كيف نجح ثلاثة روائيين إنكليز كبار في إشراك قرّائهم في ممارسة التخيّل معهم؟

 ترجمة: د. رمضان مهلهل سدخان

كيف نجح ثلاثة روائيين إنكليز كبار في إشراك قرّائهم في ممارسة التخيّل معهم؟

روزماري أشتون


إن الفرضية الأساسية لكتاب "التخيّل بطريقة أخرى"، ذلك الكتاب المدروس والمُحكم جيداً، تبدو للوهلة الأولى مُخالفةً للبديهة، بل ومُضللة. وتتمثل في أن روائيي القرن التاسع عشر – أو على الأقل بعضهم – كتبوا بطريقة تُشعر القارئ بالتقدير، بل والترحيب أحياناً، بوصفه شريكاً في ممارسة التخيل مع المؤلف. وتُوضّح مؤلفة الكتاب ديبرا جيتلمان بأن الكُتّاب الثلاثة العظماء الذين اختارت مناقشة أعمالهم – جين أوستن، وتشارلز ديكنز، وجورج إليوت – تربطهم بقرائهم علاقة أغنى وأوثق وأكثر تعقيداً مما كان يُعتقد عادةً. فبدلًا من أن يكونوا مجرد شخصيات ذات سطوة، بل ومتسلطة، تُوجّه القراء إلى كيفية التفاعل مع الشخصية والحبكة، يُلاحَظ بأنهم هنا مُنخرطون في عملية تفاوض. وقد يكون هذا التفاوض، بالطبع، تلاعبياً – فالمؤلف يحرص على التحكم في استجابة القارئ قدر الإمكان. ومن ناحية أخرى، يكون من الصحيح أيضاً – وخاصةً في حالة الكاتب الذي يُعَدّ غالباً الأعلى كعباً، مثل إليوت – أن هؤلاء الروائيين يحرصون على مشاركة التجربة الخيالية التي تنطوي عليها قراءة أعمالهم.
كما تقول جيتلمان في الفصل التمهيدي لكتابها "التخيّل بطريقة أخرى ... كيف يُساهم القراء في كتابة روايات القرن التاسع عشر"، الصادر عام 2024، بينما لا يُمكن منع القراء من تخيّل ما قد تؤول إليه الحبكة، أو ما ينبغي أن تؤول إليه من وجهة نظرهم، فإن هؤلاء الكُتّاب، وإن عُرفوا بجهودهم في "إدارة مشاعر القراء وتوقعاتهم"، غالباً ما "تنازلوا عن سيطرتهم على التأليف من أجل التقاط تجربة قرائية أصيلة". أو بالأحرى، يبدو بأنهم تخلوا عن السيطرة. ثم تُقدّم قراءات مُتأنية ودقيقة لروايات "العقل والعاطفة"، و"حديقة مانسفيلد"، و"دوريت الصغيرة" (وهي إحدى روايات ديكنز المُعقدة متعددة الحبكات)، و"آدم بيد"، و"ميدل مارش"، و"دانيال ديروندا". وبذلك، تجد جيتلمان بأن لكل كاتب طريقته الخاصة في استيعاب القراء دون المساس بما يُمثل، في نهاية المطاف، سلطة التأليف. وتناقش، على سبيل المثال، كيف نجحت أوستن في رواية "حديقة مانسفيلد" في جعل القراء يشعرون بأنهم يتشاركون مهمة تخيّل العلاقة النهائية بين فاني برايس وإدموند بيرترام. وتجمع الكاتبة الشخصيتين الرائدتين أخيراً في فقرة شيقة تدعو القراء، أو تسمح لهم، بالمساهمة:
أنا أمتنع عمداً عن تحديد مواعيد في هذه المناسبة، ليتمكن كلٌّ شخص من تحديد موعده بنفسه. إنما أرجو من الجميع أن يصدّقوا بأنه تماماً في الوقت الذي كان من الطبيعي أن يحدث ذلك، وليس قبل أسبوع، كَفَّ إدموند عن الاهتمام بالآنسة كروفورد، وأصبحَ متلهفاً للزواج من فاني بقدر ما كانت فاني نفسها تتمنى ذلك.
يشعر القارئ بالإطراء والانقياد في آنٍ واحد. فمن جهة، هناك سيطرة قوية من المؤلف – "أنا أمتنع عمداً" – والإصرار على دقة التاريخ والوقت تماماً. ومن جهة أخرى، يُمنَح كل قارئ "الحرية" في تحديد التاريخ كما يشاء، بينما يدعو الراوي الجميع بلطف إلى قبول توجيهات المؤلف (مع أنه، بالطبع، من المستحيل عملياً رفضها). وكما تستنتج جيتلمان: "ما تفعله أوستن بمهارة هو تفويض مهمة تخييلية محددة، ولا شيء غيرها، للقارئ". وهكذا يُترك للقارئ "حرية ملء التفاصيل الرومانسية؛ بينما يبقى تحديد مآل الحبكة من صلاحيتها وحدها". إن أسلوب أوستن في إشراك خيال القارئ هنا يتمثل في أسلوب المداعبة والتلميح. كما أنها بارعة في إطالة أمد عدم اليقين لدى القارئ، وفي التلميح إلى المسار الذي قد تسلكه حبكتها، أو الذي كان من الممكن أن تسلكه، من خلال اللعب بالاحتمالات البديلة، أو "النهايات الأخرى"، كما تصفها جيتلمان في عنوان فصلها.
لكن ديكنز يتعامل مع الأمور بشكل مختلف. فمن خلال التقاط عبارة متكررة من رواية "البيت الموحش" وهي – ما العلاقة التي يمكن أن تكون...؟" – تُشير جيتلمان إلى أن هذا السؤال ينطبق أيضاً على رواية "دوريت الصغيرة"، حيث، كما تقول، "يبدو الأمر كما لو أن أي شيء يمكن أن يحدث، كما لو أن أية شخصية يمكن أن تكون مرتبطة بأخرى حتى الصفحة الأخيرة". يستخدم ديكنز التكرار والتلميحات في رواية "دوريت الصغيرة"، المنشورة في عشرين جزءاً شهرياً من كانون الأول 1855 إلى حزيران 1857، في المقام الأول لبناء عنصر التشويق، من أجل إبقاء القارئ إلى جانبه طوال الوقت. يتمحور السؤال حول الروابط المحتملة بين عدد من الغرباء الذين يلتقون ويتفرقون مرة أخرى على الطريق في الفصل الثاني، "رفاق السفر". إنه سؤال بلاغي، ومع ذلك يبقى حياً طوال الرواية، مما يُبقي احتمالات متعددة للترابط قائمة حتى النهاية، حيث يُحسَم الأمر – بيد الكاتب. وهنا، يُقدّم صوت السارد المحدد جداً يقيناً نهائياً، إلى جانب الكثير من عدم اليقين المُشترك خلال الرحلة السردية. وهكذا فإن طاقة السارد الاستثنائية لدى ديكنز تجذب القارئ معه بقوة. وينتهي الفصل بمشهد المجموعة المُتفرّقة من الغرباء، بعد أن التقوا في مرسيليا، يقضون ليلةً حارةً، ثم يتفرّقون في النهار، كلّ في "طريقه المقدر له". هنا، يتشارك السارد مع القارئ في وصف متخيل بدقة للمشهد (باستخدام الضمير "نحن")، مما يُوحي إلى نطاقٍ واسعٍ من الإحالات:
وهكذا دائماً، ليلاً ونهاراً، تحت الشمس وتحت النجوم، نتسلق التلال المتربة ونجتاح السهول المرهِقة، نسافر براً ونسافر بحراً، نأتي ونذهب بغرابة شديدة، لنلتقي ونتفاعل ونؤثر على بعضنا البعض، نمضي جميعاً، نحن المسافرين القلقين، في رحلة الحياة.
وتتكرر الفكرة الموسعة نفسها، حرفياً تقريباً، في الفصل الخامس عشر، بعد ما يقرب من 200 صفحة وعدة أشهر من القراءة. هذه المرة، تُصاغ على شكل سؤال مباشر: "أيٌّ من بين هذا الكم الهائل من المسافرين، تحت الشمس والنجوم؟"، إلخ. وهذه المرة، ثمة إجابة من نوع ما: "الزمن سيرينا". وكما تُشير جيتلمان، فرغم أن القارئ (المتمثل بالضمير "نا") مشمول تماماً هنا، إلا أن هذا الاحتواء ليس مُطمئناً تماماً، فالسؤال واسع ومتعدد الأوجه، والإجابة مؤقتة وليست واضحة بشكل كافٍ. وتبقى الإجابة النهائية بعيدة المنال بالنسبة للقارئ. وعندما يُشركنا ديكنز في مهمة التخيل، قد نشعر بالاحتواء، ولكن، كما تقول جيتلمان، فإن خيالنا "يجب أن يعمل في مساحة ضيقة"، "وهي تجربة ربما صممها ديكنز لجعل القارئ يتوق إلى حرية التخيل".
ليس من المستغرب أن تشغل إليوت الجزء الأكبر من كتاب جيتلمان. فمن المعروف بأنها كانت ناقدة بارعة للروايات قبل أن تخوض غمار الكتابة الروائية؛ كما أنها امتلكت فلسفة في الحياة والكتابة على حد سواء، اكتسبتها إلى حد ما من قراءاتها الواسعة، ومن ترجمة أعمال سبينوزا وفيورباخ، اللذين كان لهما إسهامات مهمة في الطبيعة البشرية وحاجة البشر إلى تنمية التعاطف مع بعضهم البعض. ويأتي أشهر تعبير لها عن هذه الرؤية في مقالها "التاريخ الطبيعي للحياة الألمانية" (1856)، حيث تُعلن فيه صراحةً: "الفن هو أقرب ما يكون إلى الحياة؛ إنه وسيلة لإثراء التجربة ومد جسور التواصل مع الآخرين إلى ما هو أبعد من حدودنا الشخصية". ومن إنجازات كتاب جيتلمان هو ربطها لهذه الفكرة الجوهرية بعلاقة الكاتب بالقارئ. روايات إليوت غنية بالأمثلة. فروايتها الأولى، "آدم بيد"، زاخرة – ربما أكثر مما ينبغي – بمحادثات مباشرة مع القارئ، وإن كانت بالضرورة أحادية الجانب. تفتتح الرواية بفكرة خيالية عن ساحر مصري يتعهد بـ "كشف رؤى بعيدة المدى عن الماضي لأي عابر سبيل. هذا ما أتعهد به لك، أيها القارئ". وتعلق جيتلمان على مرونة صورة القارئ في الرواية قائلة:
إذا كان القارئ يُفترض أحياناً بأنه الشخص الحقيقي الذي يحمل رواية "آدم بيد" بين يديه، ففي أحيان أخرى، يظهر كشخصية ثانوية في الرواية، يُتَصوَّر بأنه يُظهِر الكثير من التحيزات والعيوب والاعتراضات أثناء عملية التصوّر. يبدأ الفصل السابع عشر بعبارة: "أسمعُ إحدى قارئاتي تقول: ’إن هذا القس من بروكستون لا يكاد يكون أفضل حالاً من الوثني!‘" ... هكذا تخلق [إليوت] لنفسها جمهوراً غير مُطّلع لتتمكن من شرح آرائها له.
هنا تُبدي إليوت سخرية مُسلية، لكنها تستقر في علاقة أكثر إثارة للاهتمام وأكثر إرضاءً مع قارئها عندما تتخيله ذكياً وحَسِن النية ومنفتحاً مثلها. وتقتبس جيتلمان فقرة محورية تُمعن فيها الكاتبة النظر في المثالب الأخلاقية لإحدى شخصياتها، الشاب الطائش آرثر دونيثورن، متوقعةً منا أولاً أن نتفق مع انتقاداتها، ثم، بحركة سلسة، تُشركنا جميعاً في ارتكاب الأخطاء الأخلاقية:
هل كان هناك دافعٌ وراء هذا الإحجام الغريب من آرثر، والذي كان له تأثير خفيّ لم يعترف به لنفسه؟ إن شؤوننا الفكرية تدار بالطريقة نفسها التي تدار فيها شؤون الدولة: فالكثير من الجهد يُنجزه عملاء غير مُعترَفٍ بهم.
ثمة فصل رائع عن رواية "ميدل مارش" يُمعن النظر في الأمثلة العديدة في رواية إليوت، إذ يتنقل بين الشخصيات والفلسفة والحبكة من خلال بلاغة النفي. وقد فعلت أوستن ذلك أيضاً، لكن إليوت تذهب أبعد من ذلك، طالبةً منا ألا نتخذ وجهة نظر واضحة أو متكاسلة عن الشخصيات التي تقدّمها لنا. ومن الأمثلة التي اختارتها جيتلمان تقديم المصرفي الإنجيلي السيد بولسترود. يكتب الراوي: "لا تتخيلوا أن مظهره المريض كان من النوع الأصفر ذي الشعر الأسود"، فيضع في أذهاننا فوراً هذا الوصف قبل تصحيحه. مثال آخر هو اللحظة التي يُطلب فيها منا أن نتخيل ما يدور في ذهن روزاموند فينسي عندما تتخيل مستقبلاً لنفسها مع الوافد الجديد الوسيم الدكتور ليدغيت. يقول الراوي، "هل تتخيل بأن تنبؤاتها السريعة وتأملاتها بشأن أثاث المنزل ... كانت واضحة في حديثها، حتى مع والدتها؟ على العكس تماماً." في هذه الحالة، تُقنع إليوت القارئ بالموافقة بافتراضها، بشكل ودّي، بأن الموافقة ستأتي حتماً. وكما تقول جيتلمان، فهي تعتمد على "مرونة أذهان القراء وتعددها وتدفقها"، مما "يشحذ قدرة القارئ على التمييز بين ما هو مُتحقق في الرواية وما هو غير ذلك".
إنها ليست تماماً كفكاهة أوستن الجذابة، سواء المشتركة معنا أو الموجهة إلينا. كما أنها ليست مطلب ديكنز المُلِحّ على مشاركتنا في إبداعه. إنها أكثر مساواة من أيٍّ من الأخريين، ومع ذلك فإن إليوت لا تخشى أن تطلب منا العمل، وأن تفرض علينا انتباهاً دقيقاً لما تقوله. وتقتبس جيتلمان تعليق ناشرها جون بلاكوود الرائع: "لقد تأثر الرأي العام بشكل رائع بالكتاب". وقد تغير الرأي العام ببراعة بفضل حجة المؤلف المقنعة حول علاقات الحب والنهايات السعيدة. إن أشهر حالة في رواية "ميدل مارش" هي حالة الترتيب النهائي لدوروثيا وليدغيت، اللذين ظهرا للقراء المعاصرين، بعد صدور الرواية في أجزاء نصف شهرية، مناسبة تماماً للزواج، الذي كانوا يأملون أن يجري في النهاية، بغض النظر عن عدد التقلبات والمنعطفات التي قد تطرأ في هذه الأثناء. هناك شهادات كثيرة من قراء معاصرين، بمن فيهم أصدقاء إليوت، تُشير إلى أن الرواية خيبت آمالهم في هذا الصدد، مع أنها نجحت في إرضاء قرائها حتى مع تذمرهم. وقد فعلت ذلك بإقناعهم بتغيير آرائهم وقبول مسار السرد الخيالي الذي اختارته.
رواية "دانيال ديروندا" بدت أكثر تعقيداً، إذ كانت إليوت تعلم جيداً، واضطرت إلى تقبّل ذلك، بأن العديد من قرائها، مهما بلغوا من الذكاء وحسن النية، يحملون آراءً غير عليمة وضيقة الأفق ومتحيزة تجاه اليهودية. وتلاحظ جيتلمان كيف يتغير الضمير "نحن" في الرواية، فيبدو أحياناً وكأنه "يتشارك المواقف والتجارب الاجتماعية لجمهور القراء السائد، بما في ذلك معاداته للسامية"، وأحياناً أخرى يشمل "كل مَن يشعر بمشاعر إنسانية". وتتناول جيتلمان بدقة مشكلة كون ديروندا نفسه شخصية غير متخيَّلة تماماً، على الرغم من كل جهد إليوت الدؤوب لإبقائنا أقرب ما يمكن إلى وجهة نظر تلك الشخصية. باختصار، فإن "ديروندا أقل حساً فكاهياً من إليوت".
وأخيراً، تحفزنا مؤلفة الكتاب ديبرا جيتلمان، نحن القراء، على ملاحظة كيف "يدرك هؤلاء الكتّاب ويتعاملون مع الوجود الحتمي لخيالٍ آخر".

المصدر: ملحق "التايمز الأدبي"، 28 شباط، 2025.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1087 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع