مظاهرة جسر الشهداء -١٩٤٨
يوم أن حدثت المعاهدة المشؤومة (بورت سموث) عام 1948، والتي قضت بتسليم العراق إلى بريطانيا والتحكم في خيرات ومصير الشعب على الأصعدة السياسية والعسكرية والاجتماعية كافة وأن يبقى العراق لا يملك من أمره شيئاً.
كان الوضع المحلي والعربي يمر بمرحلة غليان، فبريطانيا تسعى لإعادة نفوذها في الشأن العراقي عبر هذه المعاهدة، ودولة بني صهيون تعلن على أنقاض الأبرياء والمستضعفين في أرض فلسطين المسلمة، والحكومات العربية كما عهدها الناس دوماً، لا خيراً تنفع ولا شراً تدفع، في تلك الأجواء التي صاحبت إعلان الموافقة على الاتفاقية عمَ الغضب أرجاء العراق، وقاد تلك الشعلة الجماهيرية المراقب العام للإخوان المسلمين الشيخ محمد محمود الصواف (رحمه الله)، إذ اصدر توجيهاً إلى أتباع الجماعة ان يقودوا المظاهرة من مدينة (الاعظمية)، تتقدمها عمائم كلية الشريعة ويعلوها الهتاف العتيد (الجهاد سبيلنا، الموت في سبيل الله أسمى أمانينا)،
وبعد أن وصلت المظاهرة إلى منطقة الكسرة تلاحمت الجموع من جميع مناطق الرصافة وسارت نحو القصر الملكي، ومع اقترابها من منزل الشيخ هاتفين له بالخروج، حيث حملته الأكتاف وسارت به نحو البلاط الملكي، ولم تزل حنجرة شاعر الدعوة وليد الاعظمي (رحمه الله)، تصدح في الجموع.
ولا ينفع الحق المجرد أهله إذا لم يكن يحميه جيشٌ ومدفعُ
وبعد أن وصل المتظاهرون ساحة القصر الملكي خرج رئيس الديوان الملكي د. عبد الله النقشبندي وهو نجل الشيخ مصطفى النقشبندي، وخاطب الحاضرين سيخرج لكم الوصي الآن، وسيعمل على تنفيذ مطالبكم.
وما هي إلا دقائق قليلة حتى أصبح الوصي مع الجموع وجهاً لوجه سائلاً إياهم ماذا تريدون؟؟
فأجابته الجموع: "نريد إسقاط المعاهدة، وتحرير بلادنا من الانكليز وغيرهم"، فقال الوصي: "لكم ما تريدون، واذهبوا إلى رئيس الوزراء وطالبوه بما طالبتموني به، وسآمره بذلك".
وسارت الجموع نحو مجلس الوزراء وهنا برزت مواقف أصحاب الدعوة في تأجيج روح الجهاد والتحدي حيث تسابق كل منهم لبث روح الحماسة، في نفوس المتظاهرين.
وصلت الجموع إلى مجلس الوزراء وفوجئوا بالأعداد الكبيرة للشرطة حول المجلس وعندما طالبوا (صالح جبر) بالخروج رفض ذلك، واصدر أمراً بضرب بشدة المتظاهرين لتفريقهم، عند ذلك قصدت الجموع الغاضبة جسر الملك غازي للانضمام إلى أهل الكرخ الذين منعوا من العبور إلى الضفة الأخرى.
في هذه الأثناء التف الشباب الملتزم حول الشيخ الصواف حفاظاً عليه من الضرب والاهانة، وأوصلوه إلى بيته بسلام، بينما كانت الشرطة تطلق النار من مئذنتي جامع (المرادية) و(الوزير)، على المتظاهرين الذين يقصدون الجسر الذي تحول اسمه بعد هذه الأحداث إلى (جسر الشهداء) حيث ارتفع في هذه الملحمة البطولية عددٌ من الشهداء، وأصيب بعضهم الآخر بجروح.
لم تنتهِ الإجراءات القمعية عند هذا الحد، بل اعتقلت الشرطة عدداً من شباب المظاهرة وفي مقدمتهم طلبة كلية الشريعة، وأُودعوا السجن، وهناك حدثت تجربة دعوية هي الأول من نوعها آنذاك.
فعندما أودع الشباب الملتزم في سجن (السراي)، وضعوا في زنزانة واحدة من المجرمين وأصحاب السوابق، ولما وجدوا طلبة العلم في حالة من الاخوة والتعاون والالتزام بشعائر الإسلام اقتربوا منهم وبدؤا يتعرفون على أحكام الدين، وبذل الشباب المسلم جهداً في اقناعهم بالإقلاع عن معاصيهم والانضمام إلى صلاة الجماعة، ولم يمضِ أسبوع على التوقيف في السجن حتى التحق العصاة بقافلة التائبين.
وفي تلك الأثناء اتصل الشيخ الصواف بمفتي العراق الشيخ امجد الزهاوي (رحمه الله) راجياً منه التدخل لإطلاق سراح الاخوة الموقوفين.
استجاب الشيخ للطلب واتصل بالوصي، وقام الأخير بالاتصال بمدير شرطة السراي واخبره بالموضوع، فأجابه المدير بأنه يريد أسماءهم لان الموقوفين كُثر، عندها قال الشيخ للوصي:
"أفندي أنا لا اعرف أسماءهم ولا عددهم انتم اسألوهم، من يعود لأمجد أطلقوه"، عندها جاء مدير السجن قائلاً:
"مَن منكم يعود للشيخ أمجد؟.
فصرخ الجميع طلاباً ومحكومين نحن نعود إليه"، فقال مدير السجن:
"اني اعرف ان فيكم متهمين بجرائم وسيحالون إلى المحاكم".
فقال له الشيخ إبراهيم المدرس ممثلاً عن الشباب:
"يا أخي لقد نصحناهم فهداهم الله سبحانه، وتعهدوا بعدم العودة إلى ضلالهم وتابوا توبةً نصوحاً وعاهدونا على المحافظة على الصلوات الخمس، وفعلاً حافظوا معنا على صلاة الجماعة ، وهل العقوبات الصادرة ضدهم في المحاكم إلا للردع والإصلاح؟.
فاقتنع وأطلق سراحهم ومزق أوراق التحقيق!.
*جسر الشهداء (1940) هو جسر يربط منطقتي الرصافة والكرخ في بغداد, شيد الجسر عام 1940 أطلق عليه قديماً جسر المأمون" أو "الجسر العتيق"، ثم سمي بجسر الشهداء بعد الانقلاب العسكري الذي أدى إلى قيام الجمهورية العراقية عام 1958 تخليداً للشهداء الذين أطلقت عليهم الشرطة في زمن الحكومة الملكية الرصاص وسقطوا من على هذا الجسر، واسقطت مظاهرات جسر الشهداء الحكومة العراقية في 1948 وتم تبديل الوزارة نتيجة لذلك الحادث. أسقطت الشرطة عدداً كبيراً من القتلى بعد أن نصبت الرشاشات والبنادق فوق البنايات والمساجد المطلة علي الجسر وخاصة جامع حنان و جامع الاصفية الواقعة في أكتاف الجسر واخذت تحصد المتظاهرين فوق الجسر، سقط خلالها عشرات الشهداء والجرحى . في جانب الرصافة يلتقي جسر الشهداء بشارع الرشيد المشهور في بغداد ليتفرع منه شارع المتنبي الذي يعتبر رئة بغداد الثقافية. ويربط الجسر الرصافة بسوق الشواكة وعلاوي الحلة، وشارع حيفا، وسوق الحدادين.(المعرفة)
الكاتب : غازي السامرائي
759 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع