السيطرة على المدن: الممكنات لا البنادق قراءة في التحولات بوسائل النفوذ الميليشياوي في المناطق السنية

قلم باندان

السيطرة على المدن: الممكنات لا البنادق قراءة في التحولات بوسائل النفوذ الميليشياوي في المناطق السنية

في الوقت الذي يبدو فيه مشهد العراق الأمني هادئًا نسبيًا، تتسلّل أشكال جديدة من السيطرة تعيد تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع، وتفرض واقعًا من الهيمنة غير المرئية في المناطق السنية. لم يعد النفوذ اليوم يُمارَس عبر السلاح والكمائن والحواجز العسكرية، بل عبر أدوات أكثر خفاءً وفعالية: المؤسسات، التعليم، الاقتصاد، والطاقة. وفي قلب هذا التحول، تكمن مدينة تكريت كنموذج صارخ لتحوّلات السيطرة الميليشياوية الناعمة، التي تتجاوز الأشكال التقليدية للاحتلال. المقال التالي يحلل هذا التحول بدقة، ويكشف عن أساليب التمويه التي تنتهجها الفصائل الولائية للالتفاف على قرارات الانسحاب، من خلال إعادة تشكيل نفوذها داخل مفاصل الدولة والمجتمع.

وعندما كنا نتحدث في العام الماضي عن "السيطرة" الميليشياوية في المناطق السنية، لم يكن المشهد يُختزل في صور الإخضاع العسكري التقليدي، أو في استعراضات الآليات المسلحة والرايات الفصائلية. لم تعد الهيمنة تُقاس بعدد المكاتب الأمنية أو مشاهد "السيارات الحوثية" التي تجوب الشوارع، بل بدا واضحًا أن شكل السيطرة قد دخل طورًا أكثر خفاءً وتعقيدًا: تحول من السلوك المسلح الصريح، إلى بنية مركّبة من النفوذ الناعم، تقوم على أدوات إدارية، اقتصادية، وخدمية، وتُدار بذكاء سياسي وأمني بالغ الدقة.
في هذا النمط الجديد، لم تعد الفصائل والمليشيات الولائية معنية بالظهور العسكري العلني، بل باتت تختار التمركز داخل مفاصل الدولة والمجتمع، متستّرة خلف عناوين "الخدمة" و"المؤسسة"، بل أحيانًا "القانون". ولم يكن هذا التحول عشوائيًا أو وليد مصادفة ظرفية؛ بل جاء كرد مباشر على القرارات الأمريكية التي طالبت بحلّ هذه الفصائل وانسحابها من المناطق السنية. وإدراكًا من هذه القوى أن الاستمرار في الشكل القديم للانتشار المسلح سيقود إلى حتمية المواجهة والعزلة، قررت القيادة الولائية أن تغيّر قواعد اللعب: أن تتحول من الميدان إلى الظل، ومن السلاح إلى الممكنات.
وهنا بدأ التمويه: فبدلًا من التمظهر العسكري المفضوح، الذي يُضعف شرعيتها أمام الداخل والخارج، لجأت هذه الفصائل إلى إعادة تشكيل أدوات السيطرة، عبر التغلغل في دواليب الإدارة المحلية، والاستحواذ على شبكات التوظيف والخدمة، والتوغل في الأسواق المحلية والعقود الحكومية، حتى باتت الهيمنة وكأنها جزء طبيعي من النظام المحلي نفسه، لا سلطة مفروضة عليه من الخارج.
وهنا تحديدًا، لا بد من التوقف عند أحد أبرز أشكال تغيير قواعد اللعب، والذي لا يقتصر فقط على امتلاك الأدوات الاقتصادية أو الممكنات الخدمية، بل يمتد إلى السيطرة على المؤسسات الحيوية القائمة في المدن السنية، مثل الجامعات ومديريات التربية، وذلك من خلال رهن من يتبوأ قيادة هذه المفاصل بمحددات حزبية وولائية. فالقائمون على هذه المؤسسات لم يعودوا مستقلين في قراراتهم، بل أصبحوا في كثير من الأحيان أدوات طيعة ضمن شبكات الولاء السياسي والفصائلي، الأمر الذي يُحوّل هذه المؤسسات من رافعة للتنمية والاستقرار، إلى أدوات لإعادة إنتاج الهيمنة وضبط المجتمع وفق مسارات تُخدم أجندات خارجية أو فوق وطنية.
هذا التحول الاستراتيجي لم يكن فقط تكتيكًا ذكيًا، بل محاولة لإعادة تعريف معنى "السيطرة" في السياق العراقي الجديد، بعيدًا عن الكلفة الأمنية والسياسية للانتشار العسكري المكشوف. الفصائل الولائية لم تنسحب فعليًا، بل أعادت تدوير وجودها، وأعادت إنتاج سيطرتها في هيئة إدارية وبيروقراطية واقتصادية متخفّية، مستفيدة من غياب الرقابة المحلية، وضعف مؤسسات الدولة، وصمت الجهات الراعية للعملية السياسية.

ومن هنا تصبح مدينة تكريت نموذجًا حيًا لهذا النمط المتطور من السيطرة غير المرئية. فهي لم تُحتل بصيغة تقليدية، لكنها خضعت لمنظومة إدارة وتحكم ناعمة، تُدار من خلف الستار، وتُفعّل أدواتها دون إعلان. تغلغلت الفصائل في الاقتصاد، واستحوذت على العقود، وشبكات الخدمات، وسيطرت على مفاصل القرار المحلي. ولم يكن السلاح ظاهرًا في الأيدي، لكنه كان حاضرًا في القرار والتعيين والامتيازات والصفقات.
وسكان المدينة يشعرون بذلك التبدل. فتكريت لا تبدو تحت الاحتلال، لكنها لا تتحرك بحرية. القرارات مقيدة، والفرص محكومة، والخدمات موزّعة بانتقائية، والمشاريع تمر عبر فلاتر الولاء. وحتى مؤسسات التعليم والبلديات والتخطيط، باتت مرتبطة بمنظومة نفوذ غير مرئية، تُدار باسم الدولة لكنها في حقيقتها تخدم أجندات فصائلية تتقاطع مع الهوية السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمنطقة.
إن خطورة هذا النمط من السيطرة لا تكمن فقط في ما يفعله في الحاضر، بل في ما يهيّئ له في المستقبل. لأنه لا يُخضع فقط، بل يُحوّل طبيعة الدولة ويُعيد تعريف وظائفها لتُصبح خادمة للمشروع الفصائلي. فلا مكان للحياد، ولا حظ للخبرة، ولا معنى للمؤسسة إذا لم تكن مضمونة الولاء. ومن هنا، تُقوّض الدولة من الداخل، ويُنتج مجتمعٌ بلا سيادة فعلية، محكوم بصيغة هيمنة غير شرعية لكن غير قابلة للطعن، لأنها لا تُرى مباشرة.
وهذا النوع من السيطرة يُنتج في العمق أزمات شرعية ومصداقية وثقة بين الدولة والمجتمع، ويفتح الأبواب لتدخلات إقليمية تحت غطاء "الشراكة" أو "الدعم"، بينما الحقيقة أن المدينة تُدار عبر شبكة وكلاء محليين يمثلون تلك المشاريع الإقليمية. وتُصبح الحدود الجغرافية مستقلة، لكن القرار الفعلي مرتهن، والإدارة شكلية، والسيادة مُفرغة من معناها الحقيقي.
لذا، فإن الحديث عن إنهاء النفوذ المليشياوي لا يكون عبر إزاحة بعض الحواجز أو تقليص عدد العناصر في الشوارع، بل عبر تحرير المدن من الداخل: من شبكات الهيمنة الاقتصادية، من السيطرة على التعليم، من رهن الإدارة للخارج، ومن جعل الممكنات أدوات طيعة بيد فصائل تسعى لتمديد عمر نفوذها لا لخدمة السكان.
إن تجربة تكريت تقول لنا بوضوح: السيطرة لا تعني وجود جنود، بل تعني تحكمًا في القرار والمال والمصير. وإذا بقيت هذه المفاتيح بيد القوى ذاتها، فإن الانسحاب المعلن ما هو إلا خداع. المطلوب ليس تقليل مظاهر الوجود الفصائلي، بل تفكيك أسس هذا الوجود، وكشف تمويهه، ومنع إعادة تدويره داخل المؤسسات.
هذه لحظة فارقة: فإما أن تستعيد الدولة سيادتها وأدواتها ومؤسساتها، أو أن تستمر في وهم أنها حاضرة بينما القرار يُدار من مكان آخر. وهنا، لا بد من وقفة شجاعة سياسية ومجتمعية، تُواجه هذا الاحتلال غير المعلن، وتعيد الاعتبار لسيادة القانون وإرادة السكان.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

958 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع