بينما أكدت كلمة اوباما أمام الجمعية العمومية على أن أقوى سلاح ضد الكراهية ليس القمع بل المزيد من التعبير ونشر أفكار التسامح التي تحتشد ضد التعصب الديني، فإن معظم كلمات رؤساء الدول الإسلامية، كادت تختصر نفسها في اعتبار حرية التعبير الغربية مجرد ذريعة لمهاجمة الإسلام والتحريض ضده.
وكان هؤلاء لا يترددون عن مغالطة أنفسهم والعالم حينما يقولون بلسان الرئيس المصري: "مصر تحترم حرية التعبير التي لا تستخدم للحض على كراهية أحد... ونتوقع من الآخرين... احترام خصوصياتنا الثقافية ومرجعياتنا الدينية"- قاصدا أحكام الشريعة التي تعتبر المرأة نصف الرجل وتدعو للرجم وقطع الأيدي وتزويج القاصرات وقتل الذي يغير إسلامه، ورمي المثليين من شاهق كما يجري في إيران وغيرها. ولا ندري كيف ينسجم هذا مع الثقافة والقيم الغربية القائمة على الإعلان الدولي لحقوق الإنسان. كما لا ندري كيف يمكن لبضع حالات تعصب ديني فردي في الغرب، معزولة ومرفوضة شعبيا وحكوميا، أن تقارن بعشرات الآلاف من حالات مهووسين دينيين في العالم الإسلامي، من دعاة وشيوخ ومثقفين وساسة، ينددون ليل نهار بالمسيحية والمسيحيين واليهودية واليهود، ويحرضون ضدهم، من المنابر والفضائيات، ودون أن يحاسبهم أحد، بل ويجرون وراءهم عشرات الملايين. وماذا نقول عن صمت الرؤساء ورجال الدين المسلمين اليوم عن قيام آلاف المسلمين في بنغالديش بحرق معابد البوذيين. أين هي إدانة أمثال مرسي وإحسان أوغلو وزرداري وأحمدي نجاد وغيرهم حين يطالبون بقوانين في الغرب ضد " الإساءة للأديان"؟! أم إن الأمر يخص الإسلام حصرا مع تجويز الإساءة لغيره من الأديان، وكما يجري عندنا كل يوم؟! وبماذا سيجيبون، ويجيب المتظاهرون أمام مبنى الأمم المتحدة، حين يقال لهم إن كانت إهانة الرسول الكريم جريمة، فهل توافقون على اعتبار إهانة السيد المسيح هي الأخرى جريمة؟؟ وماذا يكون رد فعل الآخرين حين يقف دبلوماسي عربي في محفل دولي للثقافة والتربية ليبدأ خطابه بالسلام على الرسول الكريم، مقرونا بلقب "سيد الأنبياء"؟؟ ولماذا يكون سيدهم ولا يكون متمم رسالاتهم وقرينا لهم؟ ومهما يكن، فهل من المناسب ونحن في هذا المعترك أن نردد ما قد يعتبره آخرون تصغيرا لأقدار أنبيائهم؟ ولكنها عقيدة أن لا دين غير الإسلام، وهي عقيدة تعني بحد ذاتها إهانة للأديان الأخرى والإساءة لها.
نعم، ونعم! فلنلتفت لما عندنا أولا، وتحت شعار " لا تنهَ عن خلق وتأتي مثله". ولا يخفى على السيد مرسي فتاوى الداعية المتشدد وجدي غنيم، ولا فتاوى غيره وجموع السلفيين من شركاء الإخوان، والتي وصلت حتى إلى تحريم أكل السجق التي اعتبرها بعضهم مؤامرة يهودية- مسيحية لكونها عندهم تثير شهوات المرأة المسلمة، وعليها تجنب أكلها!! وماذا حين يكون الرد على الفيلم في دول "الربيع" ولاسيما مصر رفع أعلام القاعدة وبيعها علنا في الشوارع وبكميات كبيرة؛ منها ما صنع محليا ومنها من صنع صيني- إي والله، صنع صيني! وفي باريس افتتح قبل أيام أكبر جامع في ستراسبورغ في الوقت الذي انتهك السلفيون في قلب باريس قوانين فرنسا باسم الاحتجاج على الفيلم والرسوم، فقاموا بمظاهرة محظورة وبالصلاة في الشارع الكبير رغم الحظر، وبظهور المنقبات في المظاهرة برغم قانون الحظر. وكل هذه الانتهاكات للقوانين السارية تمت في يوم واحد ومكان واحد وكأنهم يتحدون الجمهورية علنا. وهو ما جعل وزير الداخلية أن ينذر بأن كل من يتحدى النظام القائم ويشكل خطرا عليه سوف يطرد من فرنسا. وهذا يذكرني بمقال لعبد الرحمن الراشد بعد جرائم الإسلاميين في لندن عام 2005، وكان تحت عنوان " قلنا لكم امنعوهم، واليوم نقول لكم اطردوهم". وأقول- بالمناسبة أيضا- إنه لو كان الزعماء ورجال الدين المسلمون يعتقدون حقا بان الغرب يتآمر على الإسلام مستخدما حرية التعبير، وأن المسلمين يعانون من التمييز الديني، إذن لكان عليهم واجب دعوة المسلمين في الغرب للعودة لبلدان الأصل والحث على إصدار فتاوى دينية بهذا الشأن. ولكن كم من مسلمي الغرب سوف يتركون النعم التي تمنحها لهم الدول الغربية، من مأكل وملبس وعلاج طبي وحريات واسعة، ولاسيما حرية العبادة وبناء المساجد؟؟ أتوقع أن كل النداءات والفتاوى بهذا الخصوص[ على احتمال صدورها وهو مستحيل] لن تجد أية أذن صاغية حتى عند عائلة مسلمة واحدة تعيش في الغرب، وحتى لو تكررت الفتاوى والمناشدات عشرات المرات.
إن أمام قادة الدول الإسلامية والنخب الدينية والثقافية العربية والإسلامية مهمات أكبر من إعارة كل هذا الاهتمام الاستثنائي لفيلم بائس لم يكن أحد قد سمع به، ومن دورهم في تفجير هيجان وصخب وعنف جموع الغوغاء الذين لا يعرفون خطابا غير العنف. وقد بات وضع المسيحيين وبقية الأقليات الدينية في العالمين العربي والإسلامي أمام مخاطر عنف وتنكيل جديدة، وكأنهم هم صانعو ذلك الفيلم، سواء في مصر أو في العراق أو بنغالديش أو باكستان وغيرها.
أجل، على الحكام والمرجعيات الدينية والثقافية عندنا العمل لتصليح عيوبنا واعوجاجنا نحن أولا. وها نحن والنظام السوري يبيد البشر، ومئات الآلاف من السوريين يهاجرون ويعيشون تحت الخيام، نجد شيوخا وأغنياء عربا [ مسلمين طبعا] يهرعون لمخيمات اللاجئين في الأردن بحثا عن فتيات صغيرات للزواج منهن، مستغلين المأساة السورية دون أن يرف لهم جفن ويهتز ضمير، ومستندين لأحكام الشريعة إياها عن تعدد الزوجات وزواج ابنة التاسعة وما "ملكت أيمانكم"- الجواري، وهذا بينما الغربيون " الكفار المتآمرون" يرسلون الأطباء والأدوية ومبعوثين يواسون العائلات.
إن مأساتنا الكبرى هي أن أعداء الحضارة والحياة والانفتاح والتسامح هم من يصوغون وعي الجماهير الكثيفة ويوجهون سلوكها، بحيث لا تهزها عمليات انتحارية يقوم بها مسلمون، وتفتك بالمسلمين أنفسهم أولا، وبغير المسلمين، سواء في باكستان أو أفغانستان أو الصومال او مالي أو نيجيريا أو العراق أو اليمن،ألخ، بينما تتدفق كالموج الهائج لحرق وتدمير السفارات والمنشآت الأجنبية، وقتل البشر وذلك بسبب مأذنة أو حجاب أو نقاب- ناهيكم طبعا عن رسوم أو فيلم تعيس. المفترض بالأديان أنها تقدس الحياة، ولكن القتل اليومي للمسلمين على أيدي المسلمين أنفسهم باسم الجهاد لا يحرك ساكنا عند تلك الجموع!
فهل يعي ذلك الرئيس المصري وإحسان باشا أوغلو؟!!
848 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع