د. منار الشوربجي
رغم النفوذ المعروف للمال في السياسة في أميركا، إلا أن الولايات المتحدة تفتح هذا الشهر صفحة جديدة أزيلت فيها واحدة من أهم ما تبقى من قيود كانت مفروضة قانونا على دور المال في السياسة. فالمحكمة العليا الأميركية أصدرت حكما غيّرت من خلاله طبيعة عمل النظام السياسي، التي كان متعارفا عليها على مدار أربعين عاما تقريبا.
ففي بداية أبريل الجاري، أصدرت المحكمة العليا قرارا ألغت فيه السقف الذي كان مفروضا بحكم القانون، على تمويل المواطنين كأفراد للحملات الانتخابية. فوفق قانون تمويل الحملات الانتخابية، يحق للمواطنين تمويل هذه الحملات كأفراد وكجماعات وكمنظمات.
وبالنسبة للأفراد، يحق للفرد الواحد أن ينفق من ماله الخاص لتمويل المرشح الفرد، ولتمويل الحزب الذي يفضله، فضلا عن تمويل جماعة المصلحة التي يميل إليها، أو الثلاثة معا.
ومن حقه أن يمول حملة أكثر من مرشح وأكثر من جماعة مصلحة، على ألا يزيد حجم ما ينفقه إجمالا في الدورة الانتخابية الواحدة عن 123 ألف دولار. لكن أحد رجال الأعمال من أصحاب المليارات، أراد أن يتخطى ذلك السقف فأقام دعوى، شجعه على إقامتها رموز مهمة في الحزب الجمهوري على رأسهم ميتش ماكونيل زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ.
وقد تدرجت الدعوى أمام المحاكم الفيدرالية حتى وصلت إلى المحكمة العليا التي حكمت بإلغاء ذلك السقف، الذي اعتبرته غير دستوري لأنه يمثل قيدا على "حرية التعبير"، على أساس أن التمويل يمثل أحد أشكال التعبير عن الرأى.
والمحكمة بذلك ناقضت صراحة حكما شهيرا لها صدر في عام 1976، يعرف باسم "باكلي ضد فاليو"، كان قد قضى بدستورية وضع سقف على التمويل، واعتبره يمثل "قيدا هامشيا" على حرية التعبير، والتي تقاس في هذه الحالة تحديدا "بالممارسة لا بحجمها"، وأضافت أن "رغبة الدولة في منع الفساد أو شبهة الفساد تبرر ذلك القيد الهامشي".
والحقيقة أن التخلي عن سقف تمويل الأفراد للحملات الانتخابية، يفتح الباب واسعا أمام جعل النظام السياسي الأميركي أسيرا لحفنة قليلة من كبار الأثرياء، القادرين على تمويل الانتخابات تمويلا لا محدودا، ومن ثم حسم المعارك الانتخابية لصالح مرشحين بعينهم سيحققون مصالحهم بالكامل عند وصولهم للسلطة، بغض النظر عن مصلحة أغلبية الناخبين وما عبروا عنه في صناديق الانتخابات.
والقضية لا تقتصر فقط على التخلي عن سقف التمويل بالنسبة للأفراد. فالمحكمة العليا كانت في عام 2010 قد أصدرت حكما قوض، هو الآخر، أحد القيود الأخرى المهمة المفروضة على نفوذ المال في السياسة.
فقد كان قانون تمويل الحملات الانتخابية الصادر عام 2002، يحظر على الشركات والهيئات والاتحادات العمالية أن تنفق من خزانتها لتمويل الحملات الانتخابية بشكل مباشر، إذ عليها أن تنشئ لذلك كيانا خاصا تجمع فيه أموالا يشارك فيها من يريد من العاملين وأصحاب الأسهم بشكل تطوعي، ويتم منها تمويل الحملات.
والقانون كان يحظر أيضا قيام تلك الشركات والهيئات والاتحادات، بإنتاج أية إعلانات أو دعاية انتخابية تهدف لمساعدة أو هزيمة مرشح في الشهر الأخير قبل الانتخابات، حتى ولو بشكل مستقل عن المرشح. لكن المحكمة العليا بدلا من أن تعتبر تلك الهيئات جميعا "شخصيات اعتبارية"، فإنها عاملتها مثل "الأفراد"، ومن ثم اعتبرت أن لها حرية التعبير نفسها الممنوحة للأفراد.
كي تنفق كما تشاء قبيل الانتخابات، لمساعدة أو هزيمة مرشح. بعبارة أخرى، لعبت المحكمة العليا في الأعوام الأخيرة دورا مهما في تقويض قانون تمويل الحملات الانتخابية، الذي صدر في عام 2002 بعد جهد دام ستة أعوام كاملة.
والحقيقة أن تقييد دور المال في السياسة في أميركا، ظل دوما يصطدم بعقبتين، أولاهما أن الولايات المتحدة لا يوجد فيها نظام التمويل من المال العام للحملات الانتخابية، باستثناء إحدى مراحل الانتخابات الرئاسية.
وحتى في الانتخابات الرئاسية، يكون قبول المال العام اختياريا من جانب المرشح الذي عادة ما يرفضه، لأنه يفرض عليه قيودا لا يريدها. أما العقبة الثانية فهي أن المحكمة العليا قامت منذ البداية بتعريف استخدام المال في تمويل الحملات السياسية، باعتباره أحد أشكال التعبير عن الرأي، وبالتالي مثلت عقبة كأداء في طريق فرض القيود على التمويل.
لكن من المهم القول إن التحول في تشكيل المحكمة العليا زاد من حدة المشكل، فاختيار قضاة المحكمة العليا من اختصاص الرئيس، ولا يتم تعيين القاضي إلا بموافقة مجلس الشيوخ. وبمجرد تعيينه يستمر في موقعه حتى وفاته، أو حتى يقرر هو التقاعد. ومن هنا، يمكن أن يأتي أكثر من رئيس ولا تتاح له فرصة اختيار قاض واحد، ثم يأتي رئيس آخر فتتاح له فرصة اختيار أكثر من قاض.
وقد تغيرت بالفعل تركيبة المحكمة بفعل سنوات حكم الرؤساء الجمهوريين، ريغان وبوش الأب ثم بوش الابن، إذ صارت الأغلبية الحالية في المحكمة تميل بواقع صوت واحد نحو اليمين. وهو ما زاد من حدة الموقف من مسألة تمويل الحملات الانتخابية، كما اتضح في الحكم الصادر في عام 2010 والحكم الصادر في الثاني من أبريل الحالي.
خطورة ما يجري أنه يقلص من دور الناخب العادي في العملية السياسية، فصوته يغرق وسط كل تلك الأموال التي تدفع بمرشحين للأمام وسط دعاية ضخمة، فتهزم مرشحين آخرين ربما هم أكثر قربا من تلبية مصالح ذلك الناخب.
والمفارقة هنا، هي أن المؤسسة الوحيدة غير المنتخبة من بين مؤسسات الحكم، أي المحكمة العليا، والتي ألغت أجزاء من قانون أصدرته المؤسسة المنتخبة، أي الكونغرس، هي التي تفتح الباب لدور المال على حساب الناخب.
لذلك تتحرك اليوم جماعات من آلاف الناخبين، في مظاهرات رافضة لذلك التحول، وضاغطة من أجل دور للكونغرس من جديد لإصدار قانون يلغي قرارات المحكمة، وهو ما يملكه الكونغرس فعلا.
653 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع