د .محمد عياش الكبيسي
لما ظهر الخلاف الحاد بين أردوغان وفتح الله كولن كنت واحدا من المتخوفين جدا على مستقبل التجربة التركية، لما أعلمه من نفوذ جماعة كولن في المؤسسات المختلفة وعموم المجتمع التركي لتبنيها برنامج (الخدمة) الواسع ولما يتمتع به زعيمها من قدرة خطابية فائقة وجاذبية روحية قلّ مثيلها، وقد اتصلت حينها بأحد أصدقائي الأتراك المقربين من (العدالة والتنمية) وقال:
إن السيد أردوغان لم يصرح بموقفه من كولن إلا بعد استبيانات واسعة أكدت له أن قناعة الشارع التركي بالتجربة السياسية للعدالة والتنمية لن تتأثر إلا بحدود الواحد والنصف بالمائة 1.5% ليس بسبب هبوط شعبية كولن بل لأن طبيعة الشعب التركي يفصل بين المشاكل، ولا يدخل بعضها ببعض، فكولن ليس عنده تجربة سياسية بخلاف أردوغان، ولذلك فحتى المعجبين بكولن سينتخبون أردوغان لأن قناعتهم السياسية معه وليس مع (شيخهم)! أما التيارات (العلمانية والليبرالية) فمن المتوقع أن تزيد نسبة تأييدهم لأردوغان بعد أن ينأى بنفسه عن هذه الجماعة، كان هذا الحوار قبل بضعة أشهر، وجاءت الانتخابات اليوم لتؤكد مصداقية هذه التحليلات، بل لتضيف نجاحا جديدا للتجربة الأردوغانية وللتجربة التركية عموما.
ليلة العد والفرز كنت ألاحظ على شاشة التلفزيون التركي حماسة أحد أقطاب حزب(السعادة) وسعادته البالغة بالتباشير الأولى لفوز أردوغان، ولمعرفتي بتأريخه الطويل وعلاقاته المتميزة مع الزعيم التاريخي للسعادة السيد نجم الدين أربكان-رحمه الله- كنت أظن أن السعادة لم يدخل هذه الانتخابات!، لكني تأكدت أنه داخل في الانتخابات وأنه لم يحقق أكثر من 2%، وهي نسبته ذاتها في الانتخابات الماضية، فلماذا يفرح هذا الرجل ويتبادل التهاني مع أحبابه وأصدقائه؟ الحقيقة أنه يفكر بالطريقة الآتية، وهذا ما فهمته منه في أكثر من حوار:
إن العدالة والتنمية حزب جماهيري واسع، والسعادة حزب نخبوي تربوي، فحين أبحث عن الصفاء والأخوة والتربية الصالحة فأنا مع السعادة، وحينما أبحث عن مصلحة تركيا الكبرى فأنا مع العدالة والتنمية، والنسبة تتناسب مع المنهج الذي ارتضيناه، كما أن نسبتهم تتناسب مع البرنامج الذي ارتضوه، وتركيا بحاجة إلى كل هذه البرامج! فالحزب الذي يتمكن من حشد مليون إنسان في الشارع، قد لا يستطيع أن يربي مائة شخص تربية سليمة وناضجة، والعكس صحيح أيضا، وهنا تتكامل الأدوار.
قبل سنوات كنت قد زرت مركزا لتطوير الكفاءات في اسطنبول، فوجدت فيه الإسلامي والعلماني والليبرالي ..الخ فسألت أحدهم: كيف تعملون في هذا المركز دون مشاكل؟ قال: ما ذا تقصد؟ قلت لو كان هذا المركز عندنا لحاولت كل جماعة أن تستأثر به بمختلف الطرق، فانتفض بوجهي وقال بالنص وبلكنة تركية (هذا عيب! هذا لا يدع مجالا للعمل المشترك، وإذا كانت الجماعة تفكر ببناء مؤسسة خاصة بها فمن يمنعها؟ لكن حينما تشترك مع الآخرين ثم تخطط للاستيلاء والاستئثار فهذه سرقة، وظل يكرر (هذا حرام، هذا حرام)، فقلت له: صدقت لكنه عندنا قد لا يكون كذلك، فنحن نتقرب إلى الله بهذه السرقات و هذه المحرمات ولدينا ما يكفي من المبررات الدينية والأخلاقية!
أذكر في هذا الخضم جدلا دار عندنا بعد تصريح الشيخ القرضاوي أنه ينوي انتخاب عبد المنعم أبو الفتوح، فجاءه رد من أحد علماء العراق يتضمن حرمة انتخاب أي مرشح غير مرسي، وأدخل الموضوع في باب البيعة والسمع والطاعة..الخ وأيضا نقلت المجادلة هذه إلى أكثر من جهة في تركيا، فقالوا: عندنا لا يمكن أن تصدر أية جماعة توجيها لأفرادها بانتخاب فلان أو أنتخاب غيره من داخل الجماعة أو من خارجها، وأن أية جماعة تتجرأ على مثل هذا فإنها ستخسر أقل شيء 50% من أفرادها، وأنها ستسقط في المجتمع التركي، لأن التصويت مسؤولية فردية حصرا، وهي شهادة وأمانة، أما أن تصدر فتوى فهذا لا يمكن طبعا.
توفيت قبل سنتين -على ما أذكر- والدة أردوغان السيدة (تنزيلا)، وقدّر لي الله أن أشارك في مجلس العزاء الرسمي وبحضور رئيس الوزراء طبعا، وكان بجنبي رجل معمم يرفع يديه بين الحين والحين ويدعو، ولما رآني غير متفاعل معه، قال لي: أرجوك أدع لتنزيلا، وسالت دمعته! فظننت أنه من أقربائها، أو أنه من (العدالة والتنمية)، لكني تأكدت منه أنه لا هذا ولا ذاك بل هو من المتقدمين في جماعة النور، هذه الجماعة التي ترفع شعارها باستمرار (نعوذ بالله من الشيطان والسياسة)!
لا يظنن ظانّ أني أقصد بهذه النماذج أن الأتراك لا يختلفون ولا يتخاصمون، لا، بل أقصد أنهم أقدر منا على إدارة خلافاتهم، وتوجيهها بما يخدم الصالح العام.
قلت لواحد من الإسلاميين المبرّزين عندهم: كيف تعايشتم قرنا من الزمان مع نظام يحرّم عليكم الأذان، والحجاب، ويمنع اللغة العربية، ويمسخ اللغة التركية..الخ فقال ضاحكا: نعم لو كنا عربا لأعلنا (الجهاد)! ولحرقنا أرضنا وثرواتنا ومستقبل أولادنا، ولتدخل الغرب يدعم هذا الطرف مرة ويدعم الطرف الثاني مرة أخرى، ثم لا نكسب شيئا من ديننا ولا دنيانا.
فهمت فيما بعد من خلال محاضرة خاصة ومعمقة للسيد أحمد داود أوغلو قبل تسلمه لوزارة الخارجية، أن موقف (الإسلاميين) الأتراك كان يعتمد على فلسفة واستراتيجية-غريبة بالنسبة لنا- وهي (احترام النظام ومحاسبة الحكومة)، فقد ساهم الإسلاميون في ترسيخ احترام الشعب التركي للدستور مع أنه دستور علماني مخالف لمعتقداتهم وأدبياتهم، وذلك لغايتين اثنتين:
الأولى: أن الدستور هو الوثيقة الأولى للبلاد، ولذلك يصاغ بعناية وبطريقة مقبولة للرأي العام داخليا وخارجيا، في حين أن الحكومات هي التي تقوم عادة بخرق الدستور، فالدستور لا يمكن أن يكون أسوأ من الحكومة، وعليه فإن احتماء الشعب بالدستور ثقافة وممارسة يحرج الحكومة ويجعلها في دائرة المحاسبة، بخلاف تجربة (الإسلاميين العرب) التي تمنح كل شيء للحكومة حتى الدستور والقانون والجيش والأمن، وتعلن المفاصلة الكاملة، وهذا لا يقود إلا إلى واحدة من اثنتين؛ المصادمة أو الانعزال.
الثانية: أن الشعوب بحاجة إلى أي نظام لتلافي الفوضى والشتات، ومهما كان اعتراضنا على الدستور، فإن الالتزام به أولى بكثير من شيوع الفوضى، ثم إذا كان الإسلاميون لا يلتزمون بالدستور تدينا، فإن هناك الكثير من عصابات الجريمة المنظمة وشبكات الفساد الحكومي وخلايا المافيا ستستفيد كثيرا من حالة الفوضى أكثر بكثير من فائدة (المشروع الإسلامي).
ولذلك حينما صعد أردوغان على منصته ليعلن بكل وضوح: (نحن حماة العلمانية في تركيا)، لم يستطع الكثير من (الإسلاميين العرب) أن يفهموا ذلك إلا بمستويين؛ مستوى (المجاهدين) وهو عندهم ردة صريحة عن الإسلام، وأن أردوغان خدع المسلمين ونكث بهم، ومستوى المثقفين والسياسيين؛ أن هذا تكتيك مرحلي و (تقية سياسية)، والحقيقة لا هذا ولا ذاك، فأردوغان لديه مشروعه الطموح -لا شك- لكنه ملتزم بعقد اجتماعي مع شعبه ووفق النظام القائم، ولن يتجرأ أن يغير هذا النظام إلا بالأدوات الدستورية والقانوية، التي تجعل الشعب هو الذي يقوم بالتغيير ويبقى هو الجهة المنفذة لا غير، هذه هي طبيعة العقد، والوفاء بالعقد من الدين (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود).
تعقيبا على الحلقة الأولى من هذا المقال، اعترض عليّ -هاتفيا- أحد وجوه الفكر والسياسة الأتراك وقال: إننا نتابع كل ما تكتب، وقد لمست في مقالتك الأخيرة تحيزا لنا، فقد أحسنت الظن بنا كثيرا وذكرت إيجابياتنا ولم تذكر سلبياتنا! قلت له: وكلامك هذا يدعوني لأن أتحيز لكم أكثر.
نعم، أنا أعلم أنه لا توجد تجربة بلا سلبيات، وهذا أمر بديهي ومفروغ منه، بيد أني هنا لست بمقام محاكمة التجربة التركية، فالعنوان لا يتضمن هذا وإنما يتضمن ويتطلب تقويم التجربة العربية مقاربة مع التجربة التركية، وأن نقتبس منها ما يمكن أن يعيننا على الخروج الآمن وبأقل الخسائر من مآزقنا المعقدة والمتراكمة.
تعرفت على تركيا وتجاربها منذ ما يقارب العقد والنصف من الزمان، وتداخلت مع الكثير من روادها والمؤثرين فيها من شتى التوجهات، ولم تمر سنة واحدة إلا وأنا مشترك معهم في أكثر من ورشة أو ندوة أو لقاء ثقافي بشكل من الأشكال، وهم حقيقة يحبون الحوار ويجيدون الإصغاء، ولا أنسى هنا لطيفة حدثت معي، حيث استضافتني قناة تركية في أحد برامجها المعروفة، وكان الموضوع حول (المشروع الإيراني)، وكنت أظن أن البرنامج ساعة واحدة كما هو معتاد، ولما سألت الأخ المقدم أثناء الفاصل قال: الوقت مفتوح لكم حتى نكمل كل محاور الموضوع، وفعلا استمرت الحلقة هذه على الهواء مباشرة لثلاث ساعات وثلث!
إن الشعب التركي عموما لا تستهويه الأسماء والألقاب، ولا يهتم بالقضايا الشخصية، والمناكفات اللفظية، ولا حتى الولاءات الأيديولوجية، بقدر ما يهتم بالإنجازات العملية على الأرض، فهذا هو المعيار الأساس لديهم، ولذلك تأتي النتائج مخالفة للكثير من توقعاتنا المبنية أساسا على الولاءات الحزبية أو التأثر العاطفي بالخطابات التعبوية والعاطفية، وسأضرب لذلك بعض النماذج:
الرائد الأكبر لهذه التجربة هو الأستاذ نجم الدين أربكان، والذي كنت أتابعه منذ بداية التسعينيات وأعجبت بتجربته، وكنت أختلف مع أستاذي أبي القيم الكبيسي والذي كان ينتقد مشاركته السياسية فيقول:
ارم البطاقة أربكان فيها المذلة والهوان
فكنت أرده ممازحاً:
نجم الدين الأربكان ثائر ثائر كالبركان
لقد تقلب هذا الرجل في العمل السياسي بصورة لا يستوعبها العقل العربي بسهولة، فهو مؤسس حزب (النظام الوطني) ثم (السلامة الوطني) ثم (الرفاه) ثم (الفضيلة) ثم (السعادة)، ومرة يدخل السجن ومرة يحظر من العمل، ومرة ثالثة يشارك في الحكم، يدخل الانتخابات فلا يحصل إلا على %2 فقط، ثم يفوز بالأغلبية ويشكل الحكومة، ثم يتراجع إلى %2، هذا من حيث صناديق الاقتراع، أما محبة الناس له وشعبيته فهي أكبر بكثير من ذلك، ولا أدري حقيقةً أأعجب من قدرته هذه على المناورة؟ أم أعجب من شدة متابعة الجماهير له وهو يطل عليهم كل يوم بعنوان؟
الشعب التركي هنا يفصل بين محبته لأربكان، وبين الأداء السياسي المتوقع لحزبه في هذه المرحلة أو تلك، ولا يخلط أبداً بين هذا وذاك، فصناديق الاقتراع تحاكم الأداء السياسي المتوقع فقط ولا علاقة لها بالحب والكره ولا الولاء والبراء أبدا، وقد كان يوم وفاته أشبه باستفتاء شعبي على محبته لا مثيل له في تاريخ تركيا كله.
النموذج الثاني هو شخص رئيس الوزراء الحالي رجب طيب أردوغان، وهو من عائلة فقيرة جدا، وكان في الابتدائية والإعدادية يبيع كعك (السميط) ليوفّر حاجاته ومتطلبات دراسته، ثم دخل معهد (الإمامة والخطابة) ثم كلية (الاقتصاد والأعمال) ثم التحق بالأحزاب التي شكلها أربكان، ثم انشق عن (شيخه) مع مجموعة كبيرة من الشباب من بينهم الرئيس الحالي (عبد الله غول)، ثم شقوا طريقهم عبر (العدالة والتنمية) المنافس الأشد والأقوى للتجربة الأربكانية! وصولا إلى الأغلبية الساحقة والفوز بمقاليد الحكم!
في ثقافتنا العربية يصعب علينا أن نتصور إنسانا واحدا يجمع في آن واحد بين محبته للشيخ والمعلم وبين خذلانه له في التصويت والانحياز إلى تلميذه المنشق عنه! إلا إذا تصورناه نوعا من النفاق وازدواجية ذي الوجهين، ولكن الثقافة التركية عموما تعد هذا أمرا طبيعيا ولا غبار عليه دينيا ولا أخلاقيا ولا سياسيا.
أذكر بهذا الصدد لطيفة غريبة، حيث دعاني أحد الشباب الأتراك منذ شهور للحضور في أسرة تربوية لجماعة (السعادة) في منطقة (العمرانية)، فقلت له: أنت ما علاقتك بهم؟ قال: أنا كنت واحدا منهم وعضوا في أسرتهم، ثم اخترت الانضمام إلى (العدالة والتنمية) لكنهم ما زالوا يدعونني في الكثير من لقاءاتهم ويشركونني في الكثير من مشاوراتهم وفعالياتهم! استجبت لدعوته وكان لقاءً جميلاً ولم ألمس أية إشارة منهم أنهم يتعاملون معه كمنشق أو مخالف، تأكدت مرة أخرى أن هؤلاء القوم يتركون الخيار لكل فرد بحسب قناعته ولا يتدخلون في النوايا، فهذا حق شخصي ليس لأحد سلطة في منعه أو تقييده، هذه ثقافة عامة عندهم وهي غريبة عندنا بلا شك.
أما النموذج الثالث فهو فتح الله كولن، الشخصية الأبرز المثيرة للجدل الآن في تركيا، والذي توصف جماعته اليوم بأنها (دولة داخل الدولة)، حيث تتبعها المئات من المدارس والجامعات والمستشفيات والبنوك ومؤسسات (الخدمة) التي لا حصر لها، إضافة إلى امتداداتها داخل المؤسسات الأمنية والقضائية، وتمددها خارج تركيا في الكثير من دول العالم، فلها مثلا ما يزيد على المائة مدرسة في الولايات المتحدة الأميركية وحدها!
حركة كولن انبثقت أو (انشقت) عن جماعة النور، بقيادة جديدة ومنفصلة، وهي لا تتدخل في السياسة تدخلا مباشرا، لكنها تحقق أغلب أهدافها من خلال تحالفاتها البراجماتية مع مختلف الأطراف، ولا يعترف زعيمها بالمجال العربي أو الإسلامي، ويعتقد أنه قد يكون مؤذيا لتركيا، ولذلك انتقد (مجموعة الثماني) التي أسسها أربكان، ثم انتقد أيضا (أسطول الحرية) المساند لغزة، وحذّر من جر تركيا إلى صراع مستعجل مع إسرائيل.
هذا الرجل لا يقيم في تركيا، بل هو مقيم منذ سنوات طويلة في ولاية بنسلفانيا الأميركية، ومع هذا يمارس كل هذه السلطة على أتباعه، ولا أعلم حالات تمرد أو التفاف على نفوذه هذا داخل الجماعة، وقد التقيت قبل سنتين تقريبا بأبرز قياداته وهو رجل كبير وغير متزوج، وقد خبرني أحد المقربين منه أن السيد كولن منعه من الزواج لكي يتفرغ لخدمة الحركة!
ومع كل هذا النفوذ لكنه في خلافه الأخير مع أردوغان لم يؤثر في شعبية أردوغان السياسية على خلاف ما كان يتوقعه الكثير من المراقبين.
هناك أسئلة كثيرة لا نجد لها تفسيرا وفق منظومتنا الثقافية والسلوكية والنظرة عندنا للموافق والمخالف، إنها تجربة من عالم آخر لا يشبهنا ولا نشبهه، وإني هنا لا أجلد الذات، ولا أدعو للاستنساخ، لكنني أدعو لدراسة التجربة والاستفادة منها فقط.
لا أنسى هنا أن محدثي قد ختم محادثته معي بقوله: أرجوك لا تنتقد تجارب الجماعات عندكم، لن يستفيدوا أبداً من النقد، وسيهاجمونك فقط.
أتمنى من قلبي أن يكون محدثي قد أخطأ في قراءته لواقعنا، فكل بني آدم خطّاء
647 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع