الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل
السوس وحكايته: الجزء الأول
اهتم الإنسان منذ القدِم بإجاد مشروبات تروي ظمئه في اتون الأجواء الصيفية الملتهبة، فكان السوس والتمر هندي وشربت الزبيب وغيرها من العصائر النباتية الصحية المُنعشة. ثم جاءت العصائر الصناعية وبدأت الناس تبتعد عن المشروبات الطبيعية وأحلّت محلها العصائر الصناعية المُضرة والمشروبات الغازية الهادمة للصحة.
السوس مشروب صيفي شعبي، وهو مشروب الآباء والأجداد في فصل الصيف اللاهب، وقد عرفناه في طفولتنا، وله خصوصيته الخاصة في المجتمع العراقي ودول الجوار، وكان للسوس حضوره المميز في أشهر الصيف وعلى الموائد الرمضانية، ثم حلَّت محله المشروبات الاصطناعية، ليختفي السوس عن مسرح عالم اليوم على نحو كبير.
يُصنع مشروب السوس من جذور نبتة عرق السوس (العرقسوس) licorice، وهي أكثر حلاوة من السّكر العادي ويمكن مضغها أو تؤكل كحلويات. وهناك 12 نوع من جذور العرقسوس تختلف في الطعم، ويمكن مضغ مسحوق العرقسوس مع بذور اليانسون لعلاج الكحة أو عمله كشاي.
لعرق السوس تاريخ طويل ترجع أصوله إلى ما قبل الإمبراطوريتين اليونانية والرومانية، وله تاريخ عميق في الطب التقليدي والعلاجات الشعبية.
لقد حظي السوس بمكانة مميزة منذ عصور ما قبل التاريخ، وتعود بداية استخدامه إلى الثقافات الآشورية والمصرية والصينية والهندية القديمة، وفي سنة 2300 ق.م اعتبره الإمبراطور الصيني شينونغ نبتة سحرية تقوي المسنين وتكسبهم مناعة.
لقد ورد نبات (عرق السوس) في لوحات مكتبة آشور بانيبال الطبية كنبات يستعمل في الطب، كما تم العثور على جذور السوس في قبر الملك توت عنخ آمون في مصر القديمة بين الكنوز الملكية عند اكتشافها عام 1923، وقد استخدمه قدماء المصريين كمشروب اقتصر على الملوك والأمراء، وكذلك استخدموه في إبعاد الأرواح الشريرة عن المتوفى حديثا.
لقد كان الجنود في الجيشين اليوناني والروماني يقومون بمضغ جذور عرق السوس أثناء المسيرات الطويلة والمعارك، لإرواء عطشهم وترطيب أجسامهم عندما لا يكون لديهم ما يكفي من الماء. كما أمر الإسكندر الأكبر توزيع (عرق السوس) على جيشه كحصص إعاشة.
وعلى الخطى نفسها أوصى الجنرال الفرنسي نابليون بونابرت جنوده باستخدام جذور عرق السوس للغرض نفسه، كما أنه حرص نابليون شخصيا على مضغ (عرق السوس) لسبب آخر، وهو تهدئة أعصابه في ساحة المعركة. ويقال إنه أكثر من مضغه، حتى تحولت أسنانه إلى اللون الأسود.
كذلك يُزعم أن نابليون بونابرت وهو على فراش الموت، طلب خلط جذور عرق السوس في إناء من الماء ليتمكن من شربه.
وخلال خلال العصر الفاطمي تحول السوس إلى مشروب شعبي في مصر، وأصبح هو الشراب الصيفي المفضل للفقراء والأغنياء، ويحظى بإقبال كبير بين كافة الأوساط والطبقات.
كما شاع استخدام مشروب السوس في العراق ودول الجوار بوصفه المشروب الصيفي المفضل ليطفئ الظمأ في أجواء الصيف الملتهبة وفي شهر رمضان المبارك.
يصنع مشروب السوس من جذور نبات (عرق السوس) العشبي الذي يكثر على ساحل نهر دجلة، كما ينبت في كثير من بقاع العالم مثل سوريا ومصر وتركيا وايطاليا وفرنسا وانكلترا واسبانيا. وكان (عرق السوس) سابقاً يُصّدر من العراق الى دول العالم لصناعة الأدوية ومواد التجميل والعصائر والمواد العطارية.
ولمشروب السوس نكهة حلوة ومميزة، إذ يحتوي على السكر والعديد من الفيتامينات والمعادن. وله تاريخ حافل، وكان له خصوصيته في شهر رمضان.
وللمكانة الخاصة التي يتمتع بها السوس، فقد بدأ الاحتفال باليوم العالمي للسوس منذ العام 2004، وتحديدا في 12 أبريل/نيسان من كل عام. وفي العام 2009، أطلقت السويد مهرجانا لتذوق السوس بكل أشكاله، كذلك تزايد الطلب على حلوى السوس في أوروبا وأميركا الشمالية، وأشارت شركة "ترانسبيرنسي" لأبحاث المستهلك، أن السوس بفضل حلاوته الطبيعية يمكن أن يسد حاجة الفرد من السكر ويغنيه عن المنتجات المحلاة من أجل صحة أفضل.
يمتاز السوس بمذاقه الحلو، وقد استخدم منذ ما يزيد عن ثلاثة آلاف عام كنبات طبي؛ نظرًا لفوائده السوس الطبية والعلاجية، مثل المساهمة في علاج آلام الكلى، والسعال والربو، وحرقة المعدة. ومن فوائده للقولون علاج الإمساك، وعلاج التهاب المفاصل الروماتويدي والنقرس، الوقاية من أمراض الكبد، والمساهمة في علاج وتقليل خطر الإصابة بسرطان القولون عن طريق تثبيط بعض الإنزيمات المنشطة لنمو الأورام.
السوس نبات شجري مُعمِّر من الفصيلة البقولية، وهو على شكل شجيرات متعددة السيقان تحمل مادة مكونة دبقاً خاصاً على الأوراق اللوزية الشكل ويُستخلص من جذوره شراب السوس اللذيذ وذي القيمة العلاجية العالية.
تشتهر محافظة نينوى بتوفر نبات السوس فيها على حافة النهر، وهو ينمو كنبات بري جنوب الموصل في قرى السلّامية وحمام العليل.
بائع السوس يُطلق عليه لقب (سوّاس)، وقد حملت بعض العوائل في سوريا لقب (السوّاس)، والغريب أنني لم أجد مثل هذه العائلة ضمن توثيقات مؤرخي الموصل بالرغم من وجود العديد من السوّاسين في الموصل.
لقد كان بائع السوس (السوّاس) يحمل على ظهره قربة من جلد الحيوان يضع السوس فيها، وتُغطي القربة بوشاح جميل مُقلّم من اللونين الأسود والذهبي. وبيديه طاسات نحاسية ذهبية يقوم بتحريكها بطريقة فنية تجذب الزبائن بنغماتها الجميلة للتباهي بمشروبه وتنبيه الناس إليه.
يضع السوّاس حزام جلدي عريض يحيط بالخصر يحتوي على درج معدني لوضع النقود، كما يحمل الحزام عدد من الكلاصات الزجاجية لمن يرغب الشرب بواسطتها. وهناك المريلة؛ وهي قطعة من القماش مستطيلة الشكل يقوم السوّاس بتثبيتها عند والوسط بواسطة الحزام.
لقد أصبح السوّاس الآن بمثابة شخصية فلكلورية تستعين به أغلب الفنادق السياحية والخيام الرمضانية، ويلقى قبولا من روادها لما له من طابع مميز، وهو يوزع على روادها بوصفه شراب مميز أثناء تناولهم الإفطار.
لقد كان للسوّاسين مواقع خاصة في الأسواق، وبخاصة في منطقة باب الطوب في الجهة المقابلة للمركز العام، حيث كانت هذه المنطقة من أكثر مناطق الموصل ازدحاما لتوسطها الأسواق العديدة.
هناك عدد من السوّاسين المعروفين في الموصل منذ أربعينات القرن الماضي أمثال هاشم وعبد الواحد ويحيى وشيت. وهناك أيضا ملا يحيى وخضر السوّاس ومحمود السوّاس والد الفنان المخرج الإذاعي والممثل المسرحي والتلفزيوني الراحل يوسف السوّاس وغيرهم.
وهناك أيضا الحاج حسين السوّاس (أبو يحيى) وشيت السوّاس وغيرهم. ومن أشهر السوّاسين في الستينيات والسبعينيات ومن الذين عاصرناهم (واجد السوّاس) الذي كان شخصية معروفة في سوق باب الطوب والمناطق المحيطة ويقف مقابل المركز العام، وكان في الصيف يصنع ويبيع مشروب السوس المبرّد، أما في فصل الشتاء فكان يصنع المُخللات (شلغم وشوندر) ويبيعها بجوار حديقة الشهداء.
https://www.youtube.com/watch?v=Xmd8T1QvPSE&t=8s
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.
788 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع