الفنانة صباح في زيارة لمدرسة عادل الاهلية ببغداد عام ١٩٥٠
تعتبر الفنانة صباح ايقونة الفن في البلاد العربية بلا منازع. هي واحدة من أبرز الفنانين اللبنانيين الى جانب فيروز ووديع الصافي وامتدت حياتها المهنية من منتصف ١٩٤٠ لغاية ٢٠٠٠ لتترك خلفها ارثاً فنياً غنائياً وسينمائياً وتلفزيونياُ ومسرحياً كبيراً خلدها على المجال الفني على مر التاريخ. اشتهرت بالقاب كثيرة منها الشحرورة لولادتها في وادي شحرور من القرى اللبنانية والصبوحة وصوت لبنان.
لقد أحب العراقيون الفنانة صباح وتولعوا بفنها ولعاً شديداً لجيلين على الأقل فكانوا يتابعون اخبارها وسفراتها وحفلاتها عبر الصحف والمجلات ويحفظون اغانيها عن ظهر قلب عبر اذاعتها من الإذاعات العراقية والعربية فلم تكن وسائل الاتصال الحالية معروفة بالطريقة المتاحة فيها الان. والعراقيون متطرفون في حبهم وبغضهم للفنانين بصورة خاصة وقد غالوا في عشقهم لأم كلثوم عند زيارتها بغداد عام ١٩٤٦ وعلى عكس ذلك لم تنل زيارة الموسيقار محمد عبد الوهاب لبغداد عام ١٩٣٢ غير السخط والمقاطعة والتسقيط من قبل العراقيين وهو في بداية ظهوره. لكن مكانة صباح في نفوس العراقيين كانت على منحى اخر.
لقد حلت صباح عند زيارتها بغداد عام ١٩٥٠ ضيفة في فندق سميراميس الكائن على شاطئ شارع ابي النؤاس والذي كان يعتبر من أرقى الفنادق في العراق عندما كانت بغداد قبلة العالم قبل انشاء فندق بغداد ليسرق منه الاضواء وهو نفس الفندق الذي حلت فيه الكاتبة الإنكليزية الشهيرة اجاثا كريستي لكتابة قصتها "جريمة في بلاد ما بين النهرين".
عندما علم المعجبون بزيارة صباح لبغداد تجمعوا مقابل الفندق مطالبين برؤيتها مرددين الهتافات ومنها الذي لا يزال في الذاكرة نقلاً عن الوالد رحمه الله هو ان يهتف أحد المتجمهرين بقوله: "ماذا تريدون؟؟" وتجيبه الجموع المحتشدة: "نريد رؤية صباح" وذهبت مثلاَ على سبيل الدعابة.
شخصية لها شعبيتها ومعجبيها وشهرتها عندما تقوم بزيارة لمدرسة ابتدائية كانت تعد من ركائز النهضة التربوية والتعليمية في العراق الا وهي مدرسة عادل الاهلية فان ذلك يعد حدثاً تاريخياً له ابعاده وسماته ويبقى عالقاً في الاذهان. فليس خافياً ان مؤسسة ومديرة مدرسة عادل الاهلية هي لبنانية الأصل وكذلك الصبوحة وكان لقاء العمالقة.
الفنانة صباح جالسة في احدى حدائق المدرسة التي كانت مفخرة مدير المدرسة الدكتور انيس عادل رحمه الله
الفنانة صباح في الوسط وعلى يمين الصورة السيدة الفاضلة زهورة عادل (مدام عادل) مؤسسة المدرسة ومديرتها وعلى يسار الصورة الدكتور انيس عادل رحمهم الله جميعاً
السيدة زهورة عادل المعروفة بمدام عادل كانت شخصية معروفة بصرامتها وجديتها ولا تفرق او تحابي شخص او شخصية اجتماعية على حساب أحد اخر فالكل عندها سواسية من طلاب وطالبات واهاليهم مهما عظم شانهم او قل وكذلك الهيأة التدريسية. هدفها تنشأة أجيال مسلحة بالعلم والفضيلة والأخلاق الرفيعة والثقة العالية في النفس والعمل الجاد الدؤوب لخدمة الوطن وخلق روح المواطنة الحقة في نفوس النشئ لذا كانت توصف بالمرأة الحديدية في بعض الأحيان.
كانت العصا لا تفارقها حتى أصبحت جزءاً من شخصيتها. والعصا ليست مسطرة اعتيادية بل كانت (توثية) لا تتوانى عن استعمالها متى ما حضرت الضرورة والضرورة كانت حاضرة دائماً في عرفها وان الطالب المجتهد يحتاج الى الحث المستمر ليكون أكثر اجتهاداً والطالب الكسول بحاجة للضغط واحياناً المفرط ليجتهد ويكون ناجحاً وكل ذلك كانت تحققه بالعصا وربما بعض التربويين يعترضون على هذه الطريقة لكنها كانت طريقة ناجعة وتؤتي اُكلها دائماً. والعصا أصبحت من السمات التي لا بد ان يتصف بها بقية الطاقم التدريسي لتصبح مثل عصا التبختر العسكرية وعصا الماريشالية عند الضباط لكن هيبتها في يد مدام عادل كان له وقعاً مختلفاً في النفوس.
صباح بين طلاب الصف التمهيدي مدرسة عادل الاهلية
صباح، الشخصية المعروفة عربياً وبداية تسلقها المجد عالمياً والتي كانت جداول زياراتها مزدحمة دائماً إضافة لحفلاتها وسفراتها، لم تتوان عن زيارة مدرسة عادل الاهلية. فقد زارت المدرسة عام ١٩٥٠ وجمعتها تلك الزيارة بالمرأة الحديدية مديرة المدرسة مدام عادل. ربما اصولهما اللبنانية كانت القاسم المشترك لتلك الزيارة علماً بأن مدرسة عادل لم تكن الوحيدة المشاركة في بناء النهضة التعليمية والتربوية في العراق لكنها كانت مدرسة متميزة بكل المقاييس بجهود مديرتها مدام عادل التي كانت شخصية اجتماعية فرضت نفسها على المجتمع العراقي بقوة لتفانيها في مهنتها التربوية وتخريجها اجيالاً تبوئوا مواقع المسؤولية بكفاءة عالية والفضل يعود لمدام عادل في غرس روح المسؤولية والفضيلة في نفوس الصغار وتهيأتهم لمواجهة متقلبات الحياة بكافة تفاصيلها والتكيف معها.
شخصية مدام عادل كانت حديث المجتمع البغدادي بصفاتها السلطوية والطاغية وصرامتها وشدتها مع طلابها علماً بانها كانت تشارك الاسر العراقية في معظم مناسباتهم فقد شاركت مع طلابها في تخفيف المعاناة عن منكوبي الفيضان مثلاً وتوزيع الأطعمة عليهم كذلك مشاركاتها مع فعاليات الهلال الأحمر وتوزيع الهدايا والملابس على الايتام في أعياد الكريسمس الى غير ذلك لكن الجانب السلبي من الصورة كان طاغياً على الجانب الإيجابي وليس كل الناس تستسيغهم طريقتها في التربية والتعليم وجاءت زيارة صباح لكسر الصورة النمطية التي علقت في الاذهان.
صباح في أحد الصفوف لمدرسة عادل الاهلية
لقاء صباح بمدام عادل كان له وقع كبير على نفوس العراقيين وكلتا الشخصيتان كانت بحاجة للأخرى فشخصية صباح المحببة لدى نفوس العراقيين والوديعة الهادئة وظهورها بمظهر البساطة والاندماج مع طلاب المدرسة كان له ابلغ الأثر لدى الناس بإضفاء تلك الصورة الحانية على شخصيتها. كذلك مدام عادل ذات الشخصية الحديدية كانت بحاجة لإضافة لمسة من الوداعة والرقة والاهتمام بالفنون كاهتمامها بالعلوم وان الحياة في المدرسة ليست جافة وسلطوية كما يروج لها فأتت هذه الزيارة التاريخية للمدرسة لتكمل مسيرة كل الأطراف.
كانت مدام عادل مهتمة بالفنون كاهتمامها بالعلوم وايمانها بان الموسيقى تهذب النفوس كأيمانها بالعلوم التي تسلح الأشخاص بأقوى الأسلحة لخوض غمار الحياة. فقد تعاونت مع الأستاذ جميل بشير الذي تميزت موسيقاه بملامح عراقية صرفه وأصيله حيث كان كثير العطاء ومثال للفنان المثقف والمعلم البارع والمؤلف الباهر والعازف المتمكن المتقن على العود والكمان في تدريس مادة الموسيقى والاناشيد لطلاب المدرسة الذين كانوا يقدمون فعالياتهم من تلفزيون بغداد على الهواء مباشرة في بداية انشائه عام ١٩٥٦ واوبريت "راجعون" الشهير الذي كان يعاد بثه اكثر من مرة في اليوم عام ١٩٥٩ مما يستدعي بقاء الطلاب في الاستوديو لتحضيرهم على إعادة العرض وكل هذا كان يحدث بإشراف مدام عادل المباشر ومن خلف الكواليس وبانضباط وربط عاليين دون المشاكسات التي تحدث عادة بين الطلاب في مثل هذه الحالات.
كذلك استعانت بالفنان التشكيلي الأستاذ سامي الربيعي الذي كان يدرسنا مادة الرسم والاعمال اليدوية الذي كان حريصاً على اخذ رسوماتنا وعرضها في المتحف الوطني للفن الحديث (كولبنكيان) كبادرة تشجيعية لغرس حب الرسم في نفوس الطلاب. يشار ان هذا المتحف تمت سرقته بالكامل وتدمير كافة محتوياته بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام ٢٠٠٣.
تأسست مدرسة عادل في بغداد عام ١٩٣٢ بتطبيق مبادئ التعليم المختلط الذي لم يكن مألوفاً في ذلك الحين في محلة الاورفه لية باستئجار دار الحاج إبراهيم الاورفه لي ومحلة الاورفه لية تغيرت معالمها ولم يبق منها حالياً الا جامع الاورفه لي قرب مطعم تاجران في الباب الشرقي وقد نجحت نجاحأً متسارعاً في انضمام الطلاب والطالبات للمدرسة حيث انتقلت المدرسة الى مبناها الحالي في مدينة العلوية عام ١٩٤٤ على ارض واسعة لتكون مدرسة نموذجية تقدم للجيل الجديد احدث ما تتطلبه التربية الحديثة من ابنية صحية وحدائق واسعة وجميلة ومناخ لطيف يساعد على تنمية قوى الطفل العقلية والجسدية والروحية لتكن احدى دور العلم والفضيلة.
ومن التسهيلات الموجودة في هذه المدرسة العملاقة انشاء القسم الداخلي الذي يحتوي على غرف صحية واسعة للمنام وغرف للطعام والدرس وجميعها داخل حديقة المدرسة الجميلة مكونة بذلك مسكناً تتوفر فيه جميع أسباب الراحة في بيئة عائلية يعيش فيها الطفل ويدرس ويلعب ويأكل وينام تحت اشراف دقيق من قبل مربيات قديرات اختبرن هذا العمل مدة طويلة لذا تجد الطفل يدرس ويلعب ويأكل وينام في مواعيد معينة وبذلك ينمو ويكبر جسدياً وعقلياً وروحياً. كذلك تسهيلات نقل الطلاب من بيوتهم الى المدرسة واعادتهم لذويهم مساءاً باستخدام الباصات الحمراء المميزة التي تجوب شوارع بغداد وخصوصاً باص الاعظمية بقيادة العم ياسين الذي كان من معالم المدرسة الخالدة. ومن التسهيلات ايضاً فكرة اطعام الأطفال في المدرسة ظهراً لمن يرغب من الطلاب والطالبات الخارجيين والذين يصعب عليهم الذهاب الى بيوتهم ظهراً لتناول الغداء.
اين نحن الان من كل ما مر ذكره الا ان نترحم على ذلك الزمن الجميل الذي نعتبر أنفسنا محظوظون كوننا عشنا في تلك الحقبة والفضل كل الفضل يعود لأهالينا الذين بذلوا الغالي والنفيس في تأمينهم تلك الحياة وهذا ما وجدنا أنفسنا عليه ووفرناه لأولادنا متمنين ان يتم تناول الرسالة للأحفاد والله المستعان.
لقد كان لي شرف الالتحاق بهذه المدرسة العتيدة منذ نعومة اظفاري و التخرج منها مؤمناً بان الأساس القوي في بناء الانسان له الأثر الأقوى في بناء الشخصية وتكوينها لخوض غمار الحياة بكافة اشكالها ومناحيها وهذا ما جعلني امارس نفس المبدأ مع اولادي الذين اصبحوا مقتنعين بمبدأ مدام عادل الذي اصبح عقيدة مهمة لهم في الحياة ليمارسوها مع أولادهم وليس المقصود هنا بالعصا فلكل زمان له اساليبه في التربية لكن يبقى غرس حب العلوم و التفوق واحترام المدرس والمثابرة والصبر والاجتهاد والطموح وحب الوطن والشعور بالمسؤولية والأمانة والتضحية والايثار كلها مبادئ تغرس في نفوس الصغار لتبقى معهم لتكون صفات يورثونها لأولادهم والتي اتشرف بتسميتها عقيدة مدام عادل. فعلى اختلاف الزمان والمكان لا تزال هذه العقيدة مغروسة في نفوسنا وتم غرسها في نفوس أولادنا ليتم غرسها في نفوس احفادنا لتبقى خالدة ان شاء الله.
استمر عطاء مدام عادل منذ عام ١٩٣٢ ولغاية عام ١٩٦٩ حيث توفي زوجها المرحوم الدكتور انيس عادل الذي كان اكبر سند لها وبوفاته وصلت الى مفترق طرق استخلصت بانها من غير الممكن إدارة المدرسة بمفردها وقررت بيعها الى السيدة الفاضلة المربية الجليلة فيكتوريا اسطيفان وقفلت عائدة الى لبنان ثم الى انجلترا لتتوفى هناك ويسدل الستار على اكبر اسطورة من التربية الحديثة والتي تم تخريج عدد لا يستهان به من رجالات العراق وسيداته لأجيال رفعوا راية التفاني والإخلاص داخل العراق ولاحقاً خارجه وكان عام ١٩٦٩ عام هدم وتحطيم ممنهج لصروح العلم والثقافة وتم تأميم مدرسة عادل الاهلية وترحيل لآباء اليسوعيين من كلية بغداد وجامعة الحكمة وتأميم بقية المدارس الاهلية مثل مدرسة راهبات التقدمة الى باقي الصروح العلمية.
رحم الله مدام عادل والدكتور انيس عادل والسيدة فيكتوريا عادل وكافة الهيأة التدريسية الاحياء منهم والاموات وكل من علمني حرفاً فصرت له عبداً ورحم الله الفنانة صباح وكل من ساهم في نهضة العراق يشكل او بآخر وان شاء الله يعود العراق الى سابق عهده الذي الفناه قوياً منيعاً مهاباً وتزول عنه هذه الغمة الطارئة الكالحة والله سميع الدعوات.
754 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع