يهود العراق – ذكريات وشجون، الحلقة ٣٥ .. المقامة العراقية، في حديث رمل الجزرة البغدادية (١)
حدثتنا السيدة أميلي بنت بورتر، الكاتبة القديرة، والأديبة النحريرة، فهي من ناحية الأم، عراقية أصلية، ومن ناحية الأب، من أرومة أنكلو- سكسونية، وتجيد الكتابة باللغتين العربية والانكليزية، قالت:
طوحت بي لواعج الأشواق، إلى وطني العراق، وعزمت على الترحال، بعد أن هدأت في العراق الأحوال، فتذكرت صاحبنا النازح العراقي، الذي يروي لنا بحرقة واشتياق ِ، عن ذكرياته وشجونه في العراق، فتشجينا لوعته وحنينه، ويطربنا بلهجتي الحوار الاسلامية واليهودية، والتي تشبه لهجة أهل تكريت واللهجة المصلاوية. فقلت لنفسي، والله لا بد من إخباره، بسفرتي ومغامرتي، الى العراق الحبيب، لعله إلى ندائها يستجيب، ويزورها لعله يجد فيها لشجونه الترياق، الذي كان القدماء لاجله يشدون الرحال إلى العراق، أو يطلب تذكارا من بغداد، فهو من الشوق إليها يصيح "الداد"، فكتبت له قائلة: "اطلب يا عزيزنا واتمنى، أية هدية عراقية تريد نجيب لك، خاطر بيها تتهنى؟" فإذا به يستحلفني أن أفتش له عن الثريا الفضية، التي فرهدها من أمه، أبو الجراوية.
قلت له: والله هذا أمر عسير، ومسألة ما تصير، لأنني لا أعرف أوصافها، وطولها وعرضها وأصنافها، أحسن انتظر لما تهدأ الأحوال أكثر، وانروح سوا نتبختر، ويا الأستاذ كاظم حبيب، الصديق النجيب، فهو يطلع من الحق وبصير، وفي مثل هذه الأمور خبير، ما له نظير.
قال صاحبنا، زين ما يخالف! جيببنا مكانها حفنة، من تراب الجزرة.
فسررت لجوابه، وأخبرته بأن طلبه، على العين والراس، وعلى بختك، ليس في ذلك باس، وقد وفقني الله إلى تلبية طلبه، وتحقيق أمنيته، فتسلم شاكرا ،حفنة الرمل من الجزرة، فكتب إلي الرسالة التالية، ملأها بالممنونية العراقية، وها أنا أنقلها إلى للقراء الكرام، كاملة بنصها على التمام:
السيدة أميلي بورتر المحترمة، تحية أخوية عراقية، وبعد،
يا بنت العم الغالية الأديبة ومؤرخة الفن العراقي الحديث، السيدة أمل بورتر، محققة الآمال وحاملة هموم العراقيين النازحين من العراق، والمقيمين ببطولة وشجاعة فيما بقي آهلا من ربوعها الجميلة، متمسكين بتراب العراق الغالي، ويقولون نحن في سبيلها بالموت والمفخخات لا نبالي. والله، تالي متالي، أثاري سويتيها صدك، ودزيتي لي حسب طلبي، حفنة غالية من تبر العراق الثمين، وآني ممنونج، وحياك الله على هل الدگة المردانة، والخزعلية المباركة اللي دگيتيها ويانا، مثل الدگة اللي بيها ابلانا، صديقي، وأعز أصحابي، الشاعر عبد القادر الجنابي، لما وهدنـّي بمقابلة في مجلته "إيلاف" التي لا تحابي، وأنا ما أزال منها أعاني. فقضت مضجع ذكرياتي إلى اليوم. ولكن علي يقع اللوم. بس تريدين الصاغ، آني چان متت من القهر والحنين، لو ما افرغ من قلبي كل الشجون، و لو ما إتدزيها الحفنة الرمل الغالية التي ولولاها، لبقيت مجنون هواها ، واللي حفنتيها بشجاعة من برسالتهم يؤمنون، فأنت، دام فضلك، من المشفقين على من أضناهم الى العراق الحنين، ولم تخشي عيون المخبرين، وأمام جميع الناظرين، صرت بشجاعة تحفنين، من رمل الجزرة، إللي الله يذكرها بالخير، أمام شارع أبو النويص (أبو نواس)، الذي كان أيام زمان يعج باليهود أيام السبوت والاعياد، فحفنت الحفنة بأريحية عراقية كريمة، والله يكثر خيرج ويزيد من أمثالج، ونحن لك يا ام الهلـّة، من الشاكرين. و آني اعرف العراقيين الكرام الميامين، ما يكسرون أبخاطر أحد وخاصة بخاطر أصدقائهم المخلصين.
ويا للفرحة، اليوم وصلني طرد الرمل المبارك بسلام، كاملا بالتمام، وألف شكر على تجشمك المصاعب لأجلها، جازاك الله خيرا عليها، فقد طار عقلي من الفرح، ولم يبق في قلبي ترح، وتمتعتُ بشميم رمال دجلة وعطرها، يا رفيقة، واجهشتُ بالبكاء لما شممتها، وكبـّرتْ للرحمن حين عرفتني، وأشرقت نجوم بغداد مرة أخرى على دامس ذكرياتي التي اجترها حنينا، والتي لا يصدق البعض أنه حنين صادق، بل يتهمونه بأنه حنين منافق، "ترى إللي ما يصدگ لا يصدگ، وكل واحد أيلوگله حليبه"، ولكني أخشى أنهم "راح ويايا يسووها"، مثل مسلمي الأندلس الذين كانوا يقولون عن كل أمر مريب: "هذا أمر مشكوك فيه، مثل إسلام الشاعر اليهودي الاشبيلي، إبراهيم بن سهل الاندلسي". واليوم كم أخشي أن يقول عني الشامتون، المعلقون والمغتابون: "هذا أمر مشكوك فيه، مثل حنين سامي بن ابراهيم اليهودي، الذي طردناه في العصر الفرهودي!"
وبعد، فقد تأملت في حفنة الرمل التي تعطرت بأنفاس العراق وبلمسة يديك، في أيام الوفاق، وقلت والله لو حفنت هذه العراقية المخلصة حفنة في الأيام التي كانت فيها بغداد تعج بالمخبرين والشرطة السرية وأيام قصر النهاية التي ولت إلى غير رجعة، لاتهموها بأنها تختلس كنوز العراق، أو تقوم ببث لاسلكي لشبكة تجسس نصبها أعداء العراق، والتي تمتد إلى جزائر واق واق، ولو علموا أن هذه الحفنة سترسل إلى يهودي اجبر على هجرة العراق، حتى صاح: "دعوني فأرض الله واسعة، غدا أبدل أحبابا وأوطانا"، لكان هؤلاء الجلاوذة، قد دبجوا محاضر الاتهام ، وحكموا بالاعدام، على الجاسوسة الحسناء، التي تتعاون مع الأعداء، والذين يريدون تحليل تربة العراق لمعرفة سر غناها، ليسرقوا خيراتها وسر عظمتها، رغم المآسي والويلات التي حلت بها عبر التاريخ. فقد كان خيال هؤلاء "الحريصين على مستقبل العراق وأمن العراق" لا يضاهيه سوى صانعي ملحمة كلكامش وأساطير تموز إله الخصب، بعل عشتار أم الخيرات.
ومنذ أن وصلتني هذه الحفنة المباركة من تراب العراق، وأنا أعيد النظر فيها، فتشع بذكرى الجزرة المقمرة ولياليها، وعطر غيد العراق الفاتنات وشذى أغانيها، وألحان البلامجية الحيارى من حرارة وجد عشاقها، وأريج المسكوف من أسماكها، المتبلة بالكاري وعليها تلال البصل والطماطة والعنبة الهندية.
إذن، فهذه هي الرمال الذهبية، الذهبية حقا كما أتذكرها من طفولتي الباكرة، رقيقة ناعمة كلمسة أم حنون تداعب خد ولدها الوحيد، وتقبله وتعيد، وهي تناغيه: دللول، يما الولد عيني دللول.
على هذه الرمال سرنا بأقدامنا الغضة الوجلة، حين تعلمنا السباحة قرب چرداغ السنك المشيد بحصير قصب الأهوار، يم الشريعة، عند السباح هامي اليهودي، الذي كان ينشد بلهجة عراقية صميمة: "يا أبطال، ترى الأبو كريو يبيّن بالعبر، ديروا بالكم، اسبحوا لقدام وآني وراكم، والينكـّض ايجلب بالجوب مالي" (والذي يتعب يستطيع الإمساك بطوق النجاة المطاطي) ، ولاتنسوا تمدحوني قدام اهلكم، ويغني مع كل "كتف نضربه، و مع كل فوجة نفوجها، وأحنا بعدنا غشمة، بتلث كربات"، مترنما على إيقاعها: "يا اولاد بلبول، ما شفتم عصفور، ينكر بالطاسة، لابس حياصة" ونحن نؤكد على قوله بلازمة، بعد كل قافية، بترديدنا كلمة "بلي!" ويرد علينا بعض الخبثاء، وهم من السابحين القدماء، بكربة وبدون كربة، بقولهم باعتداء : "ولكم، بلبالة علي!".
وكانت معظم تعابير أخي يعگوب مستمدة من مصطلحات السباحة، فيقول عن الطالب الفاشل، هذا ميكييش بالدروس، واشما يضرب كتف ما يلحق بينا. واذا اراد أن يقول بانه لا يكف عن ملاحقة شخص فيعبر عن ذلك بقوله: والله لألحقوا للماي الاخضر، كناية عن منتصف النهر العميق.
ولفيضانات العراق قصص وحكايات، لذلك كان على كل بغدادي تعلم السباحة. ثم أخذنا نسبح بدون كرب الى جزرتنا امام العلوية ، فاذا اقترينا من الكيش، كنا نغني، "هذا الكيش حلاوي، ياكل تمر خستاوي". ويبدو أن أولاد المسلمين، كانوا يتعلمون السباحة عند اليهود الاسطوات السباحين ، فقد اخبرني الاستاذ الدكتور، والشاعر الاديب الكبير المولع بالفولكلور، حامي التراث الفني العراقي، مجيد القيسي، حفظه الله ورعاه، متمما حجايتي، بتفاصيل جديدة ما تنّسي:
" لقد تعلمت السباحة وأنا وأشقائي مثلك، في شريعة السنك، على يد الأسطيين اليهوديين (يحى وحوﮔـي) وهما من محلتنا. وبدأت بثلاث كربات وبعد 3 أشهر اجتزت الاختبار بعبوري الشط ذهابا وإيابا بدشداشتي! وعند العودة كانت المرحومة الوالدة ونساء المحلة بانتظارنا، فانطلقت (الهلاهل) والملبس .... وقبض الاسطييان الاجرة والبخشيش؛ ثلاثة أرباع الدينار!؟ وحين سألته الوالدة: أشلون سبح (مجودي)، فقال المرحوم (يحى) : ( قتسايلين، الله وكيلك ... سبح وفاج كنو عقروق!) <أي ضفدع وفي اللهجة الاسلامية عكركه>. وكنت مغرما بالجراديغ، ففي بداية كل عطلة صيفية انقل الحصران وخشب القوغ بالعربانة البرشقة، الى شريعة أبي نؤآس، وأقوم ببنائها بنفسي، فانا نجار خلفة عند المرحوم الوالد. وكان جرداغنا الأجمل في الشريعة، وكنا نزرع اللوبيا حوله، وكانت متعتي لا توصف عندما استلقي على الرمل الندي، البارد مساء، واحفر بيدي، حتى ينبع الماء على استحياء، وكأنه (حْديثة ما شايفه ولد! وكنا أيام العكلة لا نقتات الا على الخضروات والميوه".
هذا، وأنا أتحدى اليوم كل أدباء الغرب وكل منظري الأدب الأوربي والأمريكي، أن يأتوا بمثل هذه الأبيات الغنائية العبثية، والتي غناها أطفال بغداد والعراق مبتكري الأدب العبثي والمكشوف والهازل والناقد وباقي التيارات الواقعية، وقد سبق الأدب العربي كل هذه المذاهب الأدبية، بعصور طويلة قبل ظهور المذاهب والنظريات النقدية الاوروبية.
فمنذ أن طار أول لكلك (طائر اللقلق) في سماء بغداد، التي بناها أبو جعفر المنصور الدانقي، بعد ما قشمر أهل بغداد الفرحين، بقوله انه يمنح كل من فيها من القاطنين، هبة سنية، وعيشة هنية، فذهبوا يسجلون اسماءهم عند الجباة، وبعد أن تم التسجيل، والاسماء صارت تكميل، ضرب عليهم ضريبة، جديدة عجيبة، صاحوا منها الداد، وكادوا ان يهربوا من بغداد، فلما رأى هذا اللگلگ مئذنة الجامع الجديدة، منتهى آمال كل لقلقية سعيدة، صار عليها واقع، وبني عشه الوثير عليها، أخذ يلقلق بمنقاره يدعوها الى بناء عشهما فيها، ومنذ ذلك الحين، بنت اللقالق اعشاشها على منارات ومآذن العراق ونخيلها السامقة، وصار اولاد العراق ينشدون أغنيتهم العبثية عن "اللگلگ الطاير بالهوا، ويعيرونه بأنه يبكي على أمه، يريد حياصة، يلبسها مثل عصفور السباح هامي، وبأنها بعد طلق الولادة، جابت أمه ليوي، سمتا عليوي، ويتهمونه بسرقة الصابونة من جوه الرازونة".
قولي لي بربك يا أمل، هل يوجد أدب أكثر جمالا وعبثية، من أغاني الطفولة العراقية، وخاصة في تكريمها للعلم بقولها: "هذا العلم، يشرب جگارة بالبلم". فما أروع هذه القوافي والسجعات، التي سنتذكرها حتى الممات.
إذن فقد تحقق حلمي وأنا المس رمال بغداد، هذه الرمال التي درجت عليها في طفولتي، واحتضنتها وتمرغت في ذراتها مع أصدقائي وإخوتي، ونحن نلعب في الجزرة، وكم بنينا قصور الأماني من رمالها، واصطدنا صغار السمك، من أبو سويف وشبوط وبني، وأذا علقت سمكة جرية، بشواربها واسنانها الوحشية، كنا نلقيها الى الكلاب، لأن أكلها محرم ليس على اليهود فقط، وهم الذين حرمت عليهم الطيبات، وخاصة لأن ابجلدها ماكو أفلوس، وشكلها منحوس، واليهود ايحبون كل شي بالفلوس مطروس، بل على الذين انعم الله عليهم أيضا، فقد همس في أذني، الاستاذ الكبير، الدكتور مجيد القيسي النحرير، قائلا:
" بلي ليس اليهود وحدهم يعافون اكل السمك الجري، بل والشيعة، وكثير من السنة كذلك، لكن الاسباب تختلف، فيرى الشيعة أن الجري ملعون، خبط الماء حين كان الامام علي يتوضأ!؟ وذهب بعض غلاتهم بأن الجري سني!"، فعجبت لهذه الفتوى، ورأيت تشابها ظاهريا في عادات التقوى، بين الشيعية والسنية واليهودية. ولآن فقط فهمت لماذا كنا نرى بعض المسلمين من صيادي السمك الصغار، يحطون رأس الجرية بالحجار، ويلعنون آباءها وأجدادها، قائلين: هل مگرودة بنت الحرام.
أما نحن اليهود، فقد كنا نلقيها الى الكلاب، بدون سباب، بالرغم من أن شكلها منحوس، وشواربها أطول من ذيل الجاموس.
وحين علـّمت أخي ريمون، كيف يصطاد السمك بالشص، واصطدنا أول سمكة، طار عقلنا من الفرح، وصار يركض وهي تلبط، وتخبط، كي تتملص من الشص، واحنا نركض وراه، مكيفين على سمجة طولها سنتمترين ونص. وكم انحدرنا على أمواج دجلة الهوينا، أمام شارع أبو النويص، وغرّفنا بمجذاف زورقنا الذي صنعه لنا الوالد، المحاسب في شركة "أندرو وير"، ونحن نتطلع الى الگهاوي، وفيها لاعبو الدومنة والطاولي، ونسمع الزبون الأريحي ينادي "وير"، حين يدفع عن طيب خاطر عن كل الجالسين، أو نسمع لعلعة صوت عزاوي المبحوح، صاحب المقهى وهو ينادي: "عبد أسود جيب للأسطا عشرة جاي كسكين، باستكان عليه صورة الملك غازي و الملك فيصل وعلى راسهم التاج لابسين، وعمر إلنا كم نرجيلة تتنها أمخمر بالنورة زين".
وكانت آخر نظرة وداع أرسلتها إلى "بلمي" (زورقي) الأخضر المسكين، هي نظرة كسيره، ودعت فيها طفولتي وأحلام صباي، وهو ملقى حسيرا، خجلا على أرض المقهى، قرب تخت في المزاد العلني، الذي بيعت فيه أثاثنا بسعر أخو البلاش، أقيم بسرعة قرب تمثال السعدون، والاستقلاليون والقوميون بيهم يشتفون، قبل الهجرة، أو الطرد، أو تبادل السكان، كما كان العارفون بسياسة الأمور، على هواهم يقولون. وفي أيام العز، كان بلمي هذا يتهادى بنا "حدر حدر" بكبرياء وجلال، وفداء ليلى الليالي الخرد الغيد، ويا ترى! هل مثل ذلك الماضي يعود؟؟؟.
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/fereboaliraq/42118-2019-11-11-21-37-14.html
736 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع