الصراع بين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف بعد انقلاب ١٤تموز ١٩٥٨

                                                

                             قاسم محمد داود

   

الصراع بين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف بعد انقلاب ١٤تموز ١٩٥٨

لقد كان نجاح الانقلاب العسكري الذي أطاح بنهاية الأمر بالملكية ودشن عهداً جديداً في تاريخ العراق في 14 تموز 1958، مرده إلى الحظ والجرأة أكثر مما يعزى إلى تخطيط طويل أو تنظيم واسع، بالإضافة إلى مجموعة غريبة من الصدف حدثت جميعها في وقت واحد أدت إلى نجاحه بشكل يصعب تصديقه أثارت هذه الصدف علامات استفهام وتساؤلات كثيرة قد يكشف المستقبل حقيقتها. كان الضباط الذين نفذوا الانقلاب متأثرين بالانقلاب الذي قام به (الضباط الأحرار) في مصر في 23 تموز 1952 بقيادة جمال عبد الناصر والشعارات التي تبثها إذاعة القاهرة. وكان اهتمامهم الإطاحة بالنظام القائم أكبر من اهتمامهم بالتفكير بالنظام الذي سيحل محله، ونتيجة للخلافات الداخلية والغيرة بين الضباط الأحرار (الاسم الذي أطلق على المجموعة التي كانت مشاركة في الحركة)، "فإن العمل العسكري عند حدوثه، كان نتاج رجال قلائل ولم يكن جهداً منظماً تقوم به جماعة عسكرية متماسكة لها أفكار سياسية واضحة" وهنا كانت تكمن معظم مشكلات النظام الجديد ومنها ما حدث من خلافات وصراع دامي فيما بعد داخل مجموعة الضباط التي قامت بالانقلاب، فسرعان ما بدأت الخلافات تطفو بين الثنائي الزعيم (العميد) عبد الكريم قاسم والعقيد عبد السلام محمد عارف، بعد مرور خمسة أيام على نجاح الانقلاب الذي وضع البلاد في أيديهما من أجل الانفراد بالسلطة، وقضايا سياسية أهمها قضية رئيسة هي قضية الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة (الاسم الرسمي للكيان السياسي المتشكل إثر الوحدة بين جمهوريتي مصر وسوريا في 22 شباط 1958) فعارف وبتشجيع من البعثيين والقوميين العرب، فضل الوحدة الفورية، فيما كان قاسم أكثر حذراً في تعامله مع الموضوع، وسرعان ما أدت خلافتهما السياسية إلى صراع على قيادة البلاد، وعلى الرغم من حقيقة أن الانقلاب كان جهداً مشتركاً معمولاً باسم قاسم لكونه الأعلى رتبة عسكرية، سرعان ما بدأ عارف نفسه في دائرة الأضواء لاسيما وأنه هو من دخل بغداد صباح يوم 14 تموز واحتل محطة الإذاعة واتخذها مقراً له، وألقى البيان الأول للانقلاب من الإذاعة، بالنيابة عن القائد العام للقوات المسلحة (الذي لم يُذكر أسمه) وأعلن قيام الجمهورية، وأعلن عن تشكيل مجلس سيادة مؤقت يضم ثلاثة أعضاء لتولي واجبات الرئاسة، قبل ان يصل قاسم إلى بغداد ظهر ذلك اليوم مع قواته " والأمر المهم، أنه أتخذ من وزارة الدفاع مقراً له، وقد أعطى وصوله المتأخر ذريعة للشكوك بأنه كان ينتظر التأكد من النجاح قبل تقدمه، وأياً كان السبب، فأن عارف، وليس قاسم هو الذي قام بالانقلاب". والملاحظ على البيان الأول اقتضابه وغموضه، فلم يوضح كيفية تأليف الحكومة، ولا مدة فترة الانتقال، ولا الموقف من الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة، ولا تأليف مجلس قيادة الثورة الذي كان الضباط الأحرار قد اتفقوا على تشكيله بعد نجاح الانقلاب، ولا الموقف من حلف بغداد، ولا سياسة الحكومة تجاه الأقطاع. وقد ظل البيان مصدر السلطات، وقوته تفوق قوة الدستور المؤقت الذي صدر في 27 تموز. وكان عبد الكريم قاسم يلجأ اليه كلما تعقد عليه حل أي مشكلة. ويظهر ذلك واضحاً في قول قاسم نفسه: " لقد سطرنا اهدافنا في البيان الأول للثورة، فهو أقدم بيان عُرف منذ تأسيس الجمهورية العراقية، وهو الأساس الذي يعتمد عليه، والذي نعمل بموجبه، وهو الوحي الذي نستمد منه الحرية والقوة". ولم يمض الوقت طويلاً قبل أن يستفيد عارف من هذا الأمر استفادة كاملة. " ففي جولة دعائية واسعة في الألوية العراقية (التسمية الحالية المحافظات)، ألقى خطب غير مدروسة أيدت بقوة الاتحاد مع الجمهورية العربية المتحدة، وأشار مراراً إلى جمال عبد الناصر، في حين نادراً ما كان يذكر قاسم" الأمر الذي أثار غضب قاسم الذي أستغل انشغال شريكه في هذه الجولة وبدأ بسحب البساط من تحت قدميه، وذلك بسلسلة من المناورات الصبورة خلف الكواليس ضمنت نجاحه في صراع السلطة الناشئ، كما أن ردة فعله إزاء تحدي عارف كان الدليل الأول للأسلوب السياسي الذي وسم نظامه، فقد تجاهل نزعة عارف لألقاء الخطب التي لم تجد قبولاً من الشعب، وفي الوقت نفسه بدأ بتشجيع الدعم لنفسه بين الضباط، كما وجد معارضين للوحدة بين الشيوعيين، بعد ان أستطاع قادتهم أن يشقوا طريقهم إلى قاسم وكانوا يخشون الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة لذلك نظموا تظاهرات دعماً له، وضد الوحدة الفورية وجمال عبد الناصر، وكان قاسم يرحب بهذه المظاهرات المعارضة للوحدة من شرفة وزارة الدفاع. وفي مقال لـ (محمد حسنين هيكل) رئيس تحرير جريدة الأهرام أن السفير البريطاني " حذر قاسماً خمس مرات متتالية من دسائس ومؤامرات عارف المزعومة"(الأهرام 27 كانون الثاني 1958). وذكر المعلقون الأجانب أن "المراقبين السياسيين يتوقعون انقلاباً جديداً من داخل الانقلاب العراقي يصل به عارف إلى السلطة بعين الأسلوب الذي وصل (جمال عبد الناصر) إليها عن طريق أزاحه (محمد نجيب)". يظهر أن قاسم ركض وراء هذا الطعم. وفي العاشر من أيلول كان عارف يلقي خطاباً بمناسبة زيارة مقر الجيش في بعقوبة حيا فيه مستمعيه من المدنيين باسم " مجلس قيادة الثورة" الذي لم يولد بعد، وفي حالة تشكيل هذا المجلس يعني الحد من سلطات قاسم الذي كان رئيساً للوزراء والقائد العام للقوات المسلحة ووزيراً للدفاع. وهناك شكوك في" تواطئ قاسم وعارف في عدم تشكيل مجلس قيادة الثورة". وليس ثمة شك في أن قاسماً كان وراء التخلص من هذا المجلس المتفق عليه مسبقاً ووجد ذريعة في الاحتماء وراء عارف، فمنذ الساعات الأولى للانقلاب "حكّمت تشكيلة (قاسم – عارف – العبدي) مواضعها تحكيماً قوياً جداً." تاركين بقية الضباط لا خيار لهم غير الرضا بالأمر الواقع. ويمكن اعتبار الغش في تشكيل المجلس من الأسباب الأساسية في الخلافات التي ظهرت بعد ذلك. وفي الثلاثين من أيلول أي بعد مرور أقل من ثلاثة أشهر على نجاح انقلاب 14 تموز تحرك قاسم لإقالة عارف من مناصبه فأعفي اولاً من منصب معاون القائد العام للقوات المسلحة ثم أعفي بعد ذلك من جميع مناصبه. كما حاول إخراجه من البلاد بتعينه سفيراً في بون عاصمة المانيا الاتحادية آنذاك، وكانت تنحيته وتعينه سفيراً في بون مفاجأة له هو نفسه كما أنها شكلت الإشارة العظمى على ذروة الصراع بين الرجلين. إذ بقي عدة أيام بعد 30 من أيلول في منزله في الأعظمية لا يبرحه، رفض عارف الانصياع للإمر، مما دعا بعض الضباط إلى التوسط بينه وبين قاسم وجرى ترتيب لقاء بينهما لحل الإشكالات وعمل نوع من التراضي والمصالحة. لذلك وفي الحادي عشر من تشرين الأول كان هناك اجتماع في مكتب قاسم في وزارة الدفاع في محاولة أخيرة لأقناع عبد السلام عارف بالمغادرة، ضم الاجتماع قادة الفرق الأربعة في الجيش واللواء أحمد صالح العبدي الحاكم العسكري العام والعقيد عبد الكريم الجدة آمر الانضباط العسكري، والعقيد وصفي طاهر المرافق الأقدم لعبد الكريم قاسم والعميدين ناجي طالب وفؤاد عارف متصرف (محافظ) كربلاء، لا شك أن إشراك الأخيرين في الاجتماع يعود إلى صداقتهما لعبد السلام وعلى أمل محاولتهما إقناعه. وفي هذه اللقاء اتهم الزعيم قاسم عارف بخيانة "ثورة تموز"، استمر اللقاء الذي حضره ضباط آخرون طوال النهار حيث كان الصدام بين الرجلين مستمراً، "وفي وقت متأخر بعد الظهيرة، وحين اشتدت المناقشة بينهما رأى قاسم أن عارفاً يسحب مسدسه من نطاقه، أكد قاسم أن عارف كان ينوي اغتياله" لكن عارف قال انه كان ينوي الانتحار، تدخل بعض الضباط الموجودين في غرفة السكرتير لتسوية الأمر، وكانت نتيجة المواجهة موافقة عارف على المغادرة إلى بون مؤقتاً بشرط أن يعود بأقرب وقت. ثم سافر في اليوم التالي وودعه قاسم في المطار، لكنه عاد إلى بغداد في الرابع من تشرين الثاني وسط شائعات عن محاولة انقلاب ضد النظام، وبعد يوم واحد من عودته تم استدعائه لمقابلة "الزعيم" في مكتبه بوزارة الدفاع لأقناعه بالعودة إلى مقر عمله في بون لكنه رفض السفر ثانية واشتبكا في مشادة كلامية بحضور العقيد عبد الكريم الجدة. وذكّر عارف قاسماً بوعده أي السماح له بالعودة بعد ثلاثة أسابيع، فأجاب قاسم أن غياب عارف تحتمه الأوضاع الداخلية وطلب منه ان يقترح لنفسه أي منصب يريده شريطة ان يكون خارج العراق، إن اختار سفارة من السفارات فهو مستعد ليجعله مرتبطاً به مباشرة دون الرجوع إلى وزير الخارجية إلا ان عارف ظل مصراً على رأيه، وقال انه زاهد في أي منصب ما دام باقياً في بغداد. عندها أمر قاسم بإخراج عارف وطلب من العقيد عبد الكريم الجدة آمر الانضباط العسكري أن يأخذه إلى آمريه الانضباط العسكري معتقلاً، "وما أن عاد الجدة من مقر الانضباط العسكري حتى وجد قاسم في حالة من الغضب الشديد. وأمر بالإعلان عن اعتقال عارف وإحالته إلى القضاء". وهكذا ففي الساعة العاشرة من مساء اليوم نفسه أذاع راديو بغداد بيان القائد العام التالي:

"عاد العقيد الركن المتقاعد (عبد السلام محمد عارف) السفير العراقي في بون إلى بغداد دون أمر أو إجازة. وبناءً على مقتضيات المصلحة العامة، وبسبب محاولاته المتكررة للإخلال بالأمن والراحة العامة فقد تم اعتقاله في هذا اليوم وسيحال إلى المحاكمة بتهمة التآمر على سلامة الوطن". ذيع نبأ اعتقال عارف في مساء 4 من تشرين الثاني، وفي اليوم التالي ثم لعدة أيام بعدها انطلقت حشود ضخمة في شوارع بغداد مطالبة بموت عارف وبالحياة لقاسم بوصفه (الزعيم الأوحد)، "هذا النعت عمل الشيوعيون على نشره في محاولة منهم للانتقاص من مكانة عبد الناصر، وشد معنويات قاسم"، وليقرنوا اسمه بقضيتهم ويثبتوها في ذهن الجمهور. وما مرت أسابيع قليلة حتى تعدى شيوع هذا اللقب الجديد التيار اليساري وصار متداولاً بين عامة الناس، ربما لأن تجاهله ينطوي على محاذير.
وجهت إلى عارف تهمتان الأولى: أنه ترأس أو شارك في تنظيم " لجماعة من الضباط الناقمين القائمين على رأس بعض وحدات الجيش لتدبير انقلاب ليلة 4/5 من شهر تشرين الثاني 1958.
الثانية: أنه حاول اغتيال "زعيم البلاد". وهكذا بدأت المحاكمة التي كشفت الكثير من اسرار الانقلاب، وعقدت أولى جلساتها في صباح يوم 27 كانون الأول 1958 في قاعة الشعب قرب وزارة الدفاع برئاسة العقيد فاضل عباس المهداوي أبن خالة الزعيم قاسم وكان شديد الأعجاب بأبن خالته وهو من أطلق العبارة الشهيرة (ماكو زعيم إلا كريم)، وعضوية كل من المقدم فتاح سعيد الشالجي والمقدم شاكر محمود السلام والمقدم حسين خضر الدوري والرئيس الأول (الرائد) إبراهيم عباس اللامي. كانت المحكمة سرية في البداية ثم أصبحت علنية فيما بعد وكان معظم ما يدور من أسئلة وأجوبة بهذه الجلسات يتمحور حول دور عبد السلام بانقلاب 14 تموز ومقارنة دوره بدور عبد الكريم كقائد مع سرد لأفعال وخطب عارف بعد الانقلاب ومحاولته في تعظيم دوره فيها وطمس دور الزعيم أضافة إلى محاولة الاغتيال المزعومة. كان الشاهد الأول في هذه القضية هو الزعيم المتقاعد فؤاد عارف الذي كان الوحيد الحاضر في غرفة قاسم اثناء النقاش الذي دار مع عبد السلام. وقد أكد للمحكمة بأن عارف سحب مسدسه من غلافه لكن الزعيم مسك يده في آخر لحضه وقد أعتبر هذا الكلام كشهادة أثبات. ورغم أن عبد السلام عارف أنكر كل التهم ودافع عن نفسه دفاعاً جيداً بالإضافة إلى دفاع محاميه محمد العبطة، إلا أنه في الخامس من شباط 1959 أصدرت المحكمة حكمها بالإعدام شنقاً حتى الموت وفق المادة (11) من مرسوم الإدارة العرفية لسنة 1931 وطرده من الجيش، "ولم يكن لهذه المادة ذكر في لائحة الاتهام الأصلية"، وتعاقب هذه المادة "بالموت كل من ثبت حمله سلاحاً ضد الحكومة أو أياً من قواتها المسلحة أو شرطتها أو استخدام السلاح ضد أي موظف عمومي". وقد برأت ساحة عارف من التهمة الأولى. كذلك تضمن قرار الحكم الفقرة: "أن محكمتنا أذ تصدر حكمها بالإعدام على المجرم المذكور تودع الرأفة به لأمر سيادة زعيمنا العبقري وحكمته باستعمال سلطته الواردة في المادة 20 من قانون معاقبة المتآمرين". من الملفت بهذه المحاكمة إن من بين الشهود رجال معروفين بانتمائهم إلى القوى القومية ومع ذلك فقد كانت شهادتهم ليست بصالح عارف وكأنهم أرادوا بشهادتهم تلك الرد على عبد السلام لتفرده في الانقلاب هو وعبد الكريم وعدم أشراكهم به ورفضه بعد نجاح الانقلاب تشكيل "مجلس قيادة الثورة". ومع ذلك لم يؤذهم عبد السلام حين وصل للحكم عام 1963 بل حتى عين بعضهم بمناصب عالية ورفيعة في الدولة. أودع عبد السلام عارف بالسجن العسكري رقم 1 بمعسكر الرشيد وظل فيه منتظراً تنفيذ حكم الإعدام به في كل يوم يمر. بعد أقصاء عبد السلام عارف هيمن عبد الكريم قاسم على مجلس الوزراء هيمنة تامة، وأخذ جميع مقاليد السلطة بين يديه، "حتى أصبح يصدر القرارات دون الرجوع إلى المجلس، وأخذ يقلص تدريجياً عدد الوزراء المدنيين، وخاصة بعد استقالة الوزراء القوميين في 6 شباط 1959 على أثر صدور حكم الموت بعارف الذي عجل باتخاذ هذه الخطوة وكانت مطروحة سابقاً فقد شكل الحكم الصادر صدمة وهياج لدى التيار القومي، وتمكن العسكريون من احتكار ثلث إلى نصف مراكز صنع القرار، ومعظمهم من زملاءه في الجيش. وفي 24 تشرين عام 1961 صدر قرار بالعفو عن عبد السلام عارف، ونقل من السجن إلى قاسم الذي هب لمعانقته والاحتفاء به ومن ثم رافقه إلى منزله، وأعاده إلى الجيش لكن لا إلى الخدمة الفعلية فيه. وسجل عارف امتنانه وحبه الأخوي في مقابلة صحفية له في ثاني يوم (عراق تايمس 27 تشرين الأول، مرآة الشرق الأوسط 28 تشرين الأول 1961). لا شك إن الجوانب الشخصية للصراع على السلطة ينبغي أن لا تحجب القضايا السياسية الحقيقية التي شملها الصراع، فتشرذم المعارضة في النظام القديم لعب دوراً في الصراع، إن كل العناصر في حركة المعارضة التي برزت بغية المناورة للحصول على منصب، أسهمت في التآكل السريع لوحدة النظام الجديد ورمي البلاد في أتون فوضى وشيكة، فعدم الاستقرار السياسي للحكومات الثورية وسلسلة الانقلابات التي أصبحت سمة لها بالإمكان إرجاعها إلى هذا الصراع المبكر.

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

4857 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع