
موفق الخطاب
تحت المجهر- (دهاءٌ وسَلامٌ أنفذُ من وقعِ الحُسام)
في كل معركة يخوضها الإنسان، من بيته الصغير إلى ميدان السياسة الرحب، يبقى السؤال الأبدي :
هل يكفي أن نملك القوة لنهزم خصومنا؟
أم أنّ هناك طريقًا آخر، أهدأ وأعمق، لا يراه إلا من تمرّس بفنّ قراءة النفوس؟منذ فجر التاريخ، كان المنتصر الحقيقي هو ذلك الذي أدرك أنّ السيف قد يقطع اللحظة، لكن العقل وحده يقطع الطريق.
ولذلك قال الحكماء: "ربّ مكيدة صغيرة صنعت انتصارًا لا تصنعه آلاف الفرسان والسيوف."
فالقوة صاخبة، لكن الدهاء مثل الضو يتسلل بلا ضجيج ويهزم الظلام دون أن يصطدم به.
ولنا في التاريخ وقفات لا تُنسى.
فحين قُتل يوليوس قيصر في مجلس الشيوخ، ظنّ المتآمرون أنهم أنهوا عصره، وأنّ روما ستخضع لهم بالسيف.
لكن ماركوس أنطونيوس، نائبه الماكر، كان أعمق نظرًا منهم جميعًا.
لم يواجه قتلة قيصر بجيش، ولم يرفع سيفًا، بل رفع خطابًا.
وقف أمام الشعب في جنازة قيصر، فتحدث بذكاء يقطر خبثًا أبيض، يعرف أين يهزّ العاطفة وأين يسكب الدموع.
أشعل القلوب دون أن يشعل حربًا، وقلب الرأي العام رأسًا على عقب، حتى صار الشعب نفسه هو الذي أطاح بخصوم قيصر.
لم ينتصر أنطونيوس بالقوة… بل انتصر بدهاءٍ أذكى من الحسام، وأعمق أثرًا من الدم المهراق.
وفي التاريخ العربي والإسلامي نجد أمثلة أخرى على هذا الدهاء الرفيع.
وتجلت في غزوات الردة وحروب الفتح ومكر ودهاء الصحابي عمرو بن العاص في معركة صفين ورفع المصاحف.
اما الصحابي خالد بن الوليد رضي الله عنه فقد أظهر قدرة على قراءة الموقف، واستغلال نقاط ضعف الأعداء النفسية والعسكرية، فكان يكسب المعركة قبل أن تُشتعل بالقتال.
وفي العصر الحديث، تتجلى الأمثلة في زعماء مثل نيلسون مانديلا وغاندي.
فمانديلا، بعد عقود من السجن، لم يرد العنف على العنف عند خروجه، بل استخدم الدهاء السياسي والحوار والمصالحة ليقود جنوب أفريقيا نحو انتقال سلس من نظام الفصل العنصري إلى الديمقراطية، محققًا نصرًا أكثر بالذكاء والبصيرة منه بالقوة.
أما غاندي، فقد حول مقاومة الهند للاستعمار البريطاني إلى حركة سلمية هادفة، مستخدمًا العصيان المدني والاعتصامات الذكية، فأجبر القوة العسكرية على التراجع أمام إرادة شعبية منضبطة، فكانت النصر بدون دماء أو صدام مباشر، وكسب الشعب الثقة والحرية بذكاء، لا بالسلاح.
وفي زمن آخر، كرّر ونستون تشرشل الدرس نفسه. لم يكن يملك ما يجبر الولايات المتحدة على دخول الحرب العالمية الثانية، لكنه امتلك القدرة على تحريك الوعي.
فغيّر مزاج الرأي العام في أمريكا قطعةً قطعة، حتى باتت واشنطن لا تستطيع البقاء خارج الحرب.
لم ينتصر بالسلاح، بل انتصر بالخيال السياسي… وهذا هو الدهاء حين يتحوّل إلى قدر.
وما يقع في السياسة الكبرى يتكرر في تفاصيل حياتنا الصغيرة.
أحيانًا يكون الأب قادرًا على منع ابنه بالقوة، لكنه يختار أن يقوده بالحب؛ فيكسبه بدل أن يكسره.
والزوجة التي تواجه زوجها بالغضب قد تخسر لحظة كان يمكن لابتسامة واحدة أن تُبدّلها.
والمدير الذي يظن أن الصراخ يصنع الانضباط يكتشف أن كلمة هادئة في الوقت المناسب تغيّر فريقًا كاملًا.
فالدهاء هنا ليس مكرًا مذمومًا، بل ذكاء يختار الطريق الأقصر نحو النتيجة الأعمق.
إنه حيلة بيضاء، ومرونة لا تُهين أحدًا، وفطرة تعرف أنّ الإنسان لا يُقاد بالقوة إلا ليتمرّد، ولا يُقاد بالعقل إلا ليقتنع.
وفي تجارب الدول، نرى أنّ هذا المبدأ يتكرر بأشكال مختلفة.
فمهاتير محمد لم يواجه الفساد بالسيوف، بل بسكّين جرّاح؛ قطع الشبكات واحدة تلو الأخرى حتى فقدت قدرتها على المقاومة.
كان يعرف أنّ الإصلاح الحقيقي لا يصنع ضجيجًا، بل يصنع تغييرًا يتسلل بهدوء إلى العظام.
وهكذا يتجلّى الدرس الكبير:
القوة تغيّر الظرف… لكن الدهاء يغيّر المصير.
القوة تُحسم بها معركة، لكن الذكاء يحسم بها التاريخ.
القوة تُرغم الناس، والدهاء يقنعهم.
والإنسان الذي يظن أنّ الصوت العالي هو الطريق الوحيد للفوز، يشبه من يحاول فتح بابٍ مغلق بكتفه، بينما المفتاح في جيبه.
إن الانتصار الهادئ ليس ضعفًا، ولا هروبًا، بل حكمة من عرف أن الفوز الذي يبقى هو ذاك الذي لا يترك جروحًا، وأن الهزيمة التي لا تُشعر الآخر بالهوان ليست هزيمة بل طريقًا إلى صداقة جديدة أو مصالحة طويلة.
لذلك قبل أن ترفع صوتك أو تشهر سلاحك أو تصعّد معركة، اسأل نفسك:
هل أملك طريقًا آخر… طريقًا أدخل به إلى القلب قبل الميدان؟
طريقًا أكسب فيه الجولة دون أن أصنع عدوًا؟
إن كنت تملكه، فلا تحاول أن تفوز بالقوة، ما دمت تستطيع أن تكسب بالفطرة، والدهاء، وصوت العقل.
فليت بعض قادتنا يعقل ذلك وينتقل من فكرة التشدد والتحدي والخطابات الفارغة الى لغة الحوار بدهاء وتجنب المواجهة الخاسرة.
ولو سلك المجتمع هذا النهج من الفرد إلى الأسرة، ومن الزعامات إلى الدول والقبائل لتغيّر حال العالم، ولانخفضت الصراعات، ولتراجعت الحروب، ولتنعمَت البشرية بسلام لا تهزّه السيوف.

662 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع