الدكتور رعد البيدر
الحملات الدعائية للانتخابات العراقية في لُغَتَي السياسة والإعلام
العنوان أوجَبَ على كاتب المقال ان يتطرق إلى مصطلحات ليست متداولة عند بعض القراء؛ لأجل ذلك سنجتَهِدُ بتوّضِيح بعضًا منها دون توَّسُع ، حيث تقتضي الضرورة.
اللغة ميدان القوة المشترك بين السياسة والإعلام؛ لذا فإن المصطلحات التي يتداولها السياسي في قاعة البرلمان أو أثناء المفاوضات تصبحُ مادة الإعلامي المُحترف في الاستوديو أو في المقال الصحفي. بمقدار ضرورة التداخل وأهميته بين النشاط السياسي والتغطية الإعلامية، فأنه يحمِلُ فخاخًا ومُنزلقات ينتج عنها سوء فهم، أو ما هو أخطر من سوء الفهم كتضليل مُتَعمَّد. من أجل ذلك فإن الفهم الدقيق لمعنى المصطلح ودقة استخدامه في النص المكتوب أو المنطوق هو الدرع الواقي لتجَنُب الارتجالية ، ومؤشر النقص الثقافي - سواء كان من يرتدي الدرع صحفيًا يسعى للسِبق، أو سياسيًا يسعى لِكَسب الشرعية.
بين حروف وكلمات لغة السياسة المُتداولة يكمُن خطر التشويش المفاهيمي ، فتَعَثُر الإعلامي بهفوات وأخطاء جوهرية عند استخدام المفاهيم السياسية ؛ يؤدي إلى تشويش فهم الجمهور المُستَهدَف للرسالة الإعلامية. الخلط بين مفهومي الديمقراطية والتعددية هو إحدى الهفوات الشائعة، فكثيرًا ما يوصف النظام الذي يسمح بوجود أكثر من حزب بكونه نظامًا ديمقراطيًا، بتجاهل لكون الديمقراطية إطار قيمي شامل يرتكز على مبادئ منها ما يتعلق بفصل السلطات، ووجود ضمانات دستورية لحقوق الأفراد والأقليات.
حتى بوجود انتخابات دورية في سنواتها المعتادة فإن أي خلط في المفاهيم عن قصد أو بدونه يُجَّرِد النظام من سلوكه القيمي، وإن غياب الضمانات يجعله قريبًا من احدى حالتين - أولهما (الأوتوقراطية المُقَنَّعة) بمعنى كونه نظام حكم يسعى لبقاء السلطة المطلقة بيد شخص واحد أو مجموعة صغيرة (مكون طائفي أو اجتماعي ) لكنه يتخفى وراء واجهة مؤسساتية وشكلية توحي بوجود ديمقراطية أو حكم دستوري. أما الحالة الثانية فيكون فيها النظام اقرب (للديمقراطية الشكلية) بمعنى أنه يتجنب جوهر التداول السلمي للسلطة.
تأسيساً على التلميح السابق، يجد الجمهور الواعي خلطًا مُتكررًا بين الأجندة الإعلامية المُتعمّدة وسوء التفسير غير المقصود. فالتضليل يعني الكذب المقصود والمُنظَّم الذي يخدم أجندة سياسية معينة، وغالبًا ما يتم تمويله بجهود الدعاية الواسعة. في المقابل، قد يستخدم الإعلامي مصطلح معين بشكل خاطئ عن غير قصد، كاستخدام مصطلح الفيدرالية لوصف نظام إداري لا مركزي بسيط ، بينما مفهوم الفيدرالية في العلوم السياسية كنظام حكم يعني توزيع السلطات بين حكومة مركزية وحكومات محلية ، يكون لكل جهة منهما سيادة ذاتية وصلاحيات دستورية، وهي دلالة أعمق بكثير من لا مركزية النظام الإداري. على غرار ذلك يميل الإعلام إلى تضخيم دلالة مصطلح ( البراغماتية – العملية ) لدرجة قد تصل إلى وصفها بالتنازلات المبدئية، أو الانتهازية، بينما هي فلسفة سياسية تُبنى على أساس التفضيل العملي والواقعي لتحقيق الهدف بغض النظر عن مدى توافقه المطلق مع الأيديولوجية ( النظرية ) بمعنى أوضح إنها ( استخدام السبيل الأصح لتحقق المنفعة الأكثر ) . بالتالي فالضرورة توجب على الإعلامي أن يكون دقيقًا في معرفة ونقل حقيقة التغيير في الموقف، ويسال نفسه ويُجيب :
هل اختيار (المصطلح – المفهوم) هو تكتيك براغماتي يهدف إلى تحقيق مصلحة وطنية أكبر؟
أم أنه مجرد تقلب سياسي ناتج عن ضعف في الرؤية الأيديولوجية ( الفكرية ) ؟
في هذه الحالة يكمن الفارق بمدى تأثير الموقف على المصداقية السياسية للإعلامي.
تكشفُ الساحة الإعلامية المعاصرة عن وجه آخر لضعف الخطاب، يتعلق بكيفية ( تأطير) الرسائل الدعائية وتآكُل الثقة بها، والتأطير هو أسلوب إعلامي جوهري يتمثل في انتقاء بعض جوانب الواقع المُدرَك وجعلها أكثر بروزًا في الرسالة. فبدلًا من مجرد نقل الوعود، يميل الإعلام إلى استخدام الإطارات العاطفية - مثل ( إنقاذ الوطن ) أو إطارات الصراع – على سبيل المثال ( لن نرضَخ لهم )، أمثلة كهذه تخدم ( الديماغوجية ) التي تعني اقناع الجمهور استنادًا إلى قلقه و مخاوفه السابقة - بشكل غير مباشر. وغالبًا ما يدفع التأطير الدعائي الجمهور نحو الاستجابة العاطفية للوعود بدلاً من تحليلها بعمق، وبذلك يُسهِم في تكوين الأجندة الإعلامية التي تُبالغ بطرح بعض المشاكل وتتغافل عن مشاكل أخرى، وهو ما يوجب على الصحافة الناقدة أن تتجنبه بتبني إطار الحلول القائم على المساءلة التكنوقراطية.
في خِضَّم السباق الانتخابي، يبرز نمط مُقلِق لأخطاء المرشحين يتحول فيه الخطاب الدعائي إلى خطاب عاطفي يفتقر لحلول ومعالجات تكنوقراطية ( المختصين )، وعطفًا على ما سبق ، فكثيرًا ما يُقدِّم المرشح نفسه للجمهور بصيغة يُسَيسُ فيها كل تفاصيل حياته الشخصية والمهنية، إضافة إلى الوقوع في فخ استخدام المصطلحات الكبرى والمفاهيم الجذابة دون قدرته على وضع آليات تنفيذ واضحة عند طرح برنامجه الانتخابي. أن مصطلحات ومفاهيم سياسية واقتصادية عميقة مثل ( التنمية المُستَدامة أو الحوكمة الرشيدة ) ، عندما لا يكون للمرشح القدرة على ترجمتها إلى إجراءات محددة وقابلة للقياس، يجعل خطابه فارغًا ( لا يُسمنُ ولا يُغني عن جوع ). هنا تبرز مسؤولية الإعلامي القدير بسهولة كشف ارتجالية المرشح - عِبرَ سؤال لا صعوبة فيه: كيف ستقوم بتحقيق ذلك؟ وماهي خطواتك التنفيذية على أرض الواقع؟ وعليه فإن الفَشلَ في الاتصال السياسي الدقيق؛ سيؤدي إلى تبديد الثقة، وفي نهاية المطاف يخدم عملية تضليل الجمهور.
بما أننا نعيش في أيامٍ قليلة تَسبِقُ الانتخابات المُزمَع إجراؤها في العراق يوم 11 / 11 / 2025؛ فالسياسيون لا سيما المرشحون للانتخابات يواجهون تحديًا وجوديًا عند استخدام وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي للتعريف بأنفسهم وبرامجهم. لا تكمُن صعوبة التحدي في فهم المصطلح السياسي، بل في سوء استخدام أدوات الاتصال السياسي للوصول إلى الجمهور المستهدف من أجل بلورة وتكوين رأي عام. إحدى أخطاء المرشحين لجوئهم إلى ( الديماغوجية ) كونها أسلوب خطابي يعتمد على إثارة العواطف والغرائز والخوف والتحيز لدى الجمهور الناخب، ويُقديم وعود شعبوية. بناءً على تبني نسبة كبيرة من المرشحين هكَذا تضليل ( سياسي – إعلامي )، وتجنبهم مناقشة الحقائق الاقتصادية والسياسية الصعبة، فإنهم يقعون في فخ ( سرد الأكاذيب ). قد ينجح التكتيك السياسي على المدى القصير؛ فتبرز مهمة الإعلام الواعي بسرعة لكشف التناقضات والوعود - بالاستفادة من أسس ومبادئ (التكنوقراطية - حُكم الخبراء) التي تتطلب حلولًا قائمة على المعرفة والتخصُص، مما يُهدِد باستمرار الشرعية المستقبلية للمرشح الذي سيفوز في الانتخابات .
اثبتت التجارب الانتخابية المتعاقبة في العراق، منذ انتخابات مجلس النواب عام 2005، أنَّ الشعارات الطائفية ووعود السيادة سرعان ما تتحول إلى وعود مخادعة وتضليل؛ فبينما لجأ بعض المرشحين في البداية إلى الخطاب الأيديولوجي والطائفي الحاد لحشد الأصوات على أساس الانتماء وتأجيج المشاعر، متجاهلين الأهداف الوظيفية للبرلمان المتمثلة بالتشريع والرقابة، وظهرت سلوكيات سلبية أخرى تمثلت في سياسة تسقيط المرشحين المنافسين، عبر كشف حقائق مخفية أو تلفيق أكاذيب، وهو أسلوب يُغَّذيهِ السياسيون ويُستخدَمُ فيه الإعلام الخاص أداةً لتشويه سُمعة الخصوم من المرشحين بدلاً من طرح البرامج البنّاءة... ثم تحوَّل الخطاب لاحقاً ليُرَّكِز على المفاهيم السياسية العُليا التي يصعب تطبيقها كواقع ملموس - منها ما طُرِحَ في انتخابات 2014 و 2018 ( تحقيق السيادة الكاملة وإعادة بناء الدولة ) إضافة إلى وعود متكررة ركزت على قضايا الخدمات والتوظيف - منها ( القضاء على البيروقراطية ، تفعيل الحكومة الإلكترونية ، مكافحة الفساد، وتوسيع التعيينات والقضاء على البطالة ) .
إنَّ الإخفاق المتكرر في تجسيد الوعود المبالغ فيها على أرض الواقع – سواء في الأمن، أو الخدمات، أو تحسين الواقع المعاشي – أظهر الفجوة الواسعة بين الخطاب السياسي والتحليل النقدي؛ فقد وقع الإعلاميون في هفوة تكرار ذات المصطلحات الجذابة دون مساءلة كافية عن الخطة الزمنية والموارد اللازمة والمتاحة لتحقيقها؛ مما جعلها وعود عجز ، سُرعان ما تبخَّرت بمجرد الفوز بالمقعد النيابي، وظل جمود البيروقراطية الإدارية هو الواقع السائد - كعجز في الإنجاز، غير ملموس النتائج على مدى دورة انتخابية كاملة ؛ فأنعكس بتصاعد الاحتجاجات والمطالبات الشعبية التي كشفت عن تفاقم أزمة الشرعية. لذا فمن الضروري أن يتخلى الخطاب السياسي والإعلامي والجماهيري عن طرح وترويج و قبول الشعارات التي تحمل اكثر من معنى في التفسير، ويستبدلها بمعيار المساءلة الواضح والمطالبة بالآليات التشريعية والتنفيذية ، والإفصاح عن حجم الموارد المطلوبة ، والممكنات المتاحة لتحقيق الوعود، و انكار الأساليب غير الأخلاقية التي تستهدف تَسقيط المنافسين ، والابتعاد عن التضليل العاطفي للتحول إلى التمكين المُجدي القائم على الإنجاز الفعلي والشفاف.
بتسارع عالَم اليوم - باتَ اختيار دقة الكلمة مسؤولية مشتركة، ومفتاح موثوق لمصداقية طويلة الأجل، تستوجب من الإعلامي إن يتجنب الأخطاء والهفوات، وأن يتسلح بالرصانة المعرفية، ويتعامل مع كل مصطلح سياسي على أنه أداة تحليل وليس مجرد مرادف لغوي عابر. فبدلاً من الاكتفاء بنقل وعد مرشح ببناء مدينة نموذجية، يجب أن يتساءل الإعلامي عن موقع الوعد السياسي في اسبقيات خطة التنمية الوطنية، وعن كيفية تعامله مع التحديات التي تفرضها البيروقراطية والفساد المُستشري. بالتناظر من مسؤولية الإعلامي فعلى السياسي أن يُدرك بأن الشفافية والصدق في استخدام المصطلح الصحيح واللغة السليمة كفيلان ببناء جسور ثقة ومصداقية طويلة الأجل أمام الجمهور حتى لو كانت قاسية، خصوصًا في عصر تقنيات الإعلام الجديد. ولا يغرب عن بال الجميع بإن الفشل في تحقيق الوعود التي يرَوَّج لها المرشحون قبل ظهور نتائج الانتخابات يؤدي إلى تآكل الشرعية بعد ظهور النتائج، ويُحَوِّل تلك المصطلحات و ( وعود الاستقطاب ) إلى دليل سُخرية و إدانة.
ختامًا - نؤكد بإن الفهم الدقيق للكلمة هو الضمان الأمثل للحد من تداول ( الوعود الكاذبة ) في الساحتين السياسية والإعلامية. أتأمل أن لا يتهمني القارئ بعدم الواقعية في العرض، والمثالية بالمطالبة من ( السياسي ، الصحفي ، الناخب ) الذي انتُزعَت منه قيَّم مرموقة ، وفُرِضَت علية اخلاقيات وسلوكيات مُتدنية ؛ فباتَ كما يُقال في المثل العراقي باللهجة العامية : ( مَيُعرُف راسها من رجليها ) أو ( مَتُعرُف حماها مِن رَجِلها ) . فلو فاز المرشح اللائق والمستحق، وتشكل مجلس وطني طموح وليس تجمُع اشخاص يسعون لتحقيق مغانم شخصية وفئوية، وأدارت الدولة حكومة رشيدة؛ لكان الحال غير الحال .
تطرقنا للواقع دون أن ننسى خيبة الطموح . وبضوء ما عرضناهُ وحللناهُ من حقائق، وما نشهدهُ من سباقٍ محموم نحو قُبة البرلمان، نختلف مع كُل من يرى بأن الوقت مُبكرًا للحكم على الحملات الدعائية لانتخابات يوم 11 / 11 / 2025 بكونها (حملات فاشلة بامتياز).
839 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع