الصحافة العراقية في عهد حكومة عبد الكريم قاسم

              

                                              

       

      

          الصحافة العراقية في عهد حكومة عبد الكريم قاسم

في عام 2010 صدر لي في بيروت كتابي الاول ( تاريخ الصحافة العراقية في العهدين الملكي والجمهوري) وكانت بعض فصوله جزء من رسالتي للدكتوراه من جامعة أكستر البريطانية عام 1987 وقد قضيت وقتاً مضنياً صيف 1983 في مراجعة الصحف العراقية في المكتبة الوطنية ومكتبة المتحف العراقي ومكتبة المجمع العلمي ومكتبة الخلاني ومكتبة جامعة بغداد، وأجريت سلسلة طويلة من اللقاءات والمناقشات مع الشخصيات السياسية والعسكرية والصحفية وغيرها ذات الصلة بهذا الموضوع.

#########

في26 تموز 1958 أصدرت الحكومة الجمهورية دستوراً مؤقتاً للبلاد يتضمن صلاحيات الزعيم الركن عبد الكريم قاسم بصفته القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء وزير الدفاع والتي تخوله مع مجلس السيادة إدارة شؤون الدولة بالمراسيم والقرارات.

                   

وأعلن قاسم الأحكام العرفية في أنحاء العراق ، وكلف الزعيم أحمد صالح العبدي ، الرئيس الجديد لأركان الجيش بمهمة الحاكم العسكري العام مع سلطات واسعة للأشراف على جميع مؤسسات الدولة ودوائرها الرسمية.

        

وبالطبع ، كانت الصحافة إحدى جوانب الحياة العراقية التي تأثرت بالحدث الجديد، ففي صبيحة يوم الثورة 14 تموز لم توزع الصحف في الأسواق ، وبادرت صحيفة( البلاد) يوم 15 تموز إلى إصدار عددها ، قال فائق بطي لي أنه جاء بعد ان حصل على موافقة شفهية هاتفية من الضباط الأحرار الذين كانوا في مبنى الإذاعة.

          

وأعقبتها صحيفتا( الحرية) لقاسم حمودي و(اليقظة) لسلمان الصفواني ،وأغلقت سلطات الجمهورية نهائياً صحيفتي ( الحوادث) و(الشعب ) واتهمت صاحبيها عادل عوني ويحيى قاسم على التوالي ( باستلام الرشاوى من المصادر الأجنبية) ، وعطلت (الأخبار) لاصحابها آل ملكون لفترة ستة أشهر، وعادت مع ( الزمان ) لصاحبها توفيق السمعاني.

   

وفي 17 تموز صدرت أول صحيفة يومية في ظل النظام الجمهوري لأن الصحف الأخرى كانت تصدر خلال عهد النظام السابق، وحملت أسم (الجمهورية) وتولت كودار بعثية قيادية الأشراف عليها ومنهم الدكتور سعدون حمادي ومعاذ عبد الرحيم.

   

تطورت الأحداث سريعاً بالاتجاه السلبي حين دبت الخلافات بين صفوف الضباط الأحرار ، وعلى الخصوص بين الزعيم الركن عبد الكريم قاسم وبين العقيد الركن عبد السلام عارف. وأنقسم الشارع العراقي ، والحركات السياسية التي تؤيد هذا الطرف أو ذاك ، ووقعت الصراعات الحادة والدامية .

ويتفق اثنان من كبار الضباط ، أعضاء اللجنة العليا للضباط الأحرار في القول بان خطط الثورة لم تتضمن موقف النظام الجمهوري تجاه الصحافة وهو ما أكده لي شخصياً المرحوم الزعيم الركن ناجي طالب وكذلك المرحوم الزعيم الركن عبد الكريم فرحان في رسالة من السويد حينما كان لاجئاً فيها

ولم يقتصر إغفال الضباط الأحرار على تنظيم الصحافة فحسب، بل وأغفلوا أيضاً تشريع بديل قانوني لمرسوم المطبوعات رقم 24 التعسفي الذي أصدرته حكومة نوري السعيد عام 1954، أو حتى إلغائه، فعانت الصحافة من الاضطراب وأحياناً الفوضى لفترة لاحقة من سنوات النظام الجمهوري.

            

بعد أقل من شهرين على قيادتهما للثورة على النظام الملكي ، وفي 11 أيلول 1958 أنفجر الخلاف بين الزعيم قاسم والعقيد عارف الى العلن، فعزل قاسم زميله عارف أولاً من منصبه العسكري نائباً للقائد العام للقوات المسلحة ، ثم في 30 أيلول من مناصبه الحكومية نائباً لرئيس الوزراء وزيراً للداخلية، وعينه سفيراً في ألمانياالغربية ، وفي 5 تشرين الأول اعتقل عارف فور عودته من بون دون إذن رسمي ، لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ العراق اتسمت بالانقسامات الدموية بين أطراف الحركة الوطنية كلها.

وفي خضم هذه التطورات منحت الحكومة التي بدأت منذ الآن تتخذ من مبنى وزارة الدفاع مقراً لها، موافقتها على صدور مجموعة جديدة من الصحف ، ومجلة أسبوعية واحدة ، فيما يلي أكثرها شهرة:

1 / الثورة : أصدرها يونس الطائي في 8 تشرين الأول 1958 مع انه لم يكن معروفاً عنه اشتغاله في الصحافة أو المهتمين بها. ويبدو أن علاقته مع عدد من الضباط سمحت له بإصدارها دون أن يحصل على إجازة رسمية ، ووضع أحمد قطان رئيساً لتحريرها، لكنها توقفت بعد توزيع عددها الأول ولمدة ثلاثة عشر يوماً ، لتعود بعد ذلك بعددها الثاني ، واستمرت طيلة الأعدادالعشرة الأولى تنتهج منهجاً وطنياً عاماً دون تأييد هذا الاتجاه السياسي أو ذاك . وأنسحب أحمد قطان منها فتوقفت مرة أخرى لمدة ثلاثة أيام، لتعود في الثالث من تشرين الثاني برئيس تحرير جديد هو عبد الله إسماعيل البستاني شقيق عبد القادر إسماعيل البستاني ، الشخصية القيادية في الحزب الشيوعي العراقي ، وهنا بدأت ( الثورة) تنتهج منهج تأييد وجهة النظر الشيوعية تجاه الأحداث الداخلية ، ونشرت مقالات لعدد من قادتهم بينهم عزيز الحاج الذي هاجم الكُتاب العرب الذين يعارضون الشيوعية ، واستمرت على هذه السياسة حتى نيسان 1959 واستبدلته بنهج جديد يؤيد عبد الكريم قاسم فقط، وحل سلمان العزاوي محل البستاني رئيساً للتحرير، وأصبح الطائي على علاقة شخصية وثيقة مع الزعيم قاسم من خلال علاقة صداقة مع أثنين من الضباط الأحرار هما الزعيم محي الدين عبد الحميد والعقيد عبد اللطيف الدراجي واستفاد منها في مواصلته مهنته الرئيسية مقاولاً للإنشاءات العسكرية.

2 / صوت الأحرار : أصدر الصحفي العراقي المعروف لطفي بكر صدقي هذه الصحيفة لأول مرة عام 1946 ، وهو من الصحفيين القدامى وتعرض وصحيفته للمتاعب والتعطيل والاعتقال والنفي ، أحدها كان نفيه الى روديسيا بإفريقيا الجنوبية بعد فشل ثورة مايس 1941 . وفي 16 تشرين الثاني 1958 أعاد لطفي بكر صدقي إصدار صحيفته التي تبنت الأفكار الشيوعية بالرغم من أنه لم يكن شيوعياً ، وهاجمت العقيد عبد السلام عارف دون أن تسميه ، وقالت ( أنها كانت لابد أن تصدر قبل هذا التاريخ لكن ...حال دون ذلك) وهي بذلك تشير إليه بصفته وزيراً للداخلية. ووضع الحزب الشيوعي ثقله في هذه الصحيفة ، وبدأ عزيز الحاج اعتباراً من عددها الثاني ينشر المقالات السياسية تحت عنوان ( لا الرجعية ما ماتت) و( ثورة ضد الثورة) هاجم فيها من وصفهم (دعاة القومية) والعقيد عارف ، وكتب فيها قادة الحزب الآخرون بينهم عامر عبد الله ومحمد حسين أبو العيس ويوسف متي، وغيرهم.

وأستفسرت من المرحوم عزيز الحاج شخصياً عن دوافع الحزب الشيوعي لوضع ثقله في ( صوت الأحرار) بالرغم من أن صاحبها لم يكن شيوعياً ، وقال الحاج في رسالته من باريس للمؤلف ان قيادة الحزب آنذاك توصلت الى اتفاق مع صاحب الصحيفة بأن يتولى هو ( الحاج) كتابة المقالات الافتتاحية، ولذلك ( كتبتُ الكثير من الافتتاحيات بالاتفاق مع سلام عادل وبالتشاور معه).

ولكن ، لماذا لم يصدر الحزب صحيفته الخاصة به ؟ ويجيب عزيز الحاج بأن الكتابة في ( صوت الأحرار) كانت ( تعطي قيادة الحزب حرية ما في التحرك والتفسير) واستمرتهذه الصحيفة في تأييد وجهة النظر الشيوعية حتى أواخر 1958 حينما بدأ قاسم بالابتعاد عنهم ، وانصرفت لتأييد سياسة الزعيم قاسم إلا أنها لم تهاجم الشيوعيين.

3/ الأهالي: وهي من الصحف العراقية المعروفة جداً أيضاً ، صدرت لأول مرة في أوائل عقد الثلاثينيات من القرن العشرين كما عرضنا سابقاً ، وفي عام 1941 صدرت باسم بديل هو ( صوت الأهالي) وفي العام 1946 أصبحت الصحيفة الناطقة بلسان الحزب الوطني الديمقراطي حتى العام 1954 عندما ألغتها مراسيم حكومة نوري السعيد، سوية مع الحزب. وعادت ( الأهالي) عام 1958 إلى الأسواق وصاحب امتيازها عبد الله عباس أحد أنصار كامل الجادرجي.

أما المجلة الأسبوعية التي صدرت في هذه الفترة فهي ( 14 تموز) التي أصدرتها المحامية نعيمة الوكيل ، وكانت من المطبوعات ذات الاتجاه الشيوعي. وفي الوقت نفسه أعاد الشاعر محمد مهدي الجواهري إصدار صحيفته القديمة( الرأي العام) ، وعادت أيضاً صحيفة (الرقيب) لحسن الأسدي، وصحيفة أخرى بأسم ( الاستقلال) لصاحبها لطفي البدري، أحد أقارب صاحب الاستقلال المعروف عبد الغفور البدري ، وأغلقتها الحكومة أثر فشل ثورة مايس 1941 نهائياً وأعتقلت صاحبها ، ثم توفي في منتصف الأربعينيات.

وفي ظل الظروف الداخلية المتوترة ، استأنفت صحيفة ( الأخبار) في 16 كانون الثاني 1958 صدورها بعد تعطيل حكومة الثورة لها لمدة ستة أشهر، وظهر عددها الجديد وهو يحمل صورة للزعيم عبد الكريم قاسم وهو برتبته الجديدة ( اللواء الركن) . لكن صفة( الزعيم) ظلت ملازمة لأسمه طيلة حياته.

وبسط الشيوعيون بشكل منظم نفوذهم على أجهزة الأعلام ، فأصبحت محطة الإذاعة والتلفزيون تحت إدارة المقدم المتقاعد سليم فخري، بينما تولى عزيز الحاج مسؤولية تنظيمهم الحزبي في المحطة، ويكتب أيضاً التعليقات الإذاعية المسائية بالتعاون مع شيوعي أخر هو عدنان البراك، وأصبح العقيد البيطري لطفي طاهر مديراً للرقابة العسكرية .

ومع ازدهار نفوذهم السياسي ، بدأ قادة الحزب الشيوعي في أواخر عام 1958 بالإلحاح على رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم لقبول فكرة إصدار صحيفة يومية خاصة بالحزب. وإلتقى عدد كبير من قادتهم مع قاسم في أوائل كانون الأول 1958 وقدموا له طلباً ، قالت صحيفة ( صوت الأحرار) أنه حمل توقيع هؤلاء القادة بالإضافة الى( توقيع 206 آلاف مواطن) للترخيص للحزب بإصدار صحيفته الخاصة.

وشارك في هذا اللقاء مع رئيس الوزراء ، أعضاء في المكتب السياسي للحزب وأعضاء في اللجنة المركزية لكن السكرتير الأول حسين الرضي المعروف بأسمه الحركي سلام عادل، والقيادي الآخر زكي خيري لم يشتركا في هذا الوفد، الذي ضم يوسف متي وجمال الحيدري وعبد القادر إسماعيل البستاني وجورج تللو وداود الصائغ الذي لم يلبث حتى انشق مجدداً ، ورحيم عجينة ونزيهة الدليمي ومحمد حسين أبو العيس وعامر عبد الله وصفاء الحافظ وشريف الشيخ وعبد الجبار وهبي وعبد الرحيم شريف وكامل قزانجي ، وعزيز الحاج الذي تحدث في اللقاء نيابة عن الجميع لأنه الحزبي المختص بالشؤون الثقافية والصحفية.

وفعلاً حصل الشيوعيون على موافقة رئيس الوزراء قاسم على إصدار صحيفتهم والتي فسر عزيز الحاج أسبابه لي بعد 25 عاماً من تاريخ لقائه مع قاسم ، حينما قال ان ( قاسم وجد نفسه بحاجة الى تأييد الشيوعيين، وخاصة في خلافه مع عارف ولخوفه من الوحدة، وأقتنع بأستخدام الشيوعيين ضد الحركة القومية ومصر والإبقاء على سلطته).

وهكذا أصدر الحزب الشيوعي العراقي في 25 كانون الثاني 1959 صحيفته وسماها على اسم صحيفته السرية(اتحاد الشعب)، لكنه لم يذكر في صفحاتها أنها ناطقة بلسانه ، وأصبح عبد القادر إسماعيل البستاني صاحباً للامتياز ورئيساً للتحرير،

ولابد من الأشارة هنا الى أن عبد القادر أسماعيل البستاني ، قد أدار في حياته الصحفية أثنتين من أكثر صحف العراق شهرة، وكذلك من أكثر صحف العراق علاقة بالاحزاب ، وهما ( الأهالي) ،عندما كان مع حسين جميل في مقدمه مؤسسي الجماعة في أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين ،و( أتحاد الشعب) عندما عاد الى عضوية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي ، وفي وقت لاحق ، أعتكف في منزله ببغداد بعد أن انقطعت علاقته بالحزب الشيوعي ، الذي لم يكلف قادته الجدد في منتصف الستينيات، أنفسهم حتى بزيارة مجاملة له في منزله، حتى وفاته ، وقد زرته مرتين في هذا المنزل.

ومع أننا ليس بصدد الحديث عن مدى تمتع هذه الصحيفة بالشعبية ، إلا ان الحقيقة هي ان الشيوعيين كانوا مهرة في مجال الدعاية والمنشورات وتنظيم المظاهرات والمقالات الصحفية، وليس كل من شارك في مظاهراتهم آنذاك كان شيوعياً أو نصيراً لنهجهم السياسي، ولم يكن شراء نسخ (اتحاد الشعب) في الأسواق تقديراً من القراء لما تحويه من آراء سياسية،حتى أنها اعترفت في 24 مايس 1959 بأن بعض قرائها يشتروها خوفاً من الأنتقام وان الموظفين كانوا يضعونها على مكاتبهم درءاً للمتاعب.

                     

والأزمة الحكومية التي أثارتها صحيفة البعثيين( الجمهورية) سابقاً وجدت مثيلها مع صحيفة الشيوعيين ( اتحاد الشعب)، وهذه المرة كان رئيس الوزراء الزعيم عبد الكريم قاسم طرفاً مباشراً فيها، وهي أزمة نشبت نتيجة للأوهام طغت على الشيوعيين المسؤولين عنها بأنها صحيفة بلا منازع ، ذات صوت عال ، ترعاها السلطات في وزارة الدفاع ، وبالتالي يمكنهم تحدي وزير الإرشاد الجديد حسين جميل علناً الذي استقال من منصبه بعد ثلاثة ايام فقط من أستيزاره احتجاجاً على التدخل العسكري والأمني في صلاحياته الوزارية بتعطيل جريدة ( اتحاد الشعب ) !

وللتعرف على أسلوب تفكير رئيس الحكومة عبد الكريم قاسم تجاه الصحافة، نراه في تموز 1959 ينفي عن نفسه تهمة تعطيل الصحف، ويقول:

( منذ استلامي المسؤولية، فأنني شخصياً لم أغلق أية جريدة، ولم أصدر مثل هذا الأمر مطلقاً ومن المحتمل أن بعض الصحف قد أغلقت في ظروف خاصة، ولكن دون علمي).

ثم يعد الصحفيين بأنه ( سيجلب لهم مطابع متقدمة جديدة) وأنه سيزيد (عدد العاملين في هيئة الرقابة لتسهيل عمل الصحافة) وبأنه أبلغ الرقابة ( بمعاملة كل الصحف معاملة واحدة) لكنه لم يتعهد بإلغاء الرقابة.

نظرياً، نعم لم يصدر قاسم ( شخصياً) أي قرار بتعطيل صحيفة ما لأن تلك القرارات لم تحمل أسمه أو توقيعه، بل تحمل توقيع الحاكم العسكري العام الزعيم العبدي والذي يصدر أوامره بعد إطلاع رئيس الحكومة عليها ، وهنالك الدلائل الكثيرة على أن شؤون الصحافة كانت بيد الزعيم قاسم حصراً، ومنها تأكيد المرحوم حسين جميل لي خلال عدة لقاءات معه في منزله بأن قاسم ( كان شخصياً وراء كل القرارات حول الصحف ، رغم أنه نكر ذلك في المؤتمرات الصحفية، فقد كان يصدر البلاغات وهي تحمل توقيع الحاكم العسكري العام ) الزعيم العبدي. والأمر نفسه أكده المقدم الشيوعي سليم الفخري الذي كان مديراً للرقابة تارة، ومديراً للإذاعة والتلفزيون تارة أخرى،عندما قال في إفادته أمام المحكمة العسكرية العليا الخاصة خلال محاكمة العقيد عبد السلام عارف ( أن قضايا الصحف كلها أصبحت بيد الزعيم باعتباره رئيساً للوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، وهو الذي منح امتيازات الصحف ، ومن جملتها جريدة الأهالي).

على أية حال، تمكن الشيوعيون آنذاك، شباط 1959 ، وبمساعدة من قاسم من بسط نفوذهم التام على أجهزة الأعلام ودوائر وزارة الإرشاد ،والإذاعة والتلفزيون ، والرقابة، والصحافة ، والمطبوعات الأخرى، وأصبحت جميع تعليقات الإذاعة تعبر عن وجهة نظرهم ، وأنفردوا لوحدهم بالعمل السياسي وتنظيم المظاهرات مع ازدياد حرب الدعاية إلتهاباً بين العراق والجمهورية العربية المتحدة، وواصلت صحفهم التحذير اليومي من (مؤامرات الإمبريالية) و ( المؤامرات ضد الزعيم الأوحد عبد الكريم قاسم) وضد(سلامة الجمهورية) ، والمطالبة ( بسحق رؤوس التآمر).

وفي الحادي عشر من آذار 1959، هاجم الشيوعيون الغاضبون مكاتب ومطابع ثلاث صحف يومية مناهضة لهم ، كانت ما تزال قادرة على العمل ، فهشموا مكاتب ( الحرية) لقاسم حمودي، و(اليقظة) لسلمان الصفواني، و(الفجر الجديد) لطه الفياض ، وحطموا مكائن الطباعة ، ونثروا نسخها الممزقة وورقها في الشوارع ، لأنها ( صحف معادية)، ونجا صحفيوها بالهروب عبر سطوح المنازل المجاورة ، وبذلك لم يبق في الأسواق من ( الصحف المتآمرة) سوى ( بغداد) و(المواطن العربي) و( لواء الإسلام) فوجدت ان مواصلة العمل اصبح مستحيلاً فاحتجبت عن الصدور، وفي الوقت نفسه أغلق الحاكم العسكري العام مكتب وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية

وفي هذه الظروف أحس قاسم أن حديث الصحف عن المؤامرات والمتأمرين تسبب في ضرر اقتصادي فأضطر الى التنبيه بان مثل هذه المقالات تسبب ( إزعاجاً للسوق وإثارة الاضطراب) ، لكن الشيوعيين واصلوا مسيراتهم الصاخبة وهي تردد ( أعدم.. أعدم) مطالبة رئيس الحكومة بتنفيذ أحكام الإعدام في الضباط والمدنيين الذي شاركوا أو أيدوا حركة عبد الوهاب الشواف .

ولما وجد الحزب الشيوعي أنه يحظي بزخم سياسي واسع ، أطلق في 28 نيسان 1959 دعوته للمشاركة المباشرة في الحكومة، وصدرت ذلك اليوم صحيفتا (اتحاد الشعب) و(صوت الأحرار) وهما تحملان الدعوة وفي نغمة واحدة هي أن المشاركة في الحكم( ضرورة وطنية ملحة)، وأن ( الممثلين الحقيقيين للقوى الوطنية) مستبعدين من المشاركة في المسؤولية ، وتحدثتا عن شعبية الحزب .

ويبدو ان حملة الحزب الشيوعي لمشاركته في الحكم قد استفزت قاسم ، فبدأ بمراجعة حساباته ، وعقد العزم على هز قبضته في وجههم قبل أن يفوت الأوان . فألقى بعد يومين من بدء الحملة خطاباً هاجم فيه( الحزبية والأحزاب) وأنها لا تفيد ،لكن الحزب الشيوعي لم يسكت ،

              

فرد في اليوم التالي الأول من مايس ، عيد العمال العالمي، بمظاهرة كبرى في شوارع بغداد، تقدمها قادة الحزب ، والكل يهتف بالهتاف الرئيسي ( حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمِ ) ، وواصلت( اتحاد الشعب ) مطالبتها (بحكومة ائتلافية يشارك الحزب الشيوعي فيها لغلق الفجوات وحماية السلم) ، ولأسباب غير معروفة أوقف الحزب طلبه المشاركة بالحكم ، لكن المصادر ذكرت بعد عدة سنوات انه تلقى نصيحة سوفيتية بالكف عنها ، وفي 23 مايس نشرت( اتحاد الشعب) قرار المكتب السياسي بتجميد الحملة للمشاركة في الحكم.

               

ولم يكتف قاسم بخطابه ضد الحزبية والأحزاب ، بل اقنع محمد حديد بتجميد الحزب الوطني الديمقراطي في غياب رئيس الحزب كامل الجادرجي في رحلة علاج في الاتحاد السوفيتي، فأنفرد رئيس الحكومة بالحزب الشيوعي الذي بدأ باتخاذ الإجراءات الاحترازية تحسباً للمفاجئات، ومنها ان محرري ( اتحاد الشعب) الرئيسين انتقلوا الى مقر سري بعيداً عن مكاتب الصحيفة، والتي أصبحت تحت الحراسة المسلحة لأعضاء الحزب مع تعليمات( برد كل هجوم على المكاتب، ومهما كلف الأمر)، ويؤكد عزيز الحاج ، أحد الذين انتقلوا الى المقر السري أن التوتر بين الحزب وقاسم قد خف نسبياً بعد مقابلة أجراها معه عامر عبد الله، وعاد بعدها الى المقر السري ليعلن لرفاقه ( أن قاسم قد أطمئن من نوايا الحزب)

لكن رئيس الحكومة واصل إجراءاته ، فأبعد المقدم سليم الفخري من منصبه، المدير العام للإذاعة والتلفزيون، وعدنان البراك ، المعلق الرئيسي في الإذاعة ، ثم عين شخصية ماركسية لا نفوذ سياسي لها ، الشاعر كاظم السماوي مديراً عاماً للإذاعة والتلفزيون.

وفور استبدال الفخري تبدلت لهجة إذاعة بغداد ، وبدأ برنامج عرض الصحف الصباحي يتجاهل مقالات ( اتحاد الشعب) ، وأذاعت تعليقات تنتقد الشيوعيين ،وأشارت إلى أنهم قد نالوا ( من الحقوق أكثر مما يحلمون لو أنهم أنفسهم قد قاموا بالثورة)، وهو ما استفز عزيز الحاج ورد بمقال( تعليق على تعليق الإذاعة ) ونشره في (صوت الأحرار)، واعتبره ( إنعاشاً للقوى الرجعية التآمرية السوداء، لأن مساواة الشيوعيين والبعثيين والاستقلاليين والديمقراطيين والبارتيين، كما أسماهم المعلق، هو أمر معاد تماماً للجمهورية ونظامها الديمقراطي الواضحة المحددة، وهذا عمل لا يمكن غفرانه مطلقاً). ووصفت هذه الصحيفة إذاعة بغداد بأنها أصبحت ( وكراً للرجعية) .

وسمحت السلطات العسكرية أيضاً للصحف التي كانت ضحية الهجوم الشيوعي على مكاتبها في آذار باستئناف الصدور فاستفادت ( الفجر الجديد) و(بغداد) فوراً من القرار ، لكن ( الحرية) لم تعد الى الأسواق إلا في آب التالي .

وأعتباراً من حزيران 1959 ، أصبحت صفحات الصحف ميدانأ للمعارك السياسية، تقف ( اتحاد الشعب) و(صوت الأحرار) في جانب، بينما تقف الصحف القاسمية ( الثورة ) و(الزمان) و(الأخبار ) وبدعم من (الأهالي) و( بغداد) في الجانب الآخر. وأنقسم المجتمع أيضاً انقساماً حاداً، فأصبحت هذه الاحياء من بغداد ضد أحيائها الأخرى لمجرد الاختلاف في الولاءات السياسية لسكانها .

         

                   احدى مؤتمرات الزعيم قاسم

وهكذا، تدهورت حالة الصحافة بشكل حاد في شهري حزيران وتموز ، وتبادلت مختلف أنواع الشتائم الى درجة الإسفاف ، وعندها شعر قاسم بالحاجة لاحتواء الأزمة ، عقد مؤتمراً صحفياً داخل وزارة الدفاع استمر أربع ساعات متواصلة ونقلته إذاعة بغداد نقلاً مباشراً ، وبحضور رئيس أركان الجيش ، الحاكم العسكري العام الزعيم أحمد صالح العبدي، والمدير العام للصحافة بوزارة الإرشاد ذو النون أيوب،وحذر فيه من الحديث عن ( المؤامرات) لأنه يربك السوق ، وبأنه قادر على ( تحطيم أية مؤامرة خلال ساعات)، وجدد رفضه للحياة الحزبية ( لأن الأحزاب لن تستطيع إدارة البلاد أكثر من بضعة أيام) .

وبدون مقدمات ، بدأ عبد الكريم قاسم في يومي السابع والتاسع من تموز الحديث عن انسجام الأحزاب معه وأنه سيسمح لها بالنشاط الرسمي بعد عدة شهور ، وهي الفترة الكافية لأجهزته لكي تنجز شق تلك الأحزاب الى كيانات هزيلة ،

                      

وبعدها بأيام أجرى تعديلاً وزارياً أدخل بموجبه أول امرأة في تاريخ العراق وزيرة للبلديات هي الدكتورة نزيهة الدليمي أحد كوادر الحزب الشيوعي ولكن استوزرها بصفتها الشخصية ، وعين الدكتور الجامعي فيصل السامر وزيراً لإرشاد بدلاً من الوزير بالوكالة فؤاد عارف ، وعوني يوسف وزيراً للإسكان.

وفي التاسع عشر من تموز 1959 فاجأ الحاكم العسكري العام العراقيين بإعلان سقوط ضحايا جدد في مسلسل العنف حينذاك، وقال أن( أحداثاُ تعكر الأمن قد وقعت في كركوك) خلال الأيام القليلة الماضية .

وفي اليوم ذاته، ،19 تموز، ألقى الزعيم قاسم خطبة في افتتاح كنيسة مار يوسف ببغداد، وكان عنيفاً في مهاجمته لما أسماه( الأعمال الفوضوية) وبأن لديه القوة الكافية لسحقها ، لكن (اتحاد الشعب) كررت على مدى ثلاثة أيام متوالية حديثها عن ان ما جرى في كركوك ما هو إلا ( مؤامرة مبيتة ضد الجمهورية) وقد تم سحقها بحزم كان ( مثالاً رائعاً على الأسلوب الوحيد المجدي في سحق أعداء الجمهورية ... بنفس الطريقة المحنكة في سحق مؤامرة الشواف ) ولم يكتف قاسم بخطابه في الكنيسة ، بل عقد مؤتمراً صحفياً عاصفاً، هاجم فيه الشيوعيين دون أن يسميهم ، بل أشار للكثير من شعاراتهم ومنظماتهم بالاسم، وقال للصحفيين ان بعض الصحف تفتعل الحوادث بالحديث عن ( المؤامرات والمتآمرين ، لكن صحفكم هي المسؤولة عن هذه الحوادث) ، ومن العيب ( أن ينشأ الأطفال على مثل هذه العبارة : ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة، وغيرها من العبارات الهمجية والوحشية).

وجاء قاسم إلى المؤتمر الصحفي ومعه مجموعة من الخرائط والوثائق والصور ونشرها على الطاولة ، وقال بصوت عال ان الشرطة قد صادرت هذه الخرائط من مقر اتحاد الطلبة ، أنها تحمل أرقاماً وإشارات لعدد من المنازل في بغداد ، كما أن الدور في كركوك كانت مؤشرة على الخرائط ( وذهب الفوضويون الى تلك الدور بموجبها وأخرجوا أصحابها وقتلوهم ، أين هي المؤامرات ؟ أهذه هي الرجعية؟ وكانت ستحصل أعمال مماثلة في الناصرية والسماوة وفي بغداد والاعظمية والكاظمية والكرادة).

على أية حال ، لم تلبث اللجنة المركزية للحزب الشيوعي وان اعترفت بارتكاب أخطاء ( في تقدير الحالة السياسية عندما رفع شعار المطالبة بحصة في الحكم ) ، واضطرت إلى شجب( أعمال التنكيل والسحل والتعذيب ونهب الممتلكات )، وهو ما وصفه باحثون ( بجلد الذات)، وأكدت تضامنها مع قاسم الى أقصى الحدود، ونشرت بيانها في ( اتحاد الشعب) يوم 3 آب 1959 لتهدئة الموقف العام.وشاركت مؤسسات الدولة أيضاً في هذه التهدئة.

ومع هذه التطورات أصيبت ( اتحاد الشعب) بنكسة وبدأت بفقدان قرائها ، وانخفض توزيعها حتى وصل في أواخر تموز 1959 الى أقل مما توزعه صحيفة ( الفجر الجديد) لطه الفياض المناهضة للشيوعيين.

ويبدو أن السلطات العسكرية لم تلتفت الى الحاجة لصيغة رسمية جمهورية لإدارة الصحافة لأنها ظلت تعتمد على صيغة ورثتها من النظام الملكي وهي مرسوم المطبوعات رقم 24 لسنة 1954، فأصدر الحاكم العسكري العام الزعيم أحمد صالح العبدي في الثاني من أيلول 1959 بياناً وجهه الى أصحاب الصحف والمجلات، واستند فيه أيضاً على مرسوم 1954 ، وحدد لهم ما يمكن أن يسمح هو بنشره أو لا يسمح به.

         

وألتفت رئيس الحكومة عبد الكريم قاسم هذه المرة ليضرب في الناحية الأخرى فوافق في 25 آب 1959 على تنفيذ حكم الإعدام رمياً بالرصاص في ستة من الضباط الذين اشتركوا في حركة الشواف في الموصل ،

            

وفي 20 أيلول تم تنفيذ الحكم بثلاثة عشر آخرين بينهم الزعيم الركن ناظم الطبقجلي والعقيد رفعت الحاج سري، وأنفجرت شوارع بغداد بمظاهرات احتجاج غاضبة ، بينما رحبت ( اتحاد الشعب ) بتنفيذ حكم الإعدام ، واستعدت الزعيم قاسم على المتظاهرين لأنهم ( رددوا هتافات ضد الزعيم المخلص وضد محكمة الشعب وان أعداء الجمهورية يحاولون استثمار إعدام عدد من الخونة).

ولم تنفع هذه السياسة صحيفة الحزب الشيوعي العراقي، فوقعت هي الأخرى تحت سوط الحاكم العسكري العام واتهمها بنشر الأخبار الكاذبة ، وبدأت نقابة الصحفيين التي يسيطر الشيوعيون عايها بالشكوى من مضايقة السلطات العسكرية، وخصصت إذاعة بغداد يوم 10 أيلول برنامجاً خاصاً للهجوم على صحيفة ( صوت الأحرار) لأنها عادت للحديث عن ( المؤامرات والمتآمرين) .

         

كان عبد الكريم قاسم ما يزال في المستشفى بعد محاولة أغتياله حتى بدأت بعض الصحف العراقية الوثيقة الصلة بوزارة الدفاع بالترويج لفكرة إجازة الأحزاب السياسية ، ودعت( الثورة ) الى تأسيس حزب تحت زعامة قاسم ، ونشرت برقيات ورسائل تأييد لهذا الاتجاه ، وتبنت ( الأهالي) فكرة قيام الحياة الحزبية ، وناقشت في مقالاتها احتمالات السماح للأحزاب السياسية بالعمل العلني القانوني.

وبعد مغادرته المستشفى، أختار رئيس الحكومة ، عيد الجيش، يوم السادس من كانون الثاني 1960 ليعلن البدء بتنفيذ قانون الجمعيات عقب نشره في الجريدة الرسمية يوم الثاني من كانون الثاني ، وكأن بذلك يريد أن يقول أن رجلاً عسكرياً ، وفي عيد الجيش هو الذي سمح للأحزاب السياسية بالعمل ، وأجازت حكومته اشخاصا بتأسيس احزاب هي ليست الاحزاب السياسية المعروفة.

وهكذا نجح قاسم ، ليس بشق الأحزاب الموالية فقط، بل وتصفيتها من الساحة السياسية وأنهى الدور السياسي التاريخي للوطني الديمقراطي وقبله الاستقلال، بينما عاد الحزب الشيوعي الى نشاطاته السرية لكنه حافظ على ولائه لقاسم.

#########

ولم يكن شق الأحزاب وإخراجها من الحياة السياسية،السمة الوحيدة لسياسة حكومة عبد الكريم قاسم ، بل رافقها انقسام الصحف أيضاً الى جناحين أو أكثر. ففي الشهور الأولى لعام 1960 تفاقمت حرب الاتهامات بين الصحف الشيوعية ( اتحاد الشعب) و(المبدأ) المنشقة ، وبين (الأهالي) للوطني الديمقراطي و(البيان) المنشقة ، وانضمت لهم ( الثورة ) و(صوت الأحرار) لتأييد هذا الطرف أو ذاك بشكل أتسم بالإسفاف وتبادل الاتهامات حتى أصبحت ظاهرة سيئة انتبهت لها وزارة الإرشاد فأصدر ذو النون أيوب المدير العام للصحافة والإرشاد ، بيانا ذو لهجة عامة تدعو فيه الصحافة الى خدمة الوطن( وليس من الضروري أن تتبنى الصحف وجهة نظر واحدة ، وخاصة إذا كانت ناطقة بلسان الأحزاب ... والتخلي عن أسلوبالسب والمشاحنة وتلفيق الأخبار).

ولم تهدأ الصحف ، حتى أضطر الزعيم قاسم بعد أسبوعيين الى التدخل شخصياً وراح يكيل الاتهامات للصحفيين وبحضورهم ، وألقىى كل ثقل المؤسسة العسكرية في الحملة على الصحافة ودون تمييز. فقد أغتنم رئيس الحكومة مناسبة افتتاحه للمؤتمر الثاني لنقابة الصحفيين في 7 نيسان 1960 ليلقي خطاباً عاصفاً استمر ثماني دقائق فقط ، ونقلته إذاعة بغداد على الهواء، رحب في مقدمته بالوفود الأجنبية ثم صرخ :

( أنني لم أحضر هذا اليوم لأفتتح هذا المؤتمر، مؤتمر الصحافة العراقية، أن الصحافة العراقية قد دفنت في الحضيض ... لقد فشلت الصحافة في العراق خلال السنة المنصرمة فشلاً ذريعاً، وأما أرباب الصحف والمراسلين ومن يشتغل بمعيتهم فليتواروا خجلاً أمام الشعب، أنهم فرقوا صفوف الشعب.

أن المطلوب من أرباب الصحف الخيرة الطيبة النزيهة أن توحد صفوف الشعب وتجمعهم لا أن تفرقهم . أنكم ركضتم وراء المنافع الذاتية ولم تقدروا حساباً لمصلحة الوطن، أننا في ثورة جامحة وأنكم مدعوون وأبناء الشعب لرص الصفوف وعدم تفرقتها، أنكم مسؤولون أمام الله والتاريخ . لقد فشلت الصحافة في العراق فشلاً ذريعاً).

ومن المفارقات الغريبة ، وربما بسبب القبضة العسكرية ، لم يجد الصحفيون الحاضرون في هذا المؤتمر من خيار سوى خيار التصفيق الحاد، وعدة مرات ، ومنها المرة التي أتهمهم قاسم فيها بشق الصفوف وتخريب الجبهة الداخلية !

ثم نشرت صحف اليوم التالي نص الخطاب بحروف بارزة ، لكنها لم تنشر أي رأي تدافع فيه عن نفسها وعن مهنة الصحافة وحريتها، وحتى نقابة الصحفيين اختارت الوقوف الى جانب الحكومة.

     

ففي خطاب ألقاه نقيب الصحفيين ، محمد مهدي الجواهري بعد خطاب قاسم مباشرة، واستمر عشرون دقيقة ، قال انه مزق خمس صفحات من خطاب أعده قبل المناسبة، لكنه بعد أن أدرك أسباب غضب رئيس الوزراء ،( لم يستطع أن يقرأها بحضوره) ووجه كلامه الى قاسم قائلاً (الصحفيون يطلبون مساعدتكم)، ولم ينجو الجواهري نفسه فيما بعد من تعسف سلطات قاسم العسكرية.

وكان من الواضح ان أصحاب بعض الصحف ، أو كلهم قد أدركوا أن سلطة الإشراف على الصحافة ليست بيد وزير الإرشاد ، بل بيد السلطات العسكرية بوزارة الدفاع، وان الحاكم العسكري العام الزعيم العبدي ومكتبه هو الجهة ذات الكلمة الأولى والأخيرة في شؤون الصحافة فانصرفوا بعيداً عن وزارة الإرشاد الى حيث القرار بوزارة الدفاع.

ولجأ الشيوعيون بعد فقدانهم (اتحاد الشعب) في أيلول 1960 إلى صحف متعاطفة معهم، فتحولت صحيفتا(الحضارة) لمحمد حسن الصوري، و(الثبات) لمحمود شوكت الأسبوعيتان إلى الصدور يومياً بموافقة وزارة الإرشاد ، لكن الحاكم العسكري العام ضربهما بالتعطيل في 10 تشرين الثاني، وألحق بهما (الإنسانية) التي أصدرها الشاعر كاظم السماوي بعد تركه الوظيفة الحكومية، ولم تبق لهم سوى (صوت الأحرار) لكنها لم تعد تطرح آرائهم صراحة ، بل تنشر مقالات عامة تشكو فيها من (عدم الاستقرار والعصابات وقطاع الطرق).

وفي العام التالي 1960 عاد الحزب الشيوعي الى نشاطاته السرية وأصدر (طريق الشعب) صحيفته السرية التي واظبت على انتقاد أسلوب الحكم لكنها لم تنتقد قاسم ، بل أكدت أن الشيوعيين ( ليس ضد شخص عبد الكريم قاسم، بل ضد طريقته الفردية في الحكم) ، وبأن الحزب سيقاوم أية محاولة ضد نظام الحكم، وكما يؤكد حنا بطاطو ، لم يتخل الشيوعيون أبداً عن قاسم.

ومن أكثر المفارقات مدعاة للسخرية في سياسة قاسم تجاه الصحافة العراقية أنه كان يتخيل أن حرية الصحافة مضمونة في العراق ، وقال في إحدى مؤتمراته الصحفية أن الصحفيين العراقيين يتمتعون بالحرية أكثر من أي صحفي في البلدان الأخرى، ( أهنالك صحفي أو محرر أو مراسل، من يفضل مزيداً من حرية الصحافة؟ وهل هنالك في العالم من يتمتع بالحرية أكثر من الصحفيين في العراق؟ )!

ولم تمض أثنى عشر يوماً على تصريحاته هذه حتى هدد الحاكم العسكري العام في بيان رسمي رقم 131 بتاريخ 13 آب 1960 كل الصحف والمجلات بشكل لم يسبق له مثيل في النظام الجمهوري ، وسمح لنفسه بتفسير المخالفات التي زعم أنها ( تسبب الإساءة الخطيرة جداً للمصلحة العامة... وتفسد معنى الحرية) وبأنه يحذر (أعضاء الصحافة مرة أخرى من اللجوء لمثل هذه المخالفات وعليهم الاحترام الكامل للقوانين ولبياننا المرقم 62 الصادر في 2 أيلول 1959).

ولم يكن أمام وزير الإرشاد الدكتور فيصل السامر من خيار سوى خيار تكرار آراء الإدارة العسكرية ، واستخدم الإذاعة ليلعن ان بيان الحاكم العسكري العام كان ( واضحاً وصريحاً) ، وزعم ان البيان يعطي العاملين في الصحافة ( الفرصة لاحترام المبادئ العامة) كما هو الحال في المجتمعات المتقدمة، وأن الصحافة (أصبحت مشكلة تتطلب العلاج ).

وأعترف الوزير السامر بأن مرسوم المطبوعات رقم 24 لسنة 1954 كان مرسوماً قاسياً ويفرض عقوبات شديدة، دون أن يفسر الأسباب التي دفعت النظام الجمهوري الى مواصلة الركون لذلك المرسوم وعلى مدى عامين من قيام الثورة، وما يزال نافذا، لكنه أشار الى أن قانوناً جديداً للمطبوعات سيصدر قريباً . ولم يكن وزير الإرشاد المسؤول الوحيد الذي يتحدث عن قانون جديد للمطبوعات ، بل وحتى رئيس الحكومة قاسم تحدث عنه وفتح ذات مرة ملفاته أمام الصحفيين وقال لهم ( هذا قانون المطبوعات الجديد،أنه جاهز).

ولم يصدر مثل هذا القانون الجديد أبداً خلال عهد عبد الكريم قاسم.

ولما وجدت الإدارة العسكرية ان إجراءاتها في أواخر عام 1960 قد قضت على عدد كبير من الصحف السياسية اليومية ، اتجهت الى ملأ الفراغ بصحف يدخل أصحابها عالم الصحافة لأول مرة، ولم يكن لها نهج سياسي سوى نهج كيل المدح والثناء لرئيس الحكومة الزعيم عبد الكريم قاسم.

ففي البداية ، استبدل حسن الأسدي في الأول من تشرين الأول أسم صحيفته ( الرقيب) الى ( الجمهور) وحصر ولائها بالزعيم قاسم، بعد ان كانت صحيفته الأولى موالية للشيوعيين ، وفي 12 تشرين الثاني أصدر المحامي رسمي العامل صحيفة (المستقبل) وكرسها لإطراء سياسة قاسم، وأصدر زكي أحمد في 11 كانون الأول ( العهد الجديد) ولم يوفر في هجمات مقالاته فيها أية قوة سياسية تعارض أو حتى تنتقد سياسة قاسم.

أما المحامي ضياء شكارة فقد أصدر في 21 كانون الأول صحيفة أسماها( السياسي الجديد) وحاول ان يعطي اسمها معنى جديداً وراح يشتم فيها كل القوى السياسية وأفكارها لكنها لم تستمر طويلاً فأغلقها الحاكم العسكري العام في نيسان 1961 ( حرصاً على المصلحة العامة) وخرقها لمرسوم المطبوعات رقم 24 لسنة 1954 النافذ.(76)

وفي تموز من نفس العام 1961 استعاد الحاكم العسكري العام الأحكام الشديدة القسوة في مرسوم نوري السعيد للعام 1954 وأصدر الأمر رقم 13/2303 بتاريخ 30 تموز 1961 ليلغي امتيازات 26 صحيفة ومجلة بعضها متوقف فعلاً وبعضها الآخر تعرض للتعطيل في وقت سابق.

وفي 26 نيسان 1962 بدأ عبد القادر البراك في إصدار صحيفة يومية أسماها(الأيام) ، وكان بين أصحاب الصحف الجديدة الذي يتمتع بخبرة صحفية سابقة، وسبق له إصدار الصحف في الخمسينيات أو عمل في صحف أخرى بعد الحرب العالمية الثانية ، وحافظ في صحيفته الجديدة على نهج سياسي متوازن ، فهي تؤيد حكومة قاسم وفي الوقت نفسه لم تهاجم القوى المعارضة للحكومة ، حتى أنه نشر مقالاً يشيد بالوحدة العربية في 7 شباط 1963 ، قبل يوم واحد من الإطاحة بنظام عبد الكريم قاسم.

وفي الجانب الآخر أسفرت الطبيعة الفردية لنظام الحكم ونتائج مناوراته لشق الأحزابوتصفيتها في القضاء على واحدة من أشهر صحف العراق بعد تاريخ من العمل الصحفي استمر ثلاثين عاماً ، فتوقفت (الأهالي) عن الصدور نهائياً.

  

وجاءت نهاية هذه الصحيفة إثر أزمة داخل الحزب الوطني الديمقراطي استقال فيها السكرتير العام حسين جميل في 15 نيسان 1961 سويه من نائبه مظهر العزاوي الذي كان رئيساً لتحرير (الأهالي) ، وأبلغت الاستقالة الى مكتب الحاكم العسكري العام مما ترتب عليه توقف الصحيفة لأن مرسوم المطبوعات لعام 1954 يحظر صدور أية صحيفة ما لم يكن لها رئيس تحرير، وفي 20 آب سمحت وزارة الإرشاد لعبد المجيد الونداوي بأن يكون رئيساً للتحرير ، بينما تمكن أنصار كامل الجادرجي من توزيع صحيفتهم في العمارة ( صوت الأهالي) في بغداد،لكن الحاكم العسكري العام لاحقها بعد شهر واحد فألقي القبض على صاحبها خالد عبد الرحيم، ثم ألغى امتيازها في 14 أيار 1961.

      

ولما عاد رئيس الحزب كامل الجادرجي في أيلول 1961 من زيارة خارج العراق ، أعلن استقالته من رئاسة الحزب وعضويته فيه ، ثم أعلنت ( الأهالي) في 13 تشرين الأول 1961 تعطيل نشاطات الحزب كلها وبأنها ( ستتوقف عن الصدور أيضاً)، وكان عددها هذا هو العدد الأخير ، وبعده لم تعد ، ولم يعد حزبها الى العمل ثانية ، لكن الجادرجي حافظ على علاقته باثنين من أنصاره هما عبد الله عباس وعبد المجيد الونداوي في صحيفتها الجديدة( المواطن) التي واصلت الصدور حتى سقوط نظام قاسم في 8 شباط 1963.

وفي 21 آب غابت صحيفة معروفة أخرى ، هي ( الحرية) لقاسم حمودي عن الأسواق بعد أن أغلقها الحاكم العسكري العام ، وتمكنت لبعض الوقت من استئناف العمل بعد 8 شباط 1963. كما جرى توقيف جوزيف جبران ملكون صاحب( الأخبار) في مركز الشرطة بأمر الحاكم العسكري العام ، وكان قد تولى شؤون الصحيفة بعد وفاة والده جبران ملكون في أيلول1960 . وأصبحت الإذاعة في هذه المرحلة تحت إدارة ضابط من الجيش هو المقدم الركن جاسم العزاوي،السكرتير الخاص لرئيس الحكومة عبد الكريم قاسم ، وفصلت لجنة تحقيق عسكرية 72 عضواً من نقابة الصحفيين واعتبرتهم غير مؤهلين للعمل في الصحافة.

وبعد خروج الحزب الوطني الديمقراطي من الساحة السياسية لم يبق من الأحزاب سوى حزب داود الصائغ مع أنه لم يكن حزباً بالمعنى المعروف ، ويفتقر للقواعد الحزبية والتأثير السياسي ، بالإضافة لتعرضه للمتاعب المالية بالرغم من الدعم المالي الحكومي لصحيفته ( المبدأ) التي تتلقى ، وفقاً لما أشار حنا بطاطو إليه ، خمسة آلاف دينار من المخصصات التي تحت تصرف رئيس الحكومة قاسم، وقد كشف وزير الداخلية لهذه الفترة الزعيم أحمد محمد يحيى ، بعد سقوط نظام قاسم، أن الصائغ كان يتسلم مائة دينار شهرياً من وزارة الداخلية.

وكان الصائغ قد تخلى في آذار 1960 عن امتياز صحيفته( المبدأ) لتصبح الناطق بلسان حزبه ، وحصل على امتياز صحيفة أخرى سماها ( كفاح الشعب) لكنه لم يتمكن من إصدارها أبداً، وعانت صحيفته الأولى من انخفاض حاد في التوزيع، فاحتجبت في تشرين الثاني من العام نفسه، لتعود في 4 شباط 1961 إلى الأسواق كصحيفة أسبوعية ، وبقت تصدر بشكل متقطع حتى سقوط نظام قاسم.

وفي الشهرين الأخيرين من عام 1962 شهدت الصحافة العراقية حالتين من التعسف الحكومي ، الأولى عندما أغلق الحاكم العسكري العام في 26 تشرين الأول صحيفة ( الفجر الجديد) مع أن صاحبها طه الفياض كان نقيباً للصحفيين، لأنها هاجمت في 29 أيلول الانقلاب العسكري السوري ضد دولة الوحدة وانفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة، ووصفته بأنه (جزء من مؤامرة إمبريالية ضد العرب) وواصلت مهاجمة قادة الانفصال السوري حتى إغلاقها .

وفي الحالة الثانية سمحت السلطات العسكرية لعبد الرزاق البارح بإصدار جريدة بأسم ( الجمهورية) وحافظ طيلة أعدادها الثمانية والستين الباقية من عمر نظام عبد الكريم قاسم على نثر الشتائم ضدجميع القوى السياسية المعارضة للنظام ، ولم يعد البارح بعدها الى الصحافة.

وهكذا ، لم يبق في الشهور الأخيرة لنظام عبد الكريم قاسم سوى خمس صحف معروفة من أصل 40 صحيفة سياسية يومية وأسبوعية، وهي (البلاد ) و(صوت الأحرار) و (الأخبار) و(الزمان) و(الثورة) مع بضعة صحف أخرى دخل أصحابها عالم الصحافة مؤخراً ، وخضع جميعها للقبضة العسكرية بوزارة الدفاع وبشكل خاص مدير المكتب الصحفي لرئيس الحكومة، المقدم سعيد الدوري الذي كان يجهز الصحف بالبرقيات التي تعبر عن الولاء للزعيم قاسم، ومقالات جاهزة للنشر، وبقيت وزارة الإرشاد بلا حول ولا قوة بالرغم من أن وزيرها الجديد كان عسكرياً أيضا هو الزعيم إسماعيل العارف.

   

 

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

804 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع