الدكتور محمد العايدي*
البابا فرانسيس جسر الأديان وصوت الإنسان
لم يكن البابا فرانسيس مجرد زعيم روحي للكاثوليك، بل كان يترجم هذه الزعامة إلى واقع ملموس يحمل على عاتقه هم الإنسانية، متجردا من كل ما يميز ويفرق بين البشر، ساعياً إلى بناء عالم لا تختزل فيه الإنسانية في صراعات الأنا وإثبات الذات، بل تترجم فيه الأديان إلى جسور محبة وبناء وسلام.
لقد كان أول بابا يأتي من خارج أوروبا منذ قرون طويلة، وأول بابا يحمل روح الفقراء بصدق وبلا شعارات، إذ لقب بـ”بابا الفقراء” بجدارة، فترك قصر البابوية الفخم المخصص لسكن البابوات واختار السكن في شقة صغيرة، متواضعًا في عيشه كما كان عظيمًا في رسالته.
ففي زمن التفكك تظهر المعادن حيث كان صوتا للحمة، وفي عالم يتشظى على أساس التمييز في كل شيء كان يدعو إلى أنسنه كل شيء، فمبادرة “الأخوة الإنسانية” التي أطلقها مع الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب لم تكن ورقة للتاريخ، بل وثيقة للأمل، يرى في الدين قوة للبناء لا للهدم، حيث أطلقا معاً صرخة مدوية بصوت واحد وصل صداه إلى أرجاء المعمورة فأعلنا أننا: “أخوة في الإنسانية”، قبل أن نكون خصوماً في الدين.
هنا تظهر الشخصية الاستثنائية وتتحقق الرمزية فيمن يملك لغة الحوار لا لغة الجدال، ففي إحدى كلماته المؤثرة قال: “يجب أن نبني مستقبلاً يقوم على اللقاء والحوار لا على المواجهة والصراع”، وكان دائماً ما يناصر المظلوم من كل الأجناس لا على أساس الدين أو العرق، بل على أساس إنسانيتهم، حيث لم يكن محايداً في وجه الظلم، بل كان منحازاً دائماً إلى الضعفاء الذين أوصى بهم كل الأنبياء على الإطلاق وقالها بوضوح: “لا يمكننا أن نبقى صامتين عندما يعاني الآخرون من العنف والظلم والتمييز”.
ولم يكن موقفه من القضية الفلسطينية بعيداً عن هذا النهج، بل كان مدافعاً ثابتاً عن قضية وحقوق الشعب الفلسطيني وقد رفع العلم الفلسطيني لأول مرة في حاضرة الفاتيكان اعترافاً ضمنياً بالدولة الفلسطينية، كما أن مواقفه من غزة وما تتعرض له من إبادة جماعية حاضرة، حيث بعث برسائل عديدة للعالم كان اخرها قبل وفاته بساعات بأن الوضع في غزة مأساوي ومخجل، وكان يقول: “قلبي مع غزة”، وهذا الموقف كان تجسيداً حقيقياً لصدق دعوته والتزامه بالقيم الإنسانية.
وفي مواقفه السياسية لم يكن البابا فرانسيس أسير البروتوكولات الدبلوماسية، بل وقف بشجاعة ضد سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، منتقدًا توجهاته العنصرية وسياساته الانعزالية، معلنًا رفضه لكل من يبني الجدران بدلاً من أن يمد الجسور، حتى قال عنه يوما في فترة ولاية ترامب الأولى : " من يبني الجدران لا يمكنه أن يكون مسيحياً"، في مشهد نادر لزعيم ديني يتخذ هذا الموقف القوي.
بهذا المعنى لم يكن البابا فرانسيس رجل دين فحسب، بل استطاع أن يجعل من موقعه منبراً عالمياً للحوار بين الأديان، والدعوة إلى العيش المشترك، للتلاقي لا للتنافر، ليكون رمزاً للأمل، والطيبة، والسلام، كما قال جلالة الملك عبد الله الثاني في نعيه: “كان رجل سلام حظي بمحبة الشعوب لطيبته وتواضعه”.
وتجلت رؤيته الإصلاحية في محاولاته الحثيثة لجمع الكنائس وتقريب المسافات بين الطوائف المسيحية المختلفة، وهو ما ميزه عن سلفه البابا بنديكتوس السادس عشر، الذي كان يوصف بالاقتراب السياسي من الولايات المتحدة، بينما جاء فرانسيس ليحمل راية التسامح الديني لا كشعار بل كسلوك حيّ يومي.
واليوم إذ يغادرنا جسداً، لكن رمزيته لا ينبغي أن تغادرنا، ولا نريد أن تختزل هذه الرمزية الإنسانية في تمثال على جدران الفاتيكان، بل تستمر هذه الروح المؤمنة مشعلاً ونبراساً للمسلمين والمسيحيين، ولكل من يحبون السلام للإنسانية، ويسعون إلى إحلاله بين الشعوب في هذا العالم، نريد أن يبقى هذا الصوت فينا حياً نسمعه كل يوم وهو ينادي على الإبقاء على معاني الأخوة الإنسانية، لا شعارات في المؤتمرات بل سلوكاً في حياة الشعوب.
نقول لكل محب للبابا فرانسيس في هذا العالم: من كان يحب البابا فرانسيس، فليحيي الأمل في النفوس كما كان يحييه، وليجمع القلوب كما كان يجمع، وليحمل همّ هذا العالم في قلبه كما كان يفعل، فإن رمزية هذا الرجل ليست كاثوليكية، بل إنسانية.
ولعل من أجمل ما قال: “السلام لا يُبنى بالحروب، بل بالقلوب المتصالحة، وبالعقول المنفتحة”.
فلنكمل الدّرب الذي بدأه البابا فرانسيس، فالعالم أشد الحاجة اليوم و في هذه اللحظات إلى أمثال هؤلاء الرجال الذين نسجوا من فكرهم وإنسانيتهم ثوباً للمحبة، وزرعوا سنابل الأمل لتحصد الأجيال معاني السلام.
ارقد بسلام، يا من اختار لغة الحياة بدل الموت، ورفع راية السلام في زمن الحرب، واتخذ نهج المحبة في زمن الصراع.
*متخصص بالدراسات الدينية وحاصل على دكتوراة في الشريعة الإسلامية من جامعة العلوم الإسلامية العالمية المدير العام لمؤسسة أركان المجتمع للتنمية في المملكة الأردنية الهاشمية.
831 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع