د.سعد العبيدي
في حضرة التاريخ: بين أوربرو وبابل
في قلب السويد، وعلى ضفاف نهر هادئ يشقّ مدينة أوربرو، تم الوقوف وتأمُّل قلعةٍ حجريّة تعود إلى ما يزيد عن ثمانية قرون، كما هو مكتوب في اللوحة المثبّتة عند مدخلها. لا يمكن النظر إليها نظرةً سياحية بالمعنى التقليدي، بل تأملها كأثرٍ حيٍّ على علاقة الشعوب بتاريخها، وشهادتها على وعيها بالذات الوطنية.
هنا، وسط صمت هذه القلعة الصلد، بدأت المقارنة تتسلّل إلى الذهن بينها وبين مدينتي بابل على بعد آلاف الكيلومترات، تلك المدينةٍ التي كانت يوماً ما عاصمة العالم القديم.
قلعة أوربرو ليست كبيرة بالمعايير العمرانية مقارنة مع ما تبقّى من بابل، لكنها تقف شامخة بهدوء، محاطة بالماء والاحترام. كل حجر فيها يبدو محفوظًا بعناية، وكل ركنٍ فيها يخبر زائريه أنه ما زال جزءًا من نسيج الحياة اليومية. لم تُحبس خلف الأسوار، ولم تُحوّل إلى "أثر" جامد، ولم يُنتزع حجر منها لبناء بيت أو سد، بل حوفظ عليها وكأنها بُنيت بالأمس، وتم دمجها بعناية في جسد المدينة، لتُستثمر ثقافيًا وسياحيًا، وتُقدَّم بفخرٍ على أنها ذاكرةٌ حية، لا عبء من الماضي.
تعرضت قلعة أوربرو لهجمات متعدّدة، أبرزها في حرب الشمال (1563–1570) مع الدنمارك، حيث لعبت دورًا دفاعيًا مهمًا، ثم تحوّلت إلى مقرٍ ملكي، فسجن، ثم دارٍ للحكم، وهي اليوم مقرّ للبلدية ومركزٌ للأنشطة الثقافية. حافظت على حضورها في كل تحوّلات الزمن. وبابل كذلك تعرّضت الى هجمات متكرّرة، كانت أقساها على يد الفرس بقيادة كورش عام 539 ق.م، ومن بعده الإسكندر المقدوني عام 331 ق.م، الذي حاول ترميمها قبل أن يموت فيها فجأة. ومنذ ذلك الحين، بدأ تراب النسيان يعلوها، حتى أصبحت شيئًا فشيئًا مهدّدة بالانطمار. لم تُعد بناءها أي دولة لاحقة، ولم تُستخدم إلا كأثر معزول، يُعرض للزائرين من خلف الأسوار، ويثير من الأسئلة أكثر مما يقدم من الأجوبة.
بابل، التي كانت ذات يوم عاصمة الفكر والعلم والفن والنجوم، وأداة لتعليم البشرية أول مدوّنة قانونية عبر ألواح حمورابي، غدت مع الوقت أثرًا مهمَلًا، يحجّ إليه بعض الباحثين بصعوبة، دون أن تحيطه البلاد بما يليق به من رعاية أو فخر.
إن الفارق بين المكانين لا يكمن في التاريخ ذاته، بل في فهم الشعوب لمعنى التاريخ. فالسويديون يرون الماضي مادة حية قابلة لإعادة التوظيف، ومصدرًا للحكمة والهوية والاقتصاد. وأهل الرافدين، غلبت على فهمهم نزعة التمجيد اللفظي، والتشبّث العاطفي، دون أن تُترجم إلى سياسات صيانة، أو رؤية تنموية تحترم القيمة الرمزية للمكان... فوارق تؤكّد أن بابل، وبقدر ما رفعت حضارة البشر إلى الأعالي، بقدر ما انحدرت اليوم إلى هامش الخرائط. فيما قلعة أوربرو، التي لم تكن يومًا مركزًا للعالم، تتألّق كمثال على كيفية حفظ الذاكرة واستثمارها بعقلٍ لا يفصل بين الجمال والفائدة. وتؤكد أنه وفي حضرة التاريخ، لا يُلام من يحافظ، بل يُسأل من أهمل. وإن كان للسويديين أن يُمدحوا على صونهم لذاكرتهم الحجرية، فإن في القلب عتبًا لا يخبو على من ترك بابل، ببهائها ورمزيتها، فريسةً للإهمال والغبار. فالمدن لا تموت من الحروب وحدها، بل حين تنساها الشعوب.
637 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع