بغداديات .. التدخين/سكائر وارگيله
ليس من عصر كثرت فيه التجارب كعصرنا هذا وكأن الإنسان قد أصيب بهوس التجارب وعدواها في كل ما يمت إلى حياته بصلة. وقد تكون هذه التجارب مجرد واجهه أو مدخل شرعي لممارسة كافة الرغبات والأهواء على اختلاف أنواعها وشذوذها حتى تتحول تلك التجارب أخيرا إلى عادة مستحكمة ظالمة تقود الإنسان حسب هواها ورغباتها. وأكثر ما ينطبق ذلك على عادة التدخين التي تحكمت بعقول الناس على اختلاف مللهم وعلمهم ومشاربهم واعمارهم واجناسهم ..
عادة التدخين آفة حضارية كريهة أنزلت بالإنسان العلل والأمراض كتأثيرها السيئ على الغدد الليمفاوية والنخامية والمراكز العصبية وتأثيرها الضار على القلب وضغط الدم والمجاري التنفسية والمعدة والعضلات والعين ..الخ ...
إنها تجارة العالم الرابحة ولكنه ربح حرام قائم على إتلاف الحياة وتدمير الإنسان عقلا وقلبا وإرادة وروحا. والغريب أن الإنسان يقبل على شراء هذه السموم الفتاكة بلهفة وشوق لما تحدثه في كيانهم من تفاعل غريب تجعله يلح في طلبها إلى أن تقضي عليه.
لا شك أن إغراءات الأصدقاء الواقعين تحت تأثير هذه العادة هي التي تعمل على إدخال البسطاء إلى عالمها الزائف الخادع حيث لا يتمكن أي منهم من التخلص منها إلا بعد شق النفس هذا إذا قدر له الخروج. وكأن الإنسان يظن انه يجد في هذه السموم ملاذا من همومه الكثيرة يهرب إليها في الشدائد والملمات. وهو لا يدري أن من يهرب إلى سم التبغ هو كمن يستجير من الرمضاء بالنار، لأنه بذلك يستنزف قواه ويقضي على البقية الباقية من عافيته.
انا احد الاشخاص الذين وقعوا تحت تأثير الاصدقاء في فترة المراهقه وعلموني تدخين السكائر واستمررت على هذه العاده اكثر من خمسين سنه مما تسببت لي بانسداد الشرايين التاجيه وتركتها ويدون رجعه لاني شعرت بمدى الفرق عن ما كنت خلالها ..
مقالتنا اليوم ليست تشجيع على التدخين بقدر ماهي توثيق تاريخي لهذه العاده ومااستخدم من ادوات ووسائل لترويجها وقبل ان نبدأ لابد من موجز تاريخي لهذه الافه التي وردتنا من امريكا عند اكتشافها كما هي مصدر البلاوي على مدى التاريخ ..
هنا تبدأ الحكاية الاصلية .. تبدأ بين اهل امريكا الأصليين .. اي الهنود الحمر فعندما نزل " كولمبوس " إلى العالم الجديد في رحلته المشهوره عام 1492 في جزيرة كوبا شاهد قرية صغيرة يسكنها قوم لهم ملامح مثيرة ويعيشون في اكواخ من القش وسعف النخيل وعرف منهم ان لهم ملكا يسكن في داخل الجزيرة أعتقد " كولومبس " أن لملكهم أكواما من الذهب .. فأرسل بعثة أكستشافية لتساومه على بضاعة يحملونها مقابل الذهب ولكن البعثه لم تجد إلا فقراء وبين ايديهم لفافات بنية غامقة وبجوارهم نار بها جمرات وعلى احد طرفي اللفافة توضع الجمرة ..
اما الطرف الاخر فموضوع في احدى فتحتي الانف ومنه يحدث الشهيق والزفير ويكون على حلقات دخان وبعد ان يستنشق الكوبي من اللفافة مرتين او ثلاثة يسلمها لمن يليه .. وهكذا تدور اللفافة بينهم حول الدائرة المنصوبة تعجب البحارة مما رأوه وبدافع الفضول عرفوا سر هذه اللفافات فهي مصنوعة من اوراق نبات بري ينمو هناك بكثرة وبعد تجربتهم وتأكدهم من آثارها الرائعة ..
جمعو البحارة جميع مايستطيعون من هذا النبات واخذوه إلى بلادهم وبعد ذلك اصبح التدخين تجارة هائلة جنى العالم فيها اكواما من الذهب فإستهلاك الولايات المتحدة الامريكية عام 1980 بلغ ستمائة وخمسين الف مليون سيجارة وتجارة التبغ في العالم هي نفس العام قد بلغت مائة مليون دولار !!
لم يعرف تاريخ دخول التبغ الى العراق ولكنه من المؤكد قد دخل في عهد الحكم العثماني وكان التدخين يتم بواسطة الغليون ومن ثم بواسطة الارگيله لاحقا وتطور الى سكائر اللف بواسطة ورق رقيق ومن ثم الى سكائر المزبن التي تصنع يدويا وبعد ذلك الى السكائر الميكانيكيه المصنعه في معامل خاصه وهذه الفتره كانت في ثلاثينات القرن الماضي وظلت الانواع الاخرى متواجده حتى فتره قريبه من نهاية القرن العشرين وقد نشطت سكائر اللف والمزبن في فترة الحصار في تسعينات القرن الماضي .
بدأت صناعة السكائر وانتاجها في منتصف الثلاثينات من القرن العشرين وبانواع متعدده حسب الشركات المنتجه ولكنها كانت تأخذ شكل السكائر الاجنبيه بالشكل والتغليف عدا كون التبوغ كانت عراقيه وخاصة من مناطق كوردستان العراق وقسم اخر كان يستورد لحساب هذه الشركات من امريكا الاتينيه والهند وامتازت السكائر العراقيه بجودتها ونقاوة تبوغها وبانواع متعدده منها في المراحل الاولى لغاية عام 1960 تقريبا كانت الانواع :
غازي / لوكس / تركي /الاهليه / ملوكي / الجمهورية
يضاف اليها الانواع المحليه مثل : ورق بافرا للف التبغ والتبوغ كانت تعتبر تجاره رائجه ومربحه وتجارها من الاغنياء وتنتشر في سوق السراي الحالي الذي كان خاصا للتبوغ ..
وكذلك سكائر المزبن وهي سكائر يوضع في مؤخرتها اسطوانه ورقيه فارغه لابعاد التبغ من الدخول الى الفم وباقي السكاره ورق رقيق مملوء بالتبغ المرصوص يدويا وكان يباع باللفات حسب الطلب عشره او عشرين او خمسين سكاره وكان في كل منطقه تجد واحد او اكثر من التتنجيه بائعي التبوغ والمزبن وورق اللف ولم يكن لديهم سكائر مصنعه لانهم يعتبرونها منافسه لبضاعتهم .
وكانت هناك السكائر الاجنبيه في حقبة الاربعينات والخمسينات وهي انواع متعدده تسودها الانكليزيه والامريكيه مثل :
كريفن . أ ابو البزون \ بلايرس ابو البحار \ جاستر فيلد \ لاكي ستراك \ سوبراني \ كامل ابو الجمل \ ابو الديك \ ثري فايف ثلاث خمسات \ بلاك اند وايت \
وكانت جميع هذه الانواع بدون فلتر وتعبأ بحجم صغير ذو عشرة سكائر او حجم متوسط ذو عشرين سكاره وفي علب ورقيه او بحجم خمسين سكاره ومعباه في علبه معدنيه وجمعيع السكائر الاجنبيه تفتح من الاعلى بخلاف السكائر العراقيه التي كانت تفتح جانبيا الى ان تطورت الصناعه في نهاية الستينات ..
في المرحله الاحقه في بداية الستينات ظهرت المصفاة ( الفلتر) في السكائر الاجنبيه وبعض من السكائر القديمه اتخذت هذها التطور والعض منها اهمله ومن الانواع التي كانت تسود السوق انذاك :
روثمن ، كريفن ، كنت ، سالم بالنعناع ،كونسليت بالنعناع ، مارلبورو ،ونستون، بنسون اند هيدجز، ديموريه ، مور، جيتم الفرنسي،فايسروي..
واليوم السوق مليئه بانواع لاتعد ولاتحصى واكثرها مقلده وغير خاضعه لضوابط صحيه او فحوصات مختبريه .
ومن السائر العربيه المستورده كانت من الاردن نديم ،ريم ، فلاديليفيا .. ومن مصر كانت كيلوباترا..
وفي العراق فقد تطورت صناعة السكائرعلى مراحل واهمها المرحلة الاولى في ستينات القرن الماضي وانتجت سكائر الجمهوريه وهي سكائر لوكس القديمه ،وبغداد ،اطلس ،الرشيد...
وسومر\ الازرق والاسود سن طويل وامتازت بنوعيتها عالميا وكانت البعض من هذه الانواع تنتج وتعبا في فترة السبعينات والثمانينيات في بلغاريا .
ولابد من الاشاره الى ملحقات السكائر ومستلزماتها من القدحات والشخاط والعلب واواني اعقاب السائر وكان يتفنن بها الناس...
ومن القداحات التي اشتهرت ايام زمان قداحة ام الفتيله , زناد ،حجر،ام البنزين وهي بانواع متعدده .. الغازيه واشهرها رونسون والشخاط ابو ثلاث نجمات او ابو السفينه الخليجيه و شخاط الشمع والشخاط الورقي ..
واليوم تنتشر عادة تدخين الارجيله او الشيشه كما تسمى احيانا واصبح لها روادها من الشباب وهم في تزايد ويملئون المقاهي المنتشره في المدن وتقدم انواع متعدده من التبوغ ونكهات متنوعه اضافة الى تهيئه الاماكن الجميله التي تشجع على ارتياد هذه المقاهي ..
علما ان الارگيله كانت قد انتهت في منتصف القرن الماضي ولكنها عادت بقوه بعد الاحتلال وليس في العراق وحسب بل في عموم المنطقه وهي لاتقل خطرا من السكائر بل يقول الاطباء انها اخطر بكثير ..
بعد أن ازداد خطر عادة التدخين لا سيما في صفوف الشباب والمراهقين وطلاب المدارس والجامعات واستفحال خطرة على الصحة وخاصة الظروف الصعبه التي يمر بها الشباب والناس جميعا تحت هول الحروب والانفجارات والبطاله والخطف والقتل كل هذا الخطر الكامن وراءه الذي يستوجب محاربته على كل مستوى عن طريق التوعية الصحية والحذر من جعل الصحة مطية للشهوات وأداة للمقامرة. فالصحة هي الرصيد الحقيقي لكل دولة يحق لها أن تفتخر بنفسها وبمنجزاتها.
عبد الكريم الحسيني
1453 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع