها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور عام 145هـ / 762م، وشيدت على الضفة الغربية لنهر دجلة عند بقايا قرية بغداد القديمة. واستهدف المنصور جعلها مقرا رسميا عاصميا للخلافة العربية الإسلامية العبَّاسية.
الموقع الجغرافي لمدينة بغداد المدوّرة وفق الوصف الأول الذي ورد بالنصوص التي دونها القدماء؛ وقوعها على ضفاف نهر دجلة الغربية، ما بين مجرى النهر الذي غير مجراه مرارا بسبب الفيضانات المدمره، وبين مجرى نهر الصراة الذي يتفرع من نهر الفرات، ومساره اصبح يحاذي جنوبي غربي إحدى بوابات المدينة بعد تشييدها، ومنه (أُنشئ نهر كرخايا لتغذية الاجزاء الغربية للمدينة، والذي شُقّت منه أيضا؛ قناة بطول أحد عشر كيلومترا تقريبا للخندق الذي أُحيط بالمدينة)، ومن بقايا نهر الصراة الحديث مسار نهر الخر الذي يمر حاليا في منطقة المنصور/ حي دراغ غربي بغداد.(1)
التخطيط العمراني وتوىسع المدينة
الأبعاد الهندسية التقريبًة لمدينة بغداد المدورة لكل من؛ مساحتها الكلية داخل سورها سبعة كيلومترات مربعة، وبقطر كيلومترين ونصف، ومحيط سورها الدائري تسعة كيلومترات ونصف، وتحيط بمركز المدينة أسوار دائرية قوية مكونة من ثلاثة أسوار متداخلة فيها أربعة أبواب (خراسان، الشام، الكوفة، البصرة) ولكل باب برج مراقبة، اما الشوارع الرئيسية فتمتد من هذه الأبواب إلى مركز المدينة، وخلف الاسور احيطت المدينة بخندق عميق لتعزيز دفاعاتها وشُقّت له قناة من نهر كرخايا ليجري فيه الماء ليشكل أحدى التحصينات العسكرية للمدينة، ويتوسط مركز المدينة المسجد الجامع/ المنصور يجاوره قصر باب الذهب عند تقاطع قُطرَيها المتعامِدَين، ومكتبة دار الحكمة، وتميزت المساجد والقصور والقباب بالزخرفة بأشكال هندسية أو نباتية. تميز مخطط مدينة بغداد المدورة بأسوارها الدائرية ومركزها المتوسط بأتخاذها شكلًا هندسيًّا منتظمًا دائريًّا كامل الاستدارة، وعليه عدت ظاهرة الجديدة في الفن المعماري الإسلامي، ومثلت قمة الإبداع الهندسي والتخطيط الحضري مما جعلها نموذجًا فريدًا في تاريخ المدن. وقد عانت المدينة لموقعها على ضفاف نهر دجلة من مشكلات الفيضانات المتكررة نتيجة لنظامً النهر الجيومورفولوجيً المعقدً والمتغيرً بالتعرية بنحت الضفاف والترسيب المتراكم مما افضى الى تغير مسار مجرى النهر باستمرار عبر الزمن، وشهدت المدينة اربعة عشر فيضانا عارما بين عام 186هـ/ 802م أي بعد حوالي 40 سنة من تأسيسها، وعام 654هـ/ 1256م، وقد أثر ذلك بشكل كبير على المدينة وسكانها عبر تاريخها.
بعد بناء بغداد المدورة وتزايد السكان فيها وتجنبا للاكتظاظ السكاني سمح الخليفة الثالث محمد المهدي في عام160هـ / 776م، بالبناء في الضفة الشرقية المقابلة للمدينة المدورة واسماها الرصافة ( الجانب )، ثم شيد جسرا بينهما كمدينة واحدة. وفي عام 279هـ / 892م فضل الخليفة أحمد المعتمد نقل دار الخلافة الى الرصافة، وتبعه في ذلك كافة الخلفاء من بعده حتى سقوط الخلافة العباسية، واتخذو من قصر المأمون وهو قصر قديم دارا للخلافة؛ لأقامة الخليفة ومقرا لدواوين الدولة، ثم قام الخليفة المعتضد بضمه لقصر الفردوس الذي بناه، وجعل منهما (قصر التاج), "وطبقا لخرائط جونز/ 1852م واطلس بغداد/ 1952م وكوكل/ 2022م" كانت قصور الخلفاء العباسيين الرئيسة في الرصافة مجاورة لكل من؛ مقبرة (باب أبرز للخلفاء العباسيين خارج قصورهم)، وموضعها محلة البارودية في منطقة الميدان، ومحلة (المخرم وفيها مبنى طاق قصر الخليفة العباسي المأمون القديم)، وموضعها القلعة/ وزارة الدفاع في باب المعظم، و(جامع القصر)، وموضعه جامع الاحمدي في الميدان، و( قصر ام حبيب ابنة هارون الرشيد)، وموضعه قصر الحرم شرقي القصر العباسي في الميدان. وشيد الخليفة المستظهر بالله سور بغداد/ الرصافة عام 488هـ / 1095م، بخمسة ابواب ابرزها باب المعظم والذي دخل منه تخريبا وتدميرا المغول بقيادة هولاكو عام 656هـ / 1258م )). (2)
الكشف الآثاري والتحليل الجيومكاني
بداء الكشف المكاني لموضع مدينة بغداد المدوَّرة عام 1420هـ/ 2000م مع الشروع في مدينة بغداد الحالية بتكسية شواطئ ضفاف دجلة بالحجر، وقبل التكسية عثرت لجنة مرافقة من مؤسسة الاثار العراقية على؛ لَقًى أثرية (قوارير، كِسَر فخارية مزخرفة/ نباتية وهندسية، مسكوكات، وقطعة فخار دائرية فيها أختامُ الخليفة المنصور)، كما عُثر على جدار أثري مغمور بالماء بعمق ستة أمتار، وتكشفت الأسس الضخمة لبقايا قاعة كبيرة، من المحتمل ان تكون قصر المنصور الذي عُرف بقصر باب الذهب. وهكذا فأن الكشوف الآثارية هذه تتوافق مع ما ورد في كتابات المؤرخين القدماء. (3)
تأكيدا لما تقدم نحاول الان؛ استخدام معطيات كل من؛ الخرائط الكارتوغرفية وخرائط الكوكل ايرث والتحليلات الجيومكانية للمرئيات الفضائية، والتي أظهرت أن (ضفة نهر دجلة الغربية) التي جرى فيها الكشف الآثاري المذكور (حاليا مقابل كورنيش الأعظمية)؛ خارجة عن مسار النهر بفعل النحت/ الجرف المستمر لها، وعميقة الشاطيء، خلافا للضفاف المجاورة في شماليها وجنوبيها الحاوية على الرواسب المتراكة؛ وذلك ما يدل على تعرية مياه النهر بنحت هذه الضفة باستمرار عبر الزمن وأدى الى جرف الضفة، وبالتالي جرف نصف المدينة المدورة تدريجيًّا نحو قاع نهر دجلة.
التحليل الطيفي بالألوان المتعددة للمرئية الفضائية لضفة النهر هذه وجوارها؛ اتاح رؤية "هالة دائرية" نصفها تحت سطح مياه نهر دجلة والنصف الاخر تحت سطح ترب الضفاف، وموقعها الفلكي حول تقاطع خط طول 44.3141 شرقا، ودائرة عرض 33.3611 شمالا. ان هذة الهالة تشيرنا الى اطلال السور او اطلال الخندق الدائري الذي كان يحيط بالمدينة بطول تسعة كيلومترات ونصف.
هـكذا يمكن التقرير بان؛ بغداد الحالية بتوسعها المساحي المتواصل هي استمرار للعاصمة العربية الأسلامية العباسية "مدينة بغداد المدوره" ، والتي تقع جغرافيا عند الضفاف الغربية لنهر دجلة، وعبر عشرات السنين ساد الرأي والرأي الاخر لدى الباحثين بصدد الموضع المكاني للمدينة ضمن موقعها، والمؤكد؛ تشييد مدينة بغداد المدوره على ضفة النهر وليس حافته، وأن المساحة الكلية للمدينة المبنية وسورها وخندقها وجوارها من الترع والمزارع والتجمعيات الريفية شغلت مساحة واسعة من الأراضي، وقد توصل التحليل السابق إلى تعرض أجزاء كبيرة من مركز المدينة للغرق، وعليه فأن موضعها المكاني الأن هو؛ "ضمن الأضلاع الوهمية للمثلث المساحي الذي يبداء من مركز المدينة المدوره على ضفة نهر دجلة الغربية (شمالي مقتربات جسر الاعظمية حاليا)، وباتجاه شمالي غربي نحو ساحة عدن/ الكاظمية، وباتجاه جنوبي غربي نحو مسار شارع مطار المثنى". ولا نعلم حاليا حدود أبعاد الاتجاه غربي مركز المدينة المدوره.
[*] مجيد ملوك السامرائي، جغـرافـي، كاتـب ومـؤلف وأستاذ جامعي.#ويكيبيديا.
المـراجـــع
(1) الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج1، مكتبة نور،
https://www.noor-book.com
(2) مجيد ملوك السامرائي، باب المعظم وبغداد، مجلة الكاردينيا،2022،
https://algardenia.com
(3) عماد عبدالسلام رؤوف، أكتشاف مركز المدينة المدوَّرة، شبكة الألوكة، 1439هـ/ 2017م،
951 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع