لحظة انتظار في الزمن الصعب
لم يفكر حقا بالموت وقد أحس دنوه هنا والآن.
لم يخطر على باله المشلول توقف القدرة على التفكير، ولا سريان الخدر متجها من أعلى الرأس الى أخمص القدمين.
الساقان الطويلتان غير قادرتين على حمل هذا الجسم الواقف قريبا من الباب.
غصة في الحلق لا تخرج خوفا من افتضاح الأمر وجلب انتباه الداخلين عنوة الى وقوفه خلف الباب.
دوار وألم وعدم قدرة على الثبات تقربه من الموت المرعب، تمنعه من أن يمسك الفأس المركونة على الرف القريب، والهجوم بها على المسلحين المنتشرين في الصالة كما تمنى في هذه اللحظة الحرجة.
فأس مقابل مسدس، وجسم يقترب منه الموت مقابل بندقية، غير معقول، وإغماءة قد تجنبه الموت خوفا، ستوقعه في الفخ المنصوب للموت عمدا.
النفس الخائرة تناجي أناها الواعية:
لابد من الصمود، بل والهرب، حتى لو تبين ما يحصل غير حقيقي، أو ضربا من الجنون، كما تنبئ مجسات الشعور المضطربة.
لا شيء يستعان به لتفادي السقوط على أرضية المخزن التي تتبعثر عليها الأشياء، سوى الاتكاء على الحائط، وتَحسسهُ باليد التي لا تمسك فأسا ولا تقوى على رد الباب.
عمل سريع يمكن أن يعيد الوعي، وينهي حالة التشوش الحاصلة في الادراك البصري والسمعي هو الهرب، لابد منه تحديا لهؤلاء الداخلين عنوة إلى البيت في وقت الأفطار.
المحاولة الأولى تفشل لعدم مطاوعة الساقين، اللتين بقيتا مسمرتين في المكان، إلا من ارتجاف كاد يسقط الأدوات الموجودة على الرفوف ويفشل أمر الهرب. موقف خذلان صعب يعيد الخائب إلى الطفولة..... نكوص إلى مراحلها المتأخرة، مفيد في حسم الصراع الحاصل بين الرغبتين المتناقضتين:
الموت بالهجوم على الداخلين بفأس، مقابل النجاة بالهرب من الموقف مثل قط يلاحقه كلب مسعور.
العقل الطفولي يحسم كثيرا من الاشكالات في كثير من المواقف، وإن كانت بعض توجهات الحسم نوعا من الجنون، يدفعه هذه المرة إلى التفتيش في المخزن عن مكان يمكن فيه الاختباء، كما كان يجري في اللعب مع الوالد، والبنات قبل أكثر من خمسة عشر عاما، لكن المخزن اليوم قد أمتلأ بالقديم من الأدوات والجديد منها.
ضاق كثيرا عما كان عليه أيام اللعب.
الزمن قد تغير، لم يعد فيه مجال للعب في مواقف الاغتيال.
حجم الجسم قد تضخم بما لا يساعد على الاختباء.
الوقت يمر حرجا، ولا مجال للتدقيق في الأفكار، فيتجه العقل الطفولي نحو الشباك الصغير في الركن المقابل لباب المخزن، المؤدي إلى الممر الخلفي للدار، سبق وأنْ أستخدم في لعبة الأختباء، أيام الطفولة، لكن كتيبة حديدية وضعت لتغطيته من الخارج بدافع الحيلولة دون تسلل السراق منه إلى داخل البيت، تزيد من التعقيد، وقد تفشل خطة الهرب.
زادت العتمة، وإقتربت الجدران ناحيته، أكثر فأكثر.
خشي أن ينغلق عليه التابوت، ولم يبق أحد من الأسرة يواري عليه التراب، سمع بملأ أذنين صاغيتين، أوامر تفتيش كل شبر من البيت.
لا يدري كيف قفز حافيا؟.
كيف وصل إلى الشباك؟.
وكيف دفع الحديد الذي صَديءَ من ملامسته مياه الأمطار؟.
الذي يدريه فقط، أن جسمه قليل الشحم، تقلص مثل الاسفنج، أحس في لحظتها أنه يخلو تماما من العظام.
قوة غريبة فعلت كل هذا بلحظة زمن لا تقاس. لم يعرف مصدرها حتى الآن، فاستسهل عزوها إلى الله، والقسمة المحتومة بالنجاة.
ثوان لا يتذكر في أثنائها تفاصيل مئات الحركات، والمحاولات المتعاقبة، حتى أصبح، خارج الشباك، خطوة هي الأهم باتجاه الخلاص، بضمنها رد الشباك قريبا من وضعه السابق، وسحب علبة كارتون فارغة لفرن كهربائي تم شراؤه قبل شهور من الآن، لتغطي الواجهة من الأمام.
اللحظات تمر وكأنها السنون، صراخ يعلو الصالة، وصمت أب مذهول، يدفع إلى الاستعجال دون الدخول بالتفاصيل.
الموقف صعب لا أمل فيه بإكمال فكرة الهرب إلى خارج البيت الذي قد يكون مطوقا من آخرين، عادة ما يضعهم أصحاب هكذا أعمال لأغراض إحكام التطويق والحماية، وللحصول على نوع من التنبيه، ولا أمل كذلك في النزول على الجيران، الذين أقاموا جدارا يفصلهم عن البيت وزادوا من أرتفاعه حتى لا يمكن تسلقه أو القفز من فوقه. ثم إن الهرب بعيدا عن البيت سيكون أكثر إيلاما من البقاء فيه، قريبا من أحداثه، للمشاركة بالألم على أقل تقدير.
سطح الدار هو الخيار الذي يؤمن المطلوب، هروب في غير هروب، أو نجاة من الموت، وموت منقوص طوال الحياة، حالة يمكن للمرأ بلوغ مطلبها ُبالقفز من على الحافة الاسمنتية العليا للشباك إلى حائطه الذي يعزل السطح، كما كان يحصل تماما أيام المراهقة، فجرى تنفيذه بنفس سرعة الخروج، وأنتهى الحال أستلقاء على بلاطه الاسمنتي الذي يحتفظ حتى هذه الساعة بحرارة النهار.
للراغبين بالأطلاع على الحلقة السابقة:
http://www.algardenia.com/qosesmenaldakera/10324-2.html
4736 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع