يهود العراق، ذكريات وشجون (٤٠) البحث عن زمن الصبا الضائع
لـَيْـتـَنِي أعُودُ إلى العِـرَاقِ يَوْمًا، فَأُحَدّثـُهُ بـِمَا فـَعـَلَ الفِرَاق
جلست ساهما أمام الحاسوب، منتظرا الفرج من كاشف الضُّرّ ِعن المشتاقين إلى مفاوضات السلام لإنهاء هذا الصراع المدمر الذي لا تحله سوى حسن النية بين الجانبين وعقد اتفاقيات سلام شاملة، فتسمح باقي الحكومات العربية، أسوة بمصر والأردن والمغرب، بالسفر لمن يريد زيارة مسقط رأسه في البلاد العربية، وكنت أردد بيني وبين نفسي: لـَيْـتـَنِي أعُودُ إلى العِـرَاقِ يَوْمًا، فَأُحَدّثـُهُ بـِمَا فـَعـَلَ الفِرَاق! وكأن هذه الجملة أصبحت في التوّ واللحظة مصباح علاء الدين، بلمسته السحرية، التي تحقق المستحيل بخروج عملاق في سحابة من دخان وصوت يقول بأدب: لبيك، لبيك! وأنا عبدك بين إيديك! هذا العملاق العبد الذي يقوم بكل عمل تطلبه منه بسرعة وعلى خير وجه، حلم به العرب في قصص ألف ليلة، ثم استعبدته أوروبا وجعلته تيارا كهربائيا يقوم بكل ما يرده الإنسان الحديث بكبسة زِرّ صغير.
وما إن نطقت بهذه الجملة للمرة الثالثة حتى رجعتْ عجلةُ الزمن بي فجأة إلى الوراء بقدرة قادر، ووجدت نفسي في بغداد، بلد المحبوب، وكنت أظنها أمنية مستحيلة التحقيق. نعم وجدت نفسي أمام الشارع المشجر المؤدي من باب الشرقي إلى الكرادة الشرقية، أي كرادة الداخل حيث تبدأ بمحلة الرخيتة وتستمر إلى الزُوِيّة وأبو قلام، وسمعت "سَـكِـن باصات أم العانة" يعلن بأعلى صوته عن وجهته: "عل الجوه، عل الجوه" والآخر ينادي: "عل بره، عل بره" أي كرادة الخارج، حيث تبدأ من ساحة التحريات وتستمر حتى الجادرية حيث أقيم جسر على اسمها، كما تشمل عرصات الهندية ومنطقة السدة.
وعجبت كيف تغيرت هذه المناطق، وعندما سألت "وين باصات أم العانة"، أجابني أبو جراوية، "عمّي، بلدة عانه هاي بالشمال لازم تروح للمحطة الرئيسية". قلت له "لا، أريد أكول هاي الباصات الصغار أم الأربع فلوس، يعني أم العانة"، ضحك وقال:
أمبيّن انته من أيام العسمللي؟ لو من أيام جدي المرحوم اللي جان يحجيلنا على باصات أم العانة والعرباين الجان إيجلـّب بيها من وره ومرات لما ابن حرام ايگول: عربنجي وراك!" چان ياكلها قامجيات اتورم.
وين أكو "عانه" اليوم؟ فقلت لعاد اتغيرت النقود العراقية، على ما كانت عليه أيام الملكية؟ فقال:
شنو أنت نايم بالشمس،ما تعرف شلون عبد الكريم قاسم أبو الفقرا، وحكام البعث وصدّامه القومجية، غيروا الفلوس والدنيا؟." ثم تذكرت أن حكام العراق بعد الملكية بدلوا رموز العراق منذ الحكم الملكي، حتى العلم العراقي الذي اشتقت ألوانه من أبيات صفي الدين الحلي الحماسية عن "خضر مرابعنا وحمر وقائعنا"، غيروها، فأصبحت مرابعنا الخضر قاعا صفصفا تموت فيه النخيل الشمّ واقفة تحتضر، تلعن وتشتم من قتلها عطشا، وبقيت "وقائعنا الحمر"، حروب سوده ويا العجم مال إيران وعرب الكويت، يعني حرشه مال أبو جاسم لر، لو مال ابن عبدك. ولاحظت أن الجيل الجديد لا يعتمر السيدارة التي كنا نفتخر بها متفننين في وضعها مائلة، وتغنى بها ملا عبود الكرخي بقوله:
"يا حلو يا ابو السيدارة أمتيّمك سويله جارة"،
وكان نوري السعيد لا يفارقها حاملا إيّاها بيده مخفيا مسدسه فيها. أما كبار السن فهم بين معتمر عمامة سوداء أو خضراء، للخاصة، والجراوية والعكال واليشماغ، للعامة والشعفة (دون غطاء رأس) للشباب، والجميع "يتمندل" بالتلفون "الجوال"، أو "المحمول". وتذكرت معنى كلمة "السّكِن"، التي كانت في أيامنا تعني مساعد السائق، وهي كلمة إنكليزية دخيلة على اللغة العربية العراقية، مثل كلمة بُطُل عرك، وكلاس ماي واستكان جاي، وفص كلاس والريسز وكل مصطلحات البنوك والسباق وكرة القدم وغيرها من الألعاب الإنكليزية، التي حلت محل الزيورخانة الفارسية، كانت سائدة في عصرنا أيام الملكية، وذلك نتيجة للاستعمار البريطاني الذي أعطانا قشور الحضارة الحديثة وما زال لا يهنأ له بال إلا إذا شمّ نفط العراق.
ولو لم يقيض الله وزير المالية الحصيف السير ساسون حسقيل الذي اشترك مع جعفر العسكري في مؤتمر القاهرة برئاسة تشرشل (1921) لتنصيب الأمير فيصل ملكا على العراق،
ويصر على أن يدفع الانكليز الثمن بالباون الذهب الرنان الذي يحبه اليهود ولا يفرطون به ولو على حساب الحكومة، "للَط " (إلتهم بسرعة) الانكليز نفط العراق من زمان، ورموا للعراقيين ببضعة دراهم ليسكتوا على "بزرتهم" (صفقتهم) الرابحة التي كفّ شرها ابن حسقيل اليهودي السموألي.
وكلمة "السّكِن" هذه هي أخت مصطلح "الريسز" الذي كان العربنجية في تلك الأيام السعيدة الخوالي يظنونه من المصطلحات العربية العريقة العدنانية منذ حرب داحس والغبراء، وهي الحرب الطاحنة المشهورة التي سببها الحصان داحس في أيام العرب المحجلة. فعندما زار أستاذ مصري العراق في الأربعينيات وقال للعربنجي:
"سُوءْ (= سوق) للسباق"، قال العربنجي بثقة العارف بكل شوارع العراق ومنتزهاتها: "عمي، ما كو بالعراق كلها شارع أو محلة اسمها السباق"، فاستدرك المصري قائلا:
"يعني ده المكان الذي بتسموه أنتو يا العراقية برضو "الريسز".
فقال العربنجي: أي عمي هسه فتهمنا، ليش ما تحجي بالعربي من الأول وتكول ريسز! ليش وين أكو بالعربي كلمة سباق بالعراق؟".
وكلمة "السّكِن" بالعربي العراقي الفصيح، تعني مساعد سائق "الميني باص" البغدادي اللي ما زال يذكره يهود "هضبة بغداد" في إسرائيل بأنه سيارة نقل الركاب التي انطلقت منها إشارة بدأ الفرهود عام 1941، وذلك عندما أوقف نازيي سكان محلة باب الشيخ باصات أم العانة وانزلوا منها الركاب اليهود عنوة وقاموا بذبحهم على قارعة الطريق كالنعاج بدعوى إنهم موالين للإنكليز، في حين أن الانكليز تركوهم لقمة سائغة بيد القتلة "لينشغل بهم" أولائك الموالون للنازية عن مهاجمة السفارة البريطانية في الكرخ والتي اختبأ فيها السفير الانكليزي كورنواليس المخلص للملك فيصل الأول وللعائلة المالكة، ولكي لا يظهر أمام الشعب العراقي بأن عبد الإله ونوري السعيد دخلا بغداد تحت حماية حراب الإنكليز، فأمر الجيش بأن يعسكر خارج بغداد ولا يتدخل لإنقاذ اليهود من الفرهود. وكان من أوائل ضحايا هذه المذبحة في باب الشيخ المرحومان والد الدكتور نسيم قزاز وخال الصحفي سليم فتال.
كانت مهمة "السّكِن" جمع "العانة" من الركاب، وهو اسم العملة العراقية المتداولة آنذاك والمأخوذ من أسماء النقد الهندي، وهي قطعة نقدية مسننة تساوي 4 فلوس كانت أجرة السفر من شارع غازي إلى العلوية، ومنها تفترق الطرق باتجاه الكرادة إلى "عل الجوه" أو "عل البره" قبل وصولك إلى الكرادة. والنكتة المشهورة التي لا يزال العراقيون يرونها إلى اليوم في مدينة "هضبة بغداد" في إسرائيل هي أن في أحد الأيام توانى "السِّكِن" بسبب خلو الشارع من أشخاص على جانبيه، عن المناداة على اتجاه الباص في عزّ شهر آب اللهاب الذي يحرق المسمار بالباب. فنهره السائق قائلا: "ولك اشو سكتت؟ ليش ما تصيح على الجوّه!" فأجابه السّكِن: "عمي ليش أصيح؟ متباوع، ماكو أحد بالشارع!." فقال له السائق:
"يعني ولو ماكو أحد، بس على الأقل أخبصني!."
وأما أختي أسبرونس فقد كان لها تجربة قاسية مريرة مع مثل هذا "السَّكِن". فعندما سافرت الوالدة للتصييف في عاليه وبيروت وأخذت معها زوجة أحدى جارات والدتها التي تعتمد عليها، ذهبت أختي إلى دار جدتنا ربقة - خاتون قرب سوق حنون، حيث كانت تجلس قرب باب الدار بهيأتها المهيبة وبسمتها الطيبة، وتنفح الفقيرات خفية، العانات والقرانات (20 فلسا) والدراهم، كل واحدة حسب خيبتها في الحياة، فيقبلون يدها ويذهبون "على باب الله".
بيروت أيام زمان
طلبت أسبرونس من جدتي أن تملي عليها وصفات الطبخات العراقية التي اشتاق إليها الوالد. طبخات مثل الانكريي والتبيت والصالونة وإعداد البيض على التبيت ليوم السبت مع الخضرة والرشاد والطماطة والبطاطا والعنبة والباذنجان المقلي واللوبيا والباقلاء المسلوقة، التي تحبها فخاتي الحلة، فقد اشتاق إليها الوالد بعد سفر الوالدة إلى لبنان.
وعندما عادت أختي إلى البتاويين وقد سجلت محتويات الوصفات اللذيذة في دفتر، استقلت باص أبو العانة وقالت "للسكن" بعد أن سلمته أجرة السفر، نزلني بالبتاويين عند قصر بيت بخاش، قال لها، على عيني وعلى راسي، يا حلوة. فلما اقترب الباص من باب الشرقي وكان قد خلا من ركابه في عزّ الظهيرة في شهر آب عندما يبدأ الزفت في شوارع بغداد يسيل تحت حرارة الشمس اللافحة وتعلوه الفقاعات السوداء من الزفت كعيون سعلوة جاحظة، والتي يعزف صوت إنفجاراتها نغمات كعزيف الجن السود في "نزيز" سراديب بغداد المعتمة.
وعندما شاهد "السكن" أن الجادة خالية من الركاب، أخذ يقترب من أسبرونس الجميلة الغشيمة ويحاول مد يده إليها لاحتضانها، ثم سألها بوقاحة مذهلة: "گوليلي يا حلوة، شلون لون لباسچ؟"، والسائق يضحك مبتهجا من هذه الرقاعة. أصيبت أسبرونس بالهلع وصارت تصرخ به "ولك نزلني من الباص هسه بالعجل لو أذب نفسي للشارع"، وفتحت باب السيارة وهي تتضرع وتبكي وتصرخ وتطلب من السائق "يالله، اضرب ابريك ونزلني" وهمت بأن ترمي بنفسها إلى الشارع بزفته الملتهب كنار جهنم.
وفجأة وقفت السيارة بصرير مزعج بعد "لفـّة" سينما غازي وانتهزت اسبرونس الفرصة وفرت من السيارة ولم تبال ِ بأشعة الصيف الشديدة المحرقة التي كادت أن تصيبها بضربة شمس، وأخذت تعدو حتى بلغت الدار وارتمت على أول مقعد فيه ثم أغمى عليها.
ولما عادت الوالدة من تصييفها في زحلة وزيارتها لبيروت محملة بالهدايا الثمينة التي اشترتها من باريس الشرق المرحومة، كان بين الهدايا بدلة بحرية لريموند شبيهة ببدلات رجال البحرية الفرنسيين، فشعرتُ بالظلم والتمييز بين الأبناء، فأنا أولى بهذه الهدية لأن أمي أسمتني على اسم والدها، وكانت عند رضاها عني تقول لي بحنان "وي أبدالو الابويي" أو "وي ابدالك انت تحبني كيف أنتَ على أسم أبويي". أما عندما تزعل عليّ، فقد كنت تعتبرني محسوبا على الوالد، لأنه فرح بولادتي بعد ابنتين وأنقذتُه أنا من كنية أبو البنات وما تجره من النحوس والفقر على العائلات اليهودية، وصار ريموند يتبختر ببدلته البحرية أيام السبت والأعياد، فلبسها ذات يوم في مدرسة السعدون، فتوسخت ثم ضاقت عليه بسرعة وتنوسي أمرها. ولكن الوالد عوضني بدلها بشراء عجلات تزلج، هامسا إنها أمريكية الصنع وليست يابانية، فيهود العراق انقطعوا عن شراء البضائع الألمانية بعد أن سمعوا بالمحرقة، وقاطعوا البضائع الإنكليزية بسبب الفرهود وغدر الانكليز بهم، وهمس في أذني ليخفف عني خيبة أملي ويترضّاني: "هايي السكيتنج مال غجيل (الرجال) المردان، ما مثل البدلة البحريي مال الزنانة" (عجلات التزلج هذه للرجال وليست مثل البدلة البحرية الصالحة للنساء).
بقيت سارحا في أحلام اليقظة والأحلام، مثل الحديث، لها شجون. كانت لسفرة الوالدة مع زوجة جار الجدة للتصييف في لبنان قصص وحكايات، روتها الوالدة عن هذه الزوجة السليطة اللسان التي يتعوذ الشيطان منها عند رؤيتها وسماع هذرها، والتي عانت منها صاحبة الفندق اللبنانية حين هددتها بكشف سر علاقتها الغرامية برجل غريب عن عائلتها إذا أصرت على رفع أجرة الفندق بسبب الإقبال الشديد على الغرف في ذلك الصيف. وكان زوجها موشي هذا قد ذاق الأمرين منها ويتذكر بلوعة مرارة الخدعة التي خدعه أهلها ليلة الدخلة، حين حذوا حذو لابان مع صهره يعقوب أبي الأسباط، عندما طلب يد راحيل الجميلة فخدعه لابان بإبدالها بابنته "البايرة" ليئا. فقد طلب موشي جار جدتي يد الأخت الجميلة، وزارها للمعاينة المعروفة عند يهود العراق مع العائلة، فمدت أخته يدها كأنها تتفحص "الكردانة" لتتحسس ثدييها، فوجدتها كاعبا، فأخبرت الخِطّيب بالنبأ السار، فطار عقله فرحا، وأعلن عن موافقته وخطبها، فلما دخل عليها ليلة الدخلة في العتمة وقد سقوه العرق الزحلاوي وسطلوه، ولم يعد يميز بين القرد والفهد، استلقى على فراشه منهوك القوى واستغرق في سبات عميق.
وفي الصباح، عندما سكتت شهرزاد عن الكلام المباح، وجد العريس المسطول أن العروس الراقدة في فراشه قبيحة مسحاء، وليست تلك الفتاة الكاعب التي ذهب لمعاينتها، وقفز من فراشه، وقد طارت النشعة من رأسه، وأدرك أنه كان سكران، وأنهم أبدلوا الفتاة الجميلة التي كان بها ولهان، بأختها القبيحة، ويا للطامة الكبرى والفضيحة، وصار يصرخ: "هايي ما البنيتي العينتوها بالمعاينة عندكم" (هذه ليست الفتاة التي رأيتها وخطبتها عندكم"، وهمّ بمغادر دار الزوجية. فقالوا له: "يابا وين رايح، تعال جاي، بعد ما أدْخلتْ عليها وتونست بيها، وأخذت وجهها؟ ماكو هيكذ شين!"، ولما هم بمغادرة الدار، وقعوا على يده يقبلونها طالبين أن يستر عليهم وعلى ابنتهم. لقد دخل عليها وهي عروسه وأصبحت زوجته، "وما كو چاره بعد". فمن سيتزوجها بعد ذلك؟ وهل يقبل ضميره أن تبقى مطلقة طول عمرها، وأي عار سيلحقه بالعائلة. ثم ترضوه وزادوا في مهرها، "وأكلها أكلة سودا".
وروت الوالدة أن موشي هذا، انتقم لنفسه بعد سنين بأن قام بنفس الخدعة مع قريب للعائلة الغادرة، فلما سأله العريس: "ولك ليش سِوّيت بيي هيكذ دقة؟ حْلالْ عليك، ألله يقبلا؟" أجابه موشي متشفيا: "حيل بيكم! ليش بس أنا أكلا؟".
وفي حلم يقظتي ذي الشجون، دخلت دارنا وسمعت صدى أصوات ضحكنا ولعبنا، ستة أطفال نعيش هناك في سبع غرف، أما نحن الصغار فقد كنا ثلاثة أولاد يتلهفون إلى اللعب خارج الدار لكي لا يفسدوا على الأخ البكر العبقري دروسه باللغات العربية والفرنسية والانكليزية والعبرية وفي العلوم الرياضية التي تفوق فيها، هذه الدار التي أحن إليها العمر كله، كانت في نفس الشارع الذي يقع فيه قصر بيت صديقي سامي بخاش،
وعلى نفس الجهة التي يقع فيها بيت المرحوم أمير اللواء الطيار منير عباس حلمي وأمام قصر بيت مهدي طعيمة والذي كان ابنهم الأصغر إذا طلب شيئا من والدته يقول لإغاظة بيت منشي ويعقوب ونوري حاي: "يُومْ! خَرَب دين اليهود، آني جوعان أرْد آكل، يالله بالعجل"، وكان لا ينطق بجملة مفيدة مع والدته وأخوته دون أن يكفر بدين اليهود وتوراتهم، احتسابا، كما كان يفعل الشباب النازي الحقود، الذي كان يكتب الشعارات والاهانات على الجدران أيام رشيد عالي الكيلاني، وفي كل مكان. وأمام سور حديقة بيت سامي بخاش الغناء كانت تقع سلسلة بيوت متشابهة على الطراز القديم، ومنها دار صديقنا فودي (فؤاد) شماش الذي كان والده نائبا لمدير دائرة البرق والبريد في بغداد،
والذي كان يفتخر بأنهم أول من اشترى ثلاجة كهربائية في المحلة بدلا من صندوق الثلج القديم، ونكاية بنا نحن الذين كـُنـّا أول من اشترى راديو "إيكو" والذي خاطت له والدتي غطاء من قماش أبيض مطرز تقيه عواصف العراق الرملية.
وكانت هذه الدور تحتوي على "حوش" في وسط الدار مع نيم أو سرداب، وفي الطابق الثاني غرف النوم. وذات يوم أطلت أحدى كنـّات دار "بيت أبو التخته تيرة" (الخردفروش) (الواقع بين بيت فودي وبين بيت أم دفيد، الذي أصبح شرطيا في هضبة بغداد بعد الهجرة)، من على الحاجز في الطابق الثاني لترى من الطارق، فسقطت على رأسها إلى الحوش وتوفيت على الأثر، فجاءت الشرطة تحقق، وقالت نسوة الحيّ متعاطفات مع العائلة المنكوبة:
"هم موت وهم أحسيب!". وأكد المتمسكون بتقاليد الديانة اليهودية على أن موتها الغريب، جاء عقوبة من المولى عزّ وجلّ، على تدخين أحد أفراد العائلة السيجارة يوم السبت المقدس عند اليهود. ثم ظهر فجأة في هذه البيوت، قبل هجرتنا، وفي عزّ هروب الشباب اليهودي بالمئات عن طريق إيران وكردستان إلى فلسطين، وسكن فيها جيران جدد لعلهم من سكان أبو شبل أو الفضل سابقا، فصدمتهم جرأة يهود البتاويين. وحين امسك بائع البيض حسقيل اليهودي بابن احدهم وقد سرق بيضتين منه، اقبل والده غاضبا وصار يصفع حسقيل أبو البيض، ويقول له وهو يواصل الصفع: "أبن الگحبة يهودي، شلون تتجاسر تگول ابني بوّاگ؟ گواويد أيهود، طلعت عينكم من صار الكم دولة! والله لا أخلي الچلاب اتنيـ... ـم".
أما بيتنا فيقع في هذا الشارع الذي يمتد من سوق البتاويين أمام كنيس مير طويق مارا بقصر بيت طعيمة وبيت نسيم كوهين وأمامه بيت عقيد الركن، مارا ببيت منشي حاي ودار عائلة بلبول ثم دارنا، ثم دار أم الياهو "الحِيوَان" الذي لم يستطع الحصول على شهادة البكلوريا الحكومية، ثم يأتي بيت مديرة مدرسة السعدون الست مارثا (التي كانت أمها إذا رمينا دجاجة ميّتة في البستان أمام دارنا، تسأل متى ماتت؟ ,ذا قلنا لها، في التوّ واللحظة، كانت تأخذها معها إلى دارها)، وبيت شابي ثم بيت المعلمة ست راشيل وزوجها يوسف دهان مدير مدرسة التعاون وابنهم حوكي الذي سجن بتهمة الشيوعية، ثم بيت شعيا الكبير الذي كان يمتد على شارعين، بقفص طيوره من نوع أبو أخشيم والذي يقع محاذيا لحديقة بيت سامي بخاش الغناء. وكانت دارنا هي الدار الوحيدة في جهة اليمين المكونة من طابقين، أشرف الوالد على بناء الطابق الثاني بنفسه في صيف ما بعد الفرهود بعد أن أرسل الوالدة مع أسبرونس كبرى الأختين وبحراسة الأخوين جاكوب البكر ومراد وهما المفضلان عندها، فأولهما بكرها الذي رفع رأسها عند ولادته أمام عائلة الوالد المتربصة بالمدامة مدرسة "الفرينسماوي"، وسنحت لهم الفرصة عندما ولدت أمي بنتين بصورة متتالية، وصار عزرا ابن عمتي هيلة يعيّرها بجلوسه قرب غرفتها وهي نفساء ويغني تشفيا ومفتخرا بأمه التي ولدت ولدين في نفس الوقت ويغني: "أمي جابت زوج ابنين وزوج ابنين"، لإغاظتها. أما أصغرنا "غسال البطون" المدلل، فقد ورث ألوان عائلة أمي، "الزرق العيون والشعر الكلبدون"، و"طيلع بيضاني ونزوكي وشعغو اصفر، على إخويي صالح صيون وابويي المرحوم شاؤول عينه جي من بيت أبو الجام". هؤلاء الذين كانت أمي تفضلهم على النصف الآخر سافروا معها إلى شقلاوة في شمال العراق للتصييف، وبقي في البتاويين النصف المغضوب عليه، كلادس وريموند وكاتب هذه السطور،
ضجرين في الدار في الحرّ الشديد من الغبار وضجيج "العمالة" وصياحهم: "ناوش الطابوك، واجبل الجص زين، وجيب الكرسته، ودير بالك من الشيلمان"، فيرد صغار العمالة: "إبشر يا أسطه!"، ووقع عبء الطبخ على كلادس والخادمة، فيشيط الطبخ أحيانا.
وفي ذات يوم عثرتُ على مسودة رسالة الوالد إلى الوالدة وفككت حروفها مع كلادس وفيها يقول: "شيغي سنيوره" (عزيزتي سنيوره [وهو اسم الوالدة، مقتبسا من اسم "دونا سنيوره" من كُبريات النساء اليهوديات اللواتي طردن مع اليهود والمسلمين من الأندلس واستقبلهم السلطان با يزيد العثماني في بلاطه معززين مكرمين])، كتب الوالد: "ترى سامي كثير امضوجني" (إن سامي يزعجني كثيرا)، إذ لم يجد الوالد من بين الأهل من يرضى بأخذي للتصييف عندهم بعد الخزعبلات مع الجيران المسلمين في حارات بغداد التي تقطنها الأغلبية المسلمة.
ولما عادت الوالدة من عطلتها الصيفية بأحمال فواكه شقلاوة عراق الخير والبركة، من العرموط والخوخ والعنجاص والتفاح والجوز واللوز ونكر البلبول والطين خاوة والعلج الأسود (القير) من حمام العليل، وليف الحمّام للغسيل والحجارة السوداء المخرمة لحك الأقدام وغير ذلك من تحف أكراد شقلاوة، وهم يروون الذكريات عن صيد البلابل وينادي احدهم الآخر بكلمات كُرديّة مثل "وَِرَ أيرا"، و "چوني" (تعال هنا، وكيف حالك؟) والجملة المهذبة التي قالها صاحب البستان الكردي الذي نزلوا فيه. فحينما طالب الوالدة بدفع أجرة الأسبوع الماضي، قالت له وهي تراجع ما كتبته: لقد دفعت لك في اليوم الفلاني في الساعة الفلانية قرب باب دارك بحضرة ابنك، فيجيبها بأدب: "والله يا خانم، يمكن تمام، بس أكر فكر ما كو!". فتمضي الوالدة مذكرة إياه بالمكان ونوع النقود وغير ذلك ليستعيد ذاكرته، وهو يكرر عبارته المهذبة عن "الأكر فكر ما كو"، حتى أعلنت زوجته أخيرا بأنه أعطاها النقود لنفقاتها ونسي ذلك، ولكن جملة "أكر فكر ماكو"، كانت قد أصبحت جزءا من تراث العائلة وأدرجت في قاموس أخي ذي الذاكرة العجيبة، يرددها في كل جملة مفيدة يقولها للمزاح أو لكيد الآخرين.
المرحومة والدة المرحوم البرفيسور سامي
وعندما أخبرت الوالدة عن حنيني إليها وكيف كنت أذرف الدموع شوقا إليها وأرسل إليها القبلات في الهواء "وأقول للهوا، يا هوا، وديها البوسة عند مومو (ماما)"، دمعت عينا والدتي واحتضنتني وهي تقبلني، فقد كانت عاطفية تتماهى مع أحزان الآخرين وتغضب للظلم الواقع عليهم، تحب صفاء النية وطيبة القلب وكم ذرفت الدموع أيام عاشوراء عندما كانت تطل من شناشيل دار والدتها على مواكب الحزن والأسى. سمع أخي ما قلته همسا للوالدة، فانطلق يرددها جذلا ساخرا من عواطفي وحنيني إليها، فقد رأى في هذه الجملة ميوعة عاطفية تتنافى مع فحولة نكاته الساديّة المتندرة على أفراد العائلة والأصدقاء، سادية تتميز بالحساسية المفرطة والغضب من كل نقد بنـّاء وتطرب للتملق وتهش له. تماما مثل فحولة بطولات الحكام الجائرين المدمرة لشعوبهم، الخالية من العاطفة والرحمة، فتنقلب عليهم تدميرا ذاتيا. وقد أضاف أخي العبقري "جملة أبوس الهوا" إلى قاموس نكده ونكاته الساخرة من "شاعريتي الفطيرة الفجة."
بقيت غارقا في بحران الأشواق إلى العراق، فإذا ببطاقة تقفز أمامي على شاشة الحاسوب تنبئوني بأن رسالة من الأديب مازن تنتظرني، كانت قفزة جعلتني أستيقظ من سرحة الذكريات إلى عالم الفراق والحنين المريرين نحو العراق، فإذا بالأستاذ مازن يدرك خيبة أملي ويأسي من حصولي على صورة لدارنا لتسلي شيخوختي، فيرسل إليّ أغنية عراقية غايتها التخفف من لوعة نار شوق المشردين خارج العراق، فإذا بها تصب الزيت على النار وتزيدها لهيبا، فقد جاءت الأغنية على جرح القلب، فكتمت ألم سهمها بعد أن تحطم نصله على النصال في قلبي الكليم المشتاق إلى زيارة العراق. تقول رسالة الأديب مازن: "مساء الخير أستاذي الفاضل.. استمعُ الآنَ إلى أغنية كتب كلماتها صديقي الشاعر عبد الكريم هداد، ولا أعرف كيف خطرت على بالي، فكتاباتك كأنها في قلبي وروحي، تقول الأغنية:
أحسدْ طيـورالعصر رِجْعَتْ وأنا ظليتْ شتاقيتْ أشوفنْ هَلِي أبوس باب البـيت عل العتبة أنثر ورد فرحان يَمْهم جيـت أفرش سـنين العمر بوسات أنا تمنـيـت حبيت اشوفج عصر يُـمّه اشـكـدْ حنّـيـت لـيـل الـمنافي ثـلـج أرجف عشق ظليت شتاكيت أشوفن هَلِي وأكعُـدْ أبـاب البـيت ومن شوقي ليل انهار أبـوس بـاب البـيت.
وإذا بعروس الشعر تضيف دون وعي مني البيتين التاليين فتكتب:
"ومن شمِّيت ريحة هَلِي وَلْـهـان أنـا تَـمّـِيـت
أ ظـل عــمـري أَوِن أبجي على باب البيت "
أفقت من سرحة إلهامي وعجبت كيف لم أقبّل الباب والبيت، فوجدت عروس شعري دامعة العينين حزينة، سألتها بلهفة:
"هل يا تـُرَى من العراق سوف أحْظـَى
بلفتة ِ العطفِ عليَّا
أم يا تـُرَى بغداد تبقى،
حَسْرَة ًً،
حَشْرَجَة َ المَوْتِ لـدَيَّـا ؟"
ردت عروس الشعر باكية منتحبة: حاشاك يا عيني، وبعيد البلا، يا بعد هلي وطوايفي. بغداد ما تنسى اللي يحبها!
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/fereboaliraq/46080-2020-09-19-09-23-03.html
1051 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع