د. صبحي ناظم توفيـق
26 نيسان 2025
إلى جنات خُلْدِ ياأستاذنا الكبير "حبيب عبدالجبار الهرمزي"
صبيحة الخميس 10 نيسان 2025 فُجِعتُ، من دون أن أُفاجأ، إلى جانب أخي الغالي وأستاذي المُبجَّل "أرشد الهرمزي" وجميع أفراد عائلة "الهرمزي" الكَركوكية الموقّرة، ومعنا كلّ تركمان العراق وسواه في بقاع أوطانهم، بخبر وداعك لنا يا أخانا الكبير وأستاذنا المحامي والعالِم الفاضل "حبيب عبدالجبار الهرمزي" من هذه الدنيا الفانية، وإنتقالك إلى جوار العليّ العظيم عن عمر ناهز 92 سنة، لتعيش -بإذن الباريء عزّ وجلّ وفضله ورحمته- في فردوس جنات خُلْدٍ على مقعدِ صدقٍ عندَ مَليكٍ مُقتَدِر.
لم يكن الخبر صاعِقاً بل متوقعاً، ولو على مضض.. إذْ كنا نترقّب بأَلَم بالغ تراجع صحتك في أيام شهر رمضان المبارك، حتى جاءني الخبر المؤلم ليهزّني من أعماقي ويلصِمَ لساني من عِظَم إحترامي لشخصك الغالي ومعزّتي لذاتك الوقور منذ أوائل الستينيات من القرن الماضي ولغاية يومنا الراهن، حتى تناولتُ المصحف الكريم لأتلو على روحك الطيبة المعطاء سورة يس، والتي ما كنتُ أنتهي من ختمها مرة حتى أؤدي ركعتين من الصلوات على روحك المعطاء مع الدعوات، وقبل أن أعود إليها ثانية وثالثة حتى صلاة الظهر.
واليوم وبعد فراقك الجلل، ها أنا أمسك القلم مُحـتاراً في أمري يا أخي الكبير وأستاذي المُبَجّل بماذا أبدأ؟ ومن أين؟؟ وكيف أنتهي؟؟؟ إذْ أُخاطِبك من هذه الدنيا الدنيئة وأنتَ في جنات خُلْدٍ بإذن العليّ المقتدر.
لقد وُلِدْتَ عام 1933 وسط عائلة "الهرمزي" ذائعة الصيت، من أبوين تركمانيّين وسط مسكنٍ واسع وراقٍ في حيّ سكنيّ يحمل إسم عائلتكم الكريمة والمعروفة بين تركمان العراق، يتوسّطه ديوانٌ إجتماعي وثقافي يقع في محلّة "بكلر" بقلب الصوب الجديد (القورية) في الشطر الغربي من "كركوك" الحبيبة، يؤمّه العديد من شخصيات المدينة بمعدلات يومية وأسبوعية.
وأعلم أنك الإبن الثاني لوالِدَيك من مجموع خمسة أشقاء وهم على التوالي:- "نهاد، حبيب، صايْغِن، آيدن، أرشد"، كما أعلم أنك أنهَيتَ الدراسة الثانوية سنة 1950 بعمر 17 سنة من دون أن تتأخّر في أيٍّ من مراحل الدراسة، وقبل أن تُقبَل طالباً في كلية الحقوق ببغداد وتنال شهادة البكالوريوس في قسم القانون بتفوّق عام 1954 وتعود إلى كركوك لممارسة المحاماة وتبرز فيها في غضون ست سنوات لغاية 1960، حتى قررت خوض الحياة الوظيفية لدى وزارة الأوقاف، لتسلسل في المناصب بعرق جبينك لغاية تبوّئك منصب "مدير عام العلاقات والإرشاد" بالوزارة، وبرزت في أدائك وسعة صدرك ونظافة يدَيك من الشوائب والأوساخ المغرية بشهادة الجميع، إلى جانب حصولك من كلية الحقوق- جامعة بغداد سنة 1975 على شهادة الماجستير بالقانون العام، فتلقي من بعدها دروساً في مجالات القانون المتنوعة إلى جانب محاضرات لتعليم اللغة القانونية التركية في صفوف تلاميذ كلية الإمام الأعظم لأربع سنوات متتالية.
المحامي "حبيب الهرمزي" الجالس الأول من يمين الصورة بين محاميي كركوك في أواسط الخمسينيات.
المحامون التركمان الأصدقاء الثلاثة:- محمد الحاج عزّت، عطا ترزي باشي، حبيب الهرمزي في شبابهم
وقبل ذلك ذاع صيتك في كل كركوك ومعظم بقاع تركمان العراق بصفتك مُحامياً تطوعتَ -من دون مقابل ومردود مادي- للدفاع عن حقوق العديد من عوائل الشهداء التركمان الذين غدرت بهم أيادٍ مجرمة خبيثة، في تلك المجزرة الوحشية التي فرضت أوزارها بحق أشراف التركمان في بيوت وشوارع كركوك العزيزة خلال ثلاثة أيام دموية من أواسط تموز 1959 المشؤوم، وذلك لدى محاكمتهم أمام المجلسَين العسكريّين العُرفِيّين، حتى حلّ خريف عام 1964 وقتما وقفتُ أمام قامتك المُبَجّلة في باحة مكتبة نادي الأخاء التركماني في "العيواضية" لأعرّفك بذاتي ضابطاً برتبة ملازم ثانٍ في الحرس الجمهوري وكوني أحد أقربائك عن بُعد، حيث كنتَ منشغلاً بإعداد عدد قادم من مجلة الأخاء (قارداشلق) الغراء والتي كنتَ سكرتير تحريرها، بل والقائم على كل أمورها باللغتين التركمانية والعربية بدءاً من جمع مبيضات المقالات المكتوبة بخط اليد وتدقيقها ومتابعة طبعها وإصدارها من دون راتب ولا أجر، وتوزيعها وإرسالها إلى كركوك وعدد من محافظات العراق وأقضيتها طيلة 14 سنة متتالية (1961-1976)، فضلاً عن كونك من أنشط وأبرز أعضاء الهيأة الإدارية المنتخَبة للنادي طيلة عقد الستينيات.
وأفتخر من الصميم بِتَوَطّد العلاقات الأخوية بيننا، حيث كان مسكنك المستأجَر قريباً من مسكن عائلة السيد رئيس الجمهورية "المشير الركن عبدالسلام عارف"، والذي كنتُ أُكَلّف بمهمة حمايته وقتما يحضر لزيارة عائلته مرة أو مرتين بالأسبوع، حيث كنتَ تشرّفني بزياراتك النادرة في ثكنة الحماية المتواضعة بين حين وحين، وذلك قبل أن تضحى عَديلاً لِعَمّي "رائد الشرطة سامي توفيق بك" وتتوطد علاقاتنا ونتبادل الزيارات العائلية في بغداد، إلى جانب لقاءاتنا داخل نادي الأخاء التركماني في مناسبات عديدة، وفي خارجه لدى مشاركاتنا بسفراته نصف السنوية في ضواحي بغداد.
وبإنقضاء الأيام ومضيّ العمر والأعوام وتبوّئك مناصب رفيعة لدى ديوان وزارة الأوقاف، فقد تَلَمَّسْتُكَ -كما تلمّس فيك كل من عرفك وتعامل معك وجالسَك عن قرب- إنساناً بكل ما في الكلمة من مَعانٍ، مثقّفاً يصعب مضاهاتُه ومجاراتُه، ضالعاً بمناحي اللغة العربية الفصحى، واللغة التركية قديمها وحديثها، مستحضراً على طرف لسانك الفصيح المئات من أبيات الشعر، قديمه وحديثه، ومن الحِكََم والمواعظ، حافظاً للكثير من آيات المصحف الكريم، مستوعباً تفاسيرها وأحداثَها، هاضماً لمعانيها ومفرداتِها، وكذلك من الأحاديث النبوية الشريفة، مُمسِكاً بشآبيب الإسلام الحنيف بإعتدال من دون تطرّف، مجتهداً، محبوباً، ذكيّاً، متفوّقاً، محترماً، وَدوداً، حَسَنَ الهِندام، سَلِس الكلام، مُمتِع الحديث، مُجيد الإنصات، حاضر البديهة، صائب القرار، حَسَنَ المَعشر، دَمِثَ الأخلاق، كريم النفس عزيزها، معتدِل الآراء، واصِل الأرحام، حازِماً وحاسِماً لا تأخذه في قول الحقّ لومة لائم، متواضعاً، مدرِكاً للأمور ومقدِّراّ بأن لكل مقام مقال، مستحضِراً على طرف لسانك أبيات شعر ةحِكَماً ومواعِظ رصينة، عزيز النفس وزاهداً بأمور الدنيا، نظيف اليد، مترفِّعاً عن المادّيات، لم تَغُرْكَ المُغرَيات المتاحة أمام ناظريك، فقد كنتَ أعظم منها وأرفع.
ولذلك أجلّك الجميع من دون إستثناء، أقرباءً وأصدقاءً وزملاء، وإحترموك عن قناعة وإرتاحوا بترحابك وحسن إستقبالك لهم، ليس من أجل مصلحة بل تقرّباً لشخصك ومواصلةً لصداقتك، وتمتّعاً بمزاحاتك، والإستمتاع بأحاديثك المليئة بالنصح والإرشاد والحكمة والموعظة الحسنة، ودروس التأريخ القديم والوسيط والمعاصر التي تعمّقتَ فيها وأجِدتَ سردَها على مسامعهم.
ورغم إغتباطك بالدم التركماني السائر في عروقك وتفاخرك به وتحمّسك له، لكن التعصّب أزاء هذا الطرف أو ذاك لم يَدُر ببالك، وبالأخص في حياتك الوظيفية الحساسة، فقد بقيتَ متَرَفّعْاً عنه في سنيّ شبابك وطوال حياتك المديدة... ولربما يكون السبب الأساس في ذلك نشوؤك وترعرعك في كَنَف أبٍ مثقف وبيئة نظيفة معدومة الشوائب وعائلة مرموقة ذات أصول وجذور.
وأشهد كَمْ ذاع صيتك وبقيتَ محبوباً ومرموقاً يحترمك الجميع عند تبوّئك منصب المدير العام للحقوق والأراضي في وزارة الأوقاف العراقية، والتي أفدتَ به وطنك العراق أعظم بكثير مما أفدتَ ذاتَك وعائلتَك وأقرباءَك، حتى فوجئنا بين عشية وضحاها بتركك لمسكنك القريب من قناة الجيش ببغداد مع العائلة، والقفز سريعاً خارج الوطن العزيز تاركاً وظيفتك وبيتك على حاله مع كل محتوياته، وذلك حال علمك بتنفيذ النظام الصدامي حكم الإعدام يوم 16/1/1980 بحق أربعة من أبرز المناضلين التركمان المُطالِبين بحقوق قومهم وقوميتهم في وطنهم العراق، وذلك خشية أن تصطف إلى جانبهم بالمشنقة، أو يصيبك ضرر كبير لإرتباطك بصداقة حميمة معهم وقربك منهم في المشاعر القومية، وكونك في مقدمة الشخصيات البارزين وأصحاب الرأي والقرار في نادي الأخاء التركماني منذ تأسيسه عام 1960، وغير مُنْتَمٍ لحزب البعث على الرغم من الضغوط غير المستغربة التي مُورِسَت عليك.
وبعد فراقك عن وطنك الغالي مع العائلة، وعوضاً عن الإعتماد على أي قريب أو بعيد في تسيير حياة عائلتك اليومية وأمورها المادية وتحقيق مستقبل بناتك الثلاث اللواتي كُنَّ ما زِلنَ بعمر الورود، فإنك رفعت رأسك عالياً وعدتَ لمهنتك الأصل في ممارسة المحاماة، مستثمراً شهادتك الجامعية وخبرتك الميدانية وتدرجك الوظيفية، وإتقانك للّغتين التركية العثمانية (بالحروف العربية) والحديثة )بالحروف اللاتينية( إلى جانب تعمّقك باللغة العربية وإجادتك للغة الإنكليزية، لتعمل مستشاراً لقنصلية الجمهورية التركية في مدينة "جدّة"، وبصفة محامٍ في الوقت ذاته للدعوات القانونية لصالح مواطني المملكة العربية السعودية وسواها لنيل أو إسترداد حقوقهم الموروثة من ممتلكات وأراضٍ تعود لآبائهم وأجدادهم الذين كانوا مواطنين عثمانيين طيلة قرون مديدة من عمر دولتهم الإسلامية، والتي إحتفظ بها الأتراك بكل أوراقها ومستنداتها ومستمسكاتها بعد تفكك دولتهم وإنبثاق جمهوريتهم، ورَتّبوها وسط آراشيف رصينة تُبهِر الناظر والمتابع، وتُعَدّ الأدقّ والأضبط بين كل دول العالم.
وبعد أن أعِدتَ تكوين نفسك وتأمين مستقبل عائلتك بعرق جبينك العالي، عدتَ في سنة 1992 إلى "تركيا" مستقراً في مدينة "إزمير" لغاية 1995، قبل أن تنتقل إلى "آنقرة" لتشغل فيها منصب "رئيس مركز العراق للدراسات والبحوث" لغاية 2003، ثم أضحيت رئيساً لتحرير مجلة "كلوبال ستراتيجي" الرصينة لأربعة أعوام متتالية (2005- 2009)، ثم مستشاراً لدى مركز الشرق الأوسط للدراسات الستراتيجية لغاية تفضيلك الركون إلى بعض الراحة في أواخر أعوام عمرك المديد.
ويسجل لك تأريخا العراق وتركيا بحراً من المؤلفات والدراسات والبحوث والمقالات والمحاضرات والتراجم التي خُضتَها بلغات متعددة ولهجات متنوعة من تلك التي حضرتُ عدداً ضئيلاً منها أو تابعتُها عن كَثَب، ومن بينها على أقل تقدير:- 10 كتب باللغة العربية، 3 كتب باللغة التركية، 5 كتب مترجمة من التركية إلى العربية، 40 بحثاً ودراسة باللغة العربية و35 باللغة التركية، إلى جانب العديد من المحاضرات التي ألقيتَها لدى ترؤسك مؤتمرات وندوات تأريخية وجغرافية وسياسية وعلمية... وبشكل عام أقول أنك كنتَ بحراً من النشاط والمثابرة لخدمة تركمان العراق على وجه الخصوص وتسليط الأضواء على قضاياهم ومعاناتهم، والتي جاهدتَ طيلة حياتك المديدة لإبرازها أمام الأنظار.
وختاماً يبدو الفراق المؤقّت بيننا وكأنه قد حلّ لأودّعك بهذه الأسطر الضئيلة بحقك، والتي لم تَشْفِ ولو بعضاً من غليلي، أو تُهَدِّيء جزءاً من إرهاصات فراقك الغالي في لحظات هذا الفراق الموجع، في حين تظلّ روحك الطيبة الحائمة في جناتٍ نعيم نبراساً يُنير حياتي ويُصاحبني كي لا أنساك ولو للحظة مما تَبَقّى من عمري.
ولكن الذي لا أكتمك فيه أن لا أحد يعوّضني وجميع تركمان العراق عنك أو يحلّ في نفسي وقلبي محلّك، قبل أن نترجّاك أن تنام رغيداً، قرير العين، هانئاً بمِليء جفونك ولا تكترث، فأنت وَمَنْ سَبَقَكَ من العلماء الأجلاّء والشرفاء من الطراز ذاته سنلحق بكم، بعد أن أمسَينا في خريف العمر.
فوداعاً يا أخي الغالي وأستاذي المُبَجّل "حبيب عبدالجبار الهرمزي"، ومن العليّ القدير والواحد الأحد على روحك الطاهرة المعطاء مليون مليون رحمة، فأنتَ أنتَ أهلٌ لها.
وأخيراً لا يسعنا إلاّ أن نستذكر أن لَنْ يصيبنا إلاّ ما كتب اللّه لنا، وإنا للّه وإنّا إليه راجعون، شئنا ذلك أم أبينا، فتلك إرادة العليّ القدير الذي لا يُرَدُّ مهما طالت أعمارنا في هذه الدنيا الفانية.
مخلصك وصديق عمرك
د. صبحي ناظم توفيـق
إستانبول في 26 نيسان 2025
954 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع