كيف أصبح نظام البعث العراقي العدو الاستراتيجي لنظام البعث السوري؟!
أحمد بن صالح الظرافي
باحث في التاريخ الإسلامي
في صبيحة 10 رمضان 1393هـ، الموافق 6 أكتوبر1973، شن الجيشان المصري والسوري هجوما مباغتا على الكيان الصهيوني، الذي كان قادته، إذ ذاك، يحتفلون بأقدس أعيادهم الدينية، وهو "يوم الغفران"، وكنتيجة لهذه لضربة المفاجئة، حقق الجيشان المصري والسوري، تقدما كبيرا في اليوم الأول والثاني من الحرب، حتى أن الجيش السوري، استطاع تحرير هضبة الجولان كاملة، والوصول إلى مشارف بحيرة طبريا. وشاركت أغلب الدول العربية في هذه الحرب، بقوات رمزية، كما قامت الدول العربية النفطية، بوقف صادرات النفط إلى الولايات المتحدة والدول الأوروبية المؤيدة لإسرائيل. وأدى ذلك إلى أزمة طاحنة في الوقود لم يعرف الغرب مثيلا لها من قبل.
ولكن القيادة الصهيونية، وبخاصة بعد الجسر الجوي الأمريكي، استطاعت أن تستوعب هذه الصدمة، وأن تشن هجوما مضادا على الجيشين المهاجمين المصري والسوري، مركزة في البداية، على الجيش السوري، لأنه كان الأقرب، والأضعف، ولأن انهزامه سيكون ضربة قاصمة لمعنويات الجيش المصري، وأيضا لمعنويات العرب والمسلمين. ولم تخب توقعات القادة الصهاينة، ففي اليوم الثالث من الحرب، أي في صبيحة 8 أكتوبر، تعرض الجيش السوري لضربة جوية قاصمة، فتم تدمير حوالي 600 دبابة سورية، وقتل المئات من الجنود السوريين، الذين أمروا بالانسحاب من دون غطاء جوي، وانسحبت فلول الجيش السوري، التي كتبت لها النجاة باتجاه سعسع، وتخطى الجيش الصهيوني خطوط وقف إطلاق النار، لعام 1967، وواصل تقدمه إلى مسافة لا تزيد عن عشرات الكيلومترات عن دمشق، وقطع طريق دمشق – درعا، وباتت العاصمة دمشق نفسها على فوهة مرمى المدافع الصهيونية، ومهددة بالسقوط في أيدي الصهاينة.
وبينما كانت جماهير الأمة العربية والإسلامية، في قمة سكرتها ونشوتها، وهي تستمع إلى الأناشيد الحماسية، من الإذاعتين السورية والمصرية، بعد توالي البيانات الرسمية حول الانتصارات الخارقة التي حققها الجيشان المصري والسوري، استفاقت هذه الجماهير المخدوعة، على الخبر الأول من إذاعه راديو لندن، والذي يقول: "الجنود الإسرائيليون، يرقصون، على مشارف دمشق". كان الخبر صاعقا، ومزلزلا، فقد تم صياغته بطريقة محترفة غاية في الخبث والدهاء، لتحطيم معنويات الجيوش العربية، ومعها الشعوب العربية المغيبة عن الواقع، وفي نفس الوقت لرفع معنويات الجنود الصهاينة، ومعه الشعبين الصهيوني والأمريكي، لأقصى حد.
والفضيحة الأكبر، والمصيبة الأعظم، أنه بينما كان الجيش الصهيوني، يزحف منتشيا باتجاه العاصمة السورية، دمشق، كانت القيادة السورية، بقيادة حافظ الأسد، رئيس الجمهورية، والقائد العام للقوات المسلحة، يوضبون أغراضهم، ويتأهبون للفرار، إلى مدينة حلب، في أقصى الشمال السوري، (وفي رواية أخرى إلى اللاذقية في الساحل السوري معقل الطائفة النصيرية)، تاركين العاصمة دمشق تواجه مصيرها. لأن ما كان يهم حافظ الأسد وزمرته، هو بقاء حكم الطائفة النصيرية، مهما كان الثمن، ومهما كانت الفضيحة.
وفي غضون ذلك، دخل المعركة لواءان عسكريان، من الجيش العراقي ضد الجيش الصهيوني، فأنقذا الموقف، واستطاعا حماية دمشق من السقوط، في أيدي الجنود الصهاينة، وتكبّد الجيش العراقي في ذلك، خسائر جسيمة، نتيجة لعدم وجود غطاء جوي، بل هناك من يقول أنهما دمرا تماما، ولكن المهم أنهما أجبرا الجيش الصهيوني على التقهقر والفرار، يجر أذيال الخيبة والهزيمة، وكان الذي أشرف على هذه النجدة العسكرية القادمة، من العراق، هو صدام حسين، الذي كان آنذاك، نائبا للرئيس العراقي أحمد حسن البكر، والحاكم الفعلي للعراق. ولم يكتف نظام البعث العراقي بذلك، بل كان قد جهز ثلاثة ألوية عسكرية، على الحدود العراقية السورية، بكل عددها وعتادها، لغرض تطوير الهجوم على الجيش الصهيوني، وتحرر هضبة الجولان الاسترتيجية، وطلبت القيادة العراقية، من الرئيس حافظ الأسد استئناف الحرب، والسماح لتلك الألوية العراقية بعبور الأراضي السورية، لاسترداد هضبة الجولان، لأهميتها بالنسبة لدمشق، وللشام كله، وكذلك للعراق.
ولكن الانتظار طال، لأن الرئيس السوري حافظ الأسد، آثر الانخراط، في مفاوضات مشبوهة، مع هنري كيسنجر، المستشار اليهودي، للرئيس الأمريكي نيكسون، للأمن القومي "الذي اتبع إستراتيجية المكوك، وتكتيك الخطوة خطوة... بين كل خطوة، وخطوة وقت طويل، دون أن يحسم الموقف". فعاد الجيش العراقي، من حيث أتى، بعد أن رفض حافظ الأسد أن يسمح له بعبور الحدود، إلى داخل الأراضي السورية، وكان لابد للجيش العراقي أن يعود، لأن العراق آنذاك، كانت مهددة بالاجتياح من قبل شاه إيران. ولم يكتف حافظ الأسد بذلك، إنما أطلق إشاعة في أوساط السوريين مفادها أن الجيش العراقي، لا يريد العبور لقتال الكيان الصهيوني، وإنما لاحتلال العاصمة دمشق، وبالتالي سيطرة العراق على سوريا، وكان هناك شريحة واسعة من السوريين تؤيد ضم العراق لسوريا وبخاصة في حلب. في حين كانت الأقليات لديها حساسية مفرطة من النظام العراقي، لأنه محسوب على السنة، لذلك انتشرت هذه الإشاعة كانتشار النار في الهشيم في أوساط السوريين.
أما مفاوضات حافظ الأسد، مع كيسنجر، فقد أفضت إلى قبول الأسد باتفاقية فك الاشتباك الأولى، والأخيرة، في الجبهة السورية، في 31-5-1974. وكانت تلك الإشاعة مبررا كافيا للأسد، لكي يسحب جيشه من هضبة الجولان، إلى حدوده مع العراق، لمنع الجيش العراقي من العبور إلى سورية، ثم بعد ذلك، قام الأسد بالزج بجيشه في لبنان لتصفية المقاومة الفلسطينية، وإنقاذ جيش الكتائب الماروني، الذي كان يترنح تحت ضربات هذه المقاومة ممثلة في جيش لبنان العربي، بقيادة النقيب أحمد الخطيب، وفي غضون ذلك، تدفقت المساعدات الأمريكية، إلى سوريا، وبالمقابل زادت الواردات السورية من أمريكا.
حافظ الأسد وصدام حسين
ومن هذا التاريخ، صار نظام البعث العراقي، هو العدو الاستراتيجي لنظام البعث السوري (النصيري)، بقيادة حافظ الأسد، وصار المواطن السوري العادي، الذي يذهب إلى العراق لأي غرض، يحكم عليه بالإعدام غيابيا، وقد تعتقل أسرته كلها رجالا ونساء وشيوخا وأطفالا، لأجل الضغط عليه، لكي يعود إلى سوريا، وتسليم نفسه للسلطات الأمنية، ومنذ ذلك الوقت أيضا، كُتب في الجواز السوري "صالح للسفر إلى كل أنحاء العالم - عدا العراق".
وعندما نشبت الحرب العراقية الإيرانية عام (1980– 1988)، وقف نظام البعث النصيري، القومجي العروبي، إلى جانب النظام الإيراني الشيعي الفارسي، عسكريا، وسياسيا، وإعلاميا، وأمنيا. فبعد مضي أسابيع قليلة من غزو الجيش العراقي للأراضي الإيرانية، في سبتمبر 1980، قام نظام البعث النصيري، بإقامة جسر جوي بين دمشق وطهران، لنقل كميات كبيرة من الأسلحة السوفيتية الصنع، وخاصة مدفعية الميدان، والبطاريات المضادة للطائرات. وتم سحب بعض هذه الأسلحة من مخزونات الطوارئ الحربية للجيش السوري. وفضلا عن ذلك، كانت مخابرات نظام البعث النصيري، هي المزود الرئيسي للمخابرات الإيرانية بالمعلومات السرية، عن العراق. إلى جانب فتح أبواب دمشق للمعارضين الشيعة، أتباع إيران الخمينية، سواء من حزب الدعوة، أو والمجلس الأعلى، وبالتالي العبور إلى لبنان، لتفجير الحرب ضد العراق هناك.
ومع ذلك ظل نظام البعث النصيري، بقيادة حافظ الأسد، قلقا من عدوه اللدود نظام البعث العراقي، بقيادة صدام حسين، ولم يكن الرئيس السوري حافظ الأسد يخاف من أحد مثل خوفه من الرئيس صدام حسين، ولذلك ولتأمين ظهره من أي هجوم عراقي محتمل على سوريا، فقد أرتمى حافظ الأسد في أحضان الاتحاد السوفيتي، وصار شريكا استراتيجيا له في الشرق الأوسط، وقد تم تبرير هذا التحالف الاستراتيجي، بأنه لأجل إقامة توازن في القوة، مع الكيان الصهيوني، في حين أنه كان تحالفا موجها للعراق، وللداخل السوري، وليس للكيان الصهيوني، لأن نظام حافظ الأسد كان ولا يزال جزءا لا يتجزأ من المشروع الصهيوني.
ثم في عام 1991، خاضت القوات المصرية والسورية حرب الخليج الثانية، جنبا إلى جنب مع القوات الأمريكية، والأوروبية، وكذلك مع إسرائيل بشكل غير معلن.. ضد العراق. ويقال أن قرار المشاركة في الحرب ضد العراق، كان أسرع قرار أتخذه الرئيس السوري حافظ الأسد، طوال فترة رئاسته لسوريا. وأما الجولان، فقد تحولت إلى "جنة" للصهاينة يعيشون فيها بأمن وأمان، لا مثيل لهما، وبشهادة زعماء الصهاينة أنفسهم. فقد قال إسحاق رابين رئيس حكومة الكيان الصهيوني عام 1993:) لم يتعرض إسرائيلي في مرتفعات الجولان للإرهاب. لم تحدث محاولة تسلل واحدة من سورية. وهذا هو السبب في أنني لا استبعد أية ترتيبات مع السوريين.. استفاد سكان مرتفعات الجولان من 18 عاما من السلام والأمن. كما لم يستفد أي إسرائيلي آخر، سواء في تل أبيب أو القدس أو المستوطنات الزراعية المتاخمة للضفة الغربية). وهذا هو السبب في بقاء النظام حتى الآن لأن (بشار الأسد تحت إنذار دولي، وتحفظ عام، وتحقيقات وعقوبات أفضل الآن من كل خيار آخر)، كما قال كاتب صهيوني قبيل الربيع العربي.
المصدر: الجزيرة
1445 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع