قصة أول انقلاب عسكري في الوطن العربي والشرق الأوسط

  

قصة أول انقلاب عسكري في الوطن العربي والشرق الأوسط

   

استيقظ أهالي بغداد في الساعة الثامنة والنصف صباح ذلك اليوم الخريفي وكان الخميس 29 تشرين الأول عام 1936 على صوت هدير ثلاث طائرات من القوة الجوية الملكية العراقية نوع النسر (اوداكس) الإنكليزية الصنع، وهي تحوم في سماء بغداد وتلقي الوفاً من المنشورات المطبوعة بالآلات الكاتبة والتي تحمل بياناً موقعاً باسم (قائد القوة الوطنية الإصلاحية: الفريق بكر صدقي)، وجاء فيه:
أيها الشعب العراقي الكريم:
لقد نفذ صبر الجيش المؤلف من أبنائكم، من الحالة التي تعانونها من جراء اهتمام الحكومة الحاضرة بمصالحها وغاياتها الشخصية، دون أن تكترث لمصالحكم ورفاهكم، فطلبنا إلى صاحب الجلالة الملك غازي المعظم إقالة الوزارة القائمة، وتأليف وزارة من أبناء الشعب المخلصين، برئاسة السيد (حكمت سليمان) الذي طالما لهجت البلاد بذكره الحسن، ومواقفه المشرفة، وبما أنه ليس لنا قصد في هذا الطلب إلا تحقيق رفاهكم، وتعزيز كيان بلادكم، فلا شك أنكم تعاضدون إخوانكم أفراد الجيش ورؤسائه في ذلك، وتؤيدونه بكل ما أوتيتم من قوة، وقوة الشعب هي المعول عليها في الملمات. وأنتم أيها الموظفون لسنا إلا إخوان وزملاء لكم في خدمة الدولة التي نصبوا كلنا إلى جعلها دولة ساهرة على مصلحة البلاد وأهلها، عاملة على خدمة شعبكم قبل كل شيء، فلابد وأنكم ستقومون بما يفرضه عليكم الواجب الذي من أجله لجأنا إلى تقديم طلبنا إلى جلالة ملكنا المفدى لإنقاذ البلد مما هو فيه، فتقاطعون الحكومة الجائرة وتتركون دواوينها، ريثما تؤلف الحكومة التي ستفخرون بخدمتها، إذ ربما يضطر الجيش، بكل أسف، لاتخاذ تدابير فعالة لا يمكن خلالها اجتناب الأضرار بمن لا يلبي هذه الدعوة المخلصة مادياً وأدبياً. 
ولكي نفهم ما جرى في ذلك اليوم من تاريخ العراق الحديث نعود إلى اليوم السابق لهذا التاريخ، ففي ليلة الأربعاء أي الثامن والعشرين من تشرين الأول، وكانت وحدات من الجيش العراقي تستعد للقيام بالمناورات الخريفية المعتادة في جبال حمرين في المنطقة الواقعة بين خانقين وبغداد، زحفت وحدات من منطقة (قرة غان) و (بلد روز) قاصدة مدينة بعقوبة واحتلتها ثم قطعت خطوط الاتصال مع بغداد، واستولت على اسلاك البرق والهاتف، وفي الساعة السابعة والنصف من صباح الخميس زحفت القوات نحو العاصمة يقودها الفريق بكر صدقي قائد الفرقة الثانية في الجيش العراقي.


وهنا وقبل اكمال تفاصيل الحدث نقف لنعرف من هو الفريق بكر صدقي هذا الذي يزحف بقواته نحو العاصمة وترك مهمة توضيح مطالبه تقوم بها النسور المحلقة في سمائها ترمي تلك المنشورات التي أوجز فيها هذه المطالب.
ولد بكر صدقي شوقي ويس العسكري في قرية عسكر القريبة من مدينة كركوك عام 1886، تعلم ببغداد ثم درس في إسطنبول في المدرسة الحربية (الكلية العسكرية لاحقاً) وتخرج منها ضابطاً في الجيش العثماني، واشترك في كثير من معارك الحرب العالمية الأولى، والتحق بالجيش السوري بعد نهاية تلك الحرب عندما كان فيصل بن الحسين ملكاً على سوريا، وأقام في حلب في تلك الفترة وبعد الاحتلال الفرنسي لسوريا في 24 تموز 1920 وخروج فيصل منها وتنصيبه ملكاً على العراق عام 1921، التحق بالجيش العراقي الذي تأسس في 6 كانون الثاني من نفس العام، مثل غيره من الضباط العراقيين الذين كانوا في الجيش العثماني ومنح رتبة رئيس(رائد)، وأكمل دراسته العسكرية في مدرسة إنكليزية في الهند ثم بمدرسة الأركان الإنكليزية في (كامبرلي) في إنجلترا سنة 1932 وبلغ رتبة فريق ركن في الجيش العراقي في عهد الملك غازي، وكلف بقمع بعض حركات المعارضة المسلحة في شمال وجنوب العراق،

فبرز اسمه وقويت صلته بالملك الشاب غازي بن فيصل بن الحسين وكان قد آل اليه عرش العراق بعد وفاة أبيه عام 1933 .

كذلك توطت العلاقة بينه وبين السياسي البارز وقطب المعارضة حكمت سليمان الذي سيكون المحرك الأول لما يلي من الأحداث. هذا عن الفريق الركن بكر صدقي قائد الفرقة الثانية الذي كان يقود قواته نحو بغداد.

وبالعودة الى الحدث وما الذي دفع بكر صدقي الى هذا الزحف العسكري نحو العاصمة، نجد أن ما يجري هو انقلاب عسكري محركه الأساس السياسي العراقي عارف حكمت (اسم مركب) بن سليمان فايق بك المولود عام 1889 في بغداد لعائلة من أصل شركسي، ونشأ وتعلم القرآن وأكمل دراسته الابتدائية والثانوية فيها، ثم سافر إلى إسطنبول وبدأ دراسة الحقوق في جامعتها ثم ترك دراسة الحقوق بعد فترة وجيزة والتحق بالمدرسة الشاهانية (1)، ونال شهادتها عام 1911 ثم دخل بعدها مدرسة المشاة وتخرج منها ضابطاً احتياط في الجيش العثماني. برز حكمت سليمان وأخاه خالد سليمان في ميدان السياسة التركية مع جمعية الاتحاد والترقي في إسطنبول بعد قيام أخيهما الأكبر غير الشقيق محمود شوكت باشا بقيادة حركة 31 آذار وخلع السلطان عبد الحميد الثاني في عام 1909 لكن حكمت وخالد فقدا نفوذهما بعد مقتل أخيهما محمود شوكت الصدر الأعظم عام 1913، فعاد حكمت إلى بغداد بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. فساير الإنكليز واسندت اليه بعض المناصب الإدارية، ثم صار من بين الذين يتناوبون الكراسي الوزارية من غير أن يظهر بينه وبين الإنكليز أي خلاف سياسي فعد من اصدقائهم.


أنظم إلى حزب الإخاء الوطني الذي اسسه ياسين الهاشمي في (30 تشرين الثاني 1930) وأصبح عضواً في هيئته الإدارية وهنا بدأت مرحلة جديدة في حياته. فقد صار وزيراً للداخلية في وزارة الكيلاني في (20 آذار 1932) وفي عهدها حصل اضطراب في الأوضاع الداخلية، وكان رأي حكمت سليمان استخدام القوة، وفي اثناء الحركات العسكرية تعرف حكمت سليمان على الفريق بكر صدقي الذي كان يتولى قمع تلك الاضطرابات، وتوطدت علاقتهما بعد ذلك. حدث الخلاف بين حكمت وحزب الإخاء عند تأليف ياسين الهاشمي وزارته الثانية في (17 آذار 1935) عندما لم يكلف بوزارة الداخلية كما أراد. وكان حكمت يعتقد بأنه هو من فتح الطريق امام الهاشمي إلى الحكم عن طريق نشاطه لتحريض العشائر ضد الوزارات السابقة.
نشط حكمت سليمان لمقاومة الوزارة الهاشمية، ووحد جهوده مع (جماعة الأهالي ) (2) حيث وحد موقفهما من ياسين الهاشمي، زعمهما بأنه يحكم البلاد حكماً دكتاتورياً فأنظم الى جماعة الأهالي في بداية عام 1935 وسخر إمكانيات الجماعة لخدمة أهدافه الشخصية في الإطاحة بحكومة الهاشمي. وعمد إلى إيجاد التقارب بين جماعة الأهالي وبكر صدقي الذي ادعى بأنه اطلع على مبادئ الجماعة وأقسم اليمين امامه. كما سعى إلى تحريض بعض الساسة على مقاومة الوزارة. ويذكر ناجي شوكت (سياسي عراقي (1891ــ 1980)، شغل منصب رئيس وزراء العراق في العهد الملكي ووزير الداخلية) ما جرى بينه وبين حكمت سليمان خلال زيارة الأخير لتركيا في صيف 1935 بقوله: ((وفي ذات يوم سألني قائلاً: إلى متى ستبقى هنا؟ لما لا ترجع إلى بغداد، اجبته انني أفضل الابتعاد عن بغداد لأني لا أحب ان ازج نفسي في المشاحنات السائدة فيها ولا أومن بصحة تدخلات رؤساء القبائل في سياسة الدولة وتشبثهم بالهوسات (الأهازيج) لإسقاط الوزارات، فاذا به يقول: ان تدخل الرؤساء في امر الوزارات قد فات وانتهى وسيكون التدخل في هذه المرة بواسطة قوات أعظم. سألته وما هي هذه القوة؟ اجاب انها قوة الجيش فأدركت خطر الموقف وقلت له: دعوني مرتاحاً هنا، صافي البال أفضل أنى أمثل بلادي في منصبي هذا على العودة إلى الوطن والزج بنفسي في اتون السياسة)).
ويصف كامل الجادرجي حكمت سليمان بقوله: ((ولو ان حكمت قد فحص نفسه فحصاً دقيقاً قبل الانقلاب المذكور بمدة وجيزة لوجد ان عوامل نفسية متضاربة متنازعة، فمن ميل شديد إلى الثورة على الأوضاع الشاذة القائمة في العراق، وعواملها كثيرة ومعقدة جداً، ومن ميل شديد إلى استعمال القوة في الإصلاح، ومن اعجاب متناه بمصطفى كمال اتاتورك وثورته، ومن تقديس لحركة هتلر كواسطة غير مباشرة لتقديس الجندية الألمانية.. ومن اعتقاد جازم بقابلية المانيا لنهضة جبارة ومن ميل إلى الثورة الشيوعية، رغم كونه غير مؤمن بقابلية الروس)).
في حديث صحفي، لحكمت سليمان، نسب لنفسه وضع الخطة العسكرية لأسقاط الوزارة الهاشمية، قائلاً: ((أن رئيس الوزراء ياسين الهاشمي، فشل فشلاً تاماً، ولم تكن هناك وسيلة للتخلص منه، لأن البرلمان كان بأكمله يتألف من أنصاره، ولذلك كان الجيش هو الأمل الوحيد، وقد طلبنا من الجيش بعد أن وضعنا الخطة له، تنفيذ هذا الواجب في ثلاثة أيام، ولكنه اتم ذلك في أقل من ثلاث ساعات)).
بالرغم من تصريحات حكمت سليمان، التي يؤكد فيها انه هو الذي بادر إلى القيام بوضع خطة الانقلاب العسكري، فأنه لا يمكن الأخذ بصحة ذلك حسب العديد من المؤرخين، أذ أنه لم يكن ملماً بالقضايا العسكرية، ولكن يمكن القول من جهة أخرى، أن فكرة القيام بحركة انقلابية للإطاحة بوزارة الهاشمي كانت من وحيه ومبادرته، فهو مهندس الانقلاب، وهو الذي جلب بكر صدقي إلى الحلبة، وأما وضع الخطة العسكرية والتخطيط لها فهو من عمل بكر صدقي بالتعاون مع زميله عبد اللطيف نوري قائد الفرقة الأولى بالاتفاق مع كبار الضباط الذين اعتمد عليهم كما سنرى فيما يلي:

تنفيذ الانقلاب



قوات تابعة للفريق بكر صدقي تدخل بغداد يوم 29 تشرين الأول 1936

ولكي يمهد بكر صدقي لانقلابه بدأ الاتصال بمن يثق بهم من ضباط الجيش ففاتح الفريق عبد اللطيف نوري (1888 ــ1957) قائد الفرقة الأولى الذي كان ساخطاً على الوزارة لرفضها السماح له بالتداوي خارج العراق على نفقتها، وصديقه الحميم العقيد محمد علي جواد قائد القوة الجوية، واتفقوا على القيام بالحركة ووضعوا خطة التنفيذ اثناء القيام بالمناورات الخريفية المعتادة لقطعات لجيش في جبال حمرين. سارت الأمور بتكتم شديد، كانت خطة المناورات تقتضي إجراءها فوق (جبال حمرين)، بين خانقين وبغداد، وكان المفروض أن تكون الفرقة الأولى بقيادة الفريق عبد اللطيف نوري في موضع الدفاع عن بغداد. وبعد سفر رئيس اركان الجيش الفريق طه الهاشمي شقيق رئيس الوزراء ياسين الهاشمي بمهمة خارج العراق واناب عنه الفريق بكر صدقي كأقدم ضابط مما سهل على الانقلابين الأمور كثيراً.
كان موعد المناورات قد حدد يوم 3 تشرين الثاني ولغاية 10 منه، ولذلك فقد قرر صدقي تنفيذ الانقلاب خلال هذه المناورات، وجرى الاتفاق عل نقل الفرقة الثانية من (قرة تبة) إلى (قره غان) ليلة الثلاثاء 26/27 تشرين الأول على أن يجري تسلل وحدات الفرقة ليلة الخميس 28/29 إلى (بعقوبة) التي تبعد حوالي 60 كيلو متر عن بغداد. كما جرى الاتفاق على نقل الفرقة الأولى من (بلدروز) في لواء ديالى فجر يوم الخميس 29 تشرين الأول، لتلتحق بالفرقة الأولى في بعقوبة، وجرى نقل العتاد للمدفعية من السليمانية من قبل بعض الضباط المؤتمنين.
وفي يوم الثلاثاء 27 تشرين الأول، جرى لقاء قبل تحرك قوات الانقلاب بين بكر صدقي وعبد اللطيف نوري واتفقا على موعد التنفيذ وتفاصيل الخطة وجرى أعداد عدد من الطائرات بقيادة العقيد محمد علي جواد. وفي الوقت الذي كان فيه بكر صدقي يقوم بأعداد الخطة واطلاع الضباط عليها، اجتمع حكمت سليمان بجماعة الأهالي قبل الانقلاب بيومين في دار كامل الجادرجي، وفي هذا الاجتماع أخبر الجماعة بأن بكر صدقي وعبد اللطيف نوري اتصلا به أي ـ حكمت ــ وأخبراه بتفاصيل الخطة وموعد الزحف الذي سيكون يوم 29 الأول 1936، وفي الاجتماع نفسه، أعد حكمت، وجعفر أبو التمن، وكامل الجادرجي، ومحمد حديد، البيان الأول الذي سيوزع على الشعب، ويوقعه بكر صدقي، كقائد لـ (القوة الإصلاحية)، وهو الاسم الذي اصطلح على القوة التي تنفذ الانقلاب، والبيان الثاني الذي سيوقعه بكر صدقي وعبد اللطيف نوري والذي سيقوم حكمت سليمان، بتقديمه إلى الملك. وبذلك أصبح كل شيء جاهز للانقلاب.
وبعد زحف هذه القطعات صوب بغداد كما أسلفنا وتحليق الطائرات في سمائها، ذهب حكمت سليمان إلى القصر الملكي لتقديم رسالة الجيش الموقعة من قبل بكر صدقي وعبد اللطيف نوري إلى الملك، وسلم الرسالة التي أطلق عليها اسم (رسالة الجيش) إلى رئيس الديوان الملكي، رستم حيدر في قصر الزهور وطلب منه إيصالها الملك غازي ثم غادر القصر. وذلك في الساعة التاسعة والنصف، وكان رستم حيدر قد قدم نسخة من المنشور الذي القته الطائرات إلى الملك غازي، فبدت امارات الانفعال الشديدة على وجهه، وأمر باستدعاء ياسين الهاشمي ونوري سعيد وزير الخارجية وجعفر العسكري وزير الدفاع والسفير البريطاني وقد حضر إلى القصر كل من:

الهاشمي والسعيد والعسكري والسير ارشيباك كلارك ووكيله الميجر يونك ومستشار السفارة الكابتن هولت، وبادر الملك بالحديث قائلاً:(لاشك انكم اطلعتم على محتوى المنشور الذي القته الطائرات، ولكن الشيء الجديد في الموقف أن حكمت سليمان قد حمل له الآن رسالة يبين فيها قائد الانقلاب بأنه اذا لم يتفق معهما الملك فإن بغداد ستقصف بالقنابل بواسطة الطائرات بعد ثلاث ساعات ثم وصف الملك للسفير ظروف العاصمة غير المشجعة وأوضح له بأنه لن يوافق على أية فكرة تدعو إلى المقاومة). وتحدث السفير البريطاني مخاطباً الملك غازي وسأله أن كان على علم مسبق بالانقلاب، فنفى الملك ذلك. وتحدث ياسين الهاشمي موجهاً سؤاله للملك فيما إذا كان لا يزال يثق بالوزارة فإن الوزارة مستعدة لمجابهة الانقلابين وإلا فإنه سيقدم استقالة حكومته. اما نوري السعيد فقد دعا السفير البريطاني إلى التدخل العاجل لقمع الانقلاب، لكن السفير أبلغه أن بريطانيا لا تود التدخل في الأمور الداخلية، وفي حقيقة الأمر أن بريطانيا كانت تريد التخلص من وزارة الهاشمي من جهة، وخوفها من حدوث ما لا يحمد عقباه إذا ما حدث التدخل وفشل في قمع الانقلاب.
أدرك السفير موقف الملك الذي يستند على أساس أن المقاومة ستكون عديمة الفائدة، وانه حبذ استقالة الوزارة، وبما أن البريطانيين قد فوجئوا بالانقلاب كما أوضحت وثائقهم التي نشرت فيما بعد، لذلك لم يلعبوا سوى دور ضئيل في حل الصراع، تمثل في مشورتهم للحكومة بمنع زحف الجيش إلى العاصمة. أدى موقف الملك هذا إلى اتهامه بمعرفة الانقلاب مسبقاً فقد ذكر السفير في تقريره الذي بعثه الى حكومته في (2 تشرين الثاني 1936) ما يلي:] لقد كنت اراقب الملك غازي وهو يتناقش مع وزرائه في صباح 29 تشرين الأول بدقة وأنا متأكد من قولي بأني اقتنعت بأن الملك كان على علم بالانقلاب [، ويؤيد هذا الرأي الدكتور لطفي جعفر فرج في كتابه (الملك غازي ودوره في سياسة العراق في المجالين الداخلي والخارجي 1933 ــ 1939). ويذكر ان الملك كان عارفاً بالانقلاب. وأن بكر صدقي استغل تذمره من سياسة الهاشمي ورغبته في تغيير الوزارة ففاتحه بعزمه على تنفيذ الانقلاب العسكري عندما تبدأ مناورات الجيش السنوية في (قرة غان ــ قرب بلدروز). وقد جرت هذه المفاتحة في يوم (23 تشرين الأول 1936) حيث أعلن الملك عن ارتياحه لذلك الخبر، وابلغ بكر صدقي ان نجاحه وجماعته سيكون مدعاة لدخولهم سجل البطولة العسكرية، وانه سيساعدهم بقدر استطاعته، وطلب الملك التكتم الشديد ودعا لهم بالتوفيق، راجياً عدم اطلاع أحد على ما دار بينهما ضماناً لنجاح الحركة وفسح المجال له للقيام بالدور المناسب. ويذهب هاري سندرسن طبيب العائلة المالكة العراقية وأول عميد لكلية الطب في بغداد ويعد مؤسساً لهذه الكلية وقد ساهم بحكم قربه من العائلة المالكة في التأثير قراراتها. الى الرأي نفسه بقوله:
" لم أكن لأشك بأنه كان على علم مسبق بالحادث". لكن الأمر لم يخلو من عزم بعض من أعضاء في الوزارة القيام بنوع ما من المقاومة، فقد أرسل وزير الدفاع جعفر العسكري مجموعة من البرقيات إلى كبار الضباط تحثهم على الابتعاد عن اتخاذ أي إجراء لحين لقائه بهم، في حين صدرت الأوامر لكتيبتين بالتحرك من الديوانية صوب العاصمة، ولعل هذا الأجراء كان بمقدوره احباط الانقلاب، إلا ان وزير الدفاع جعفر العسكري كان له رأي آخر.
ومهما يكن من أمر وبعد انقضاء الساعات الثلاث التي حددها الانقلابين لاستقالة الوزارة وتشكيل وزارة جديدة برئاسة حكمت سليمان، ولما لم يتم ذلك فقد حلقت في سماء بغداد ثلاث طائرات في الساعة الحادية عشرة والنصف صباحاً بقيادة محمد عي جواد والقت أربع قنابل سقطت الأولى أمام مدخل مجلس الوزراء ووزارة الداخلية، أودت بحياة شخص واحد وجرح ستة اشخاص، وسقطت الثانية أمام دائرة البريد بالقرب من دار ياسين الهاشمي، والثالثة في نهر دجلة، والرابعة أمام بناية البرلمان، وقد عجل القاء القنابل في استقالة وزارة ياسين الهاشمي، وأوضح الهاشمي في كتاب استقالته:
"إن قلة التجربة وبعض الأطماع قد طوحت بالمسؤولين عن الدفاع عن هذه البلاد أن يقدموا على حركة اعتقد انها تؤدي إلى نتائج غير محمودة".
بعد استقالة الهاشمي عهد الملك غازي الى حكمت سليمان بتأليف الوزارة الجديدة، ولكن هذا التـأليف لم يثن بكر صدقي عن دخول العاصمة على رأس الجيش، فأقنع جعفر العسكري وزير الدفاع في حكومة الهاشمي المستقيلة الملك بإرسال كتاب إلى بكر صدقي لمنع دخوله وقطعاته الى مدينة بغداد، وأخذ العسكري على عاتقه إيصال كتاب الملك إلى بكر صدقي رغم تحذيره من مخاطر هذا العمل. فأتصل ببكر وأبلغه أنه آت لمقابلته وانه يحمل رسالة الملك، خرج العسكري للقاء بكر صدقي والجيش الزاحف نحو بغداد ولم يكن مسلحاً سوى بمسدسه الشخصي، كانت فرصة بكر قد حلت للتخلص من جعفر العسكري ــ صهر نوري السعيد ــ والرجل القوي في الوزارة، فرتب الأمر مع عدد من ضباطه لقتله. وعندما توجه العسكري لمقابلة صدقي وجد في استقباله النقيب (إسماعيل عباوي) مع عدد من الأفراد، وقام عباوي على الفور بتجريد جعفر من سلاحه وأجبره على ركوب السيارة منفرداً من دون حمايته، ورافقه كل من النقيب (شاكر القره غلي) والرائد (طاهر محمد). وعندما وصلت السيارة التي تقلهم إلى نهر الوزيرية توقفت السيارة ونزل منها الجميع وأرسل عباوي سائقه العريف (إبراهيم خليل) ليخبر بكر صدقي بمقدم العسكري، ولم تمض سوى دقائق حتى وصل الضباط (جمال جميل) و (جمال فتاح) و(محمد جواد أمين) و (لازار برودس) حيث شهروا مسدساتهم على جعفر الذي خاطبهم بـ "لا ولدي لا..." وأطلقوا عليه الرصاص فقتل في الحال ودفن في نفس المكان.
واصلت قوات الانقلابين الزحف وأصبحت على أبواب العاصمة في الساعة الرابعة بعد الظهر واحتلت سدة ناظم باشا المحيطة بالعاصمة من جانب الرصافة، ووضعت المتاريس ونصبت المدافع، وفي الساعة الخامسة والنصف بدأت القطعات العسكرية تجتاز الشارع العام تتقدمها القوات الآلية والفريق بكر صدقي، وفي الساعة السادسة شكلت الوزارة الانقلابية بعد دخول قوات الجيش إلى بغداد وصار حكمت سليمان رئيساً للوزراء، اما بكر صدقي فقد احتفظ لنفسه بمنصب رئيس اركان الجيش، بعد إحالة طه الهاشمي الذي كان يشغل المنصب على التقاعد، ثم منع من العودة إلى العراق. واسندت وزارة الدفاع الى الفريق عبد اللطيف نوري. وفي اليوم التالي جرى إبلاغ ياسين الهاشمي، ونوري السعيد، ورشيد عالي الكيلاني أن الحكومة الجديدة لن تكون قادرة على ضمان سلامتهم في حال بقائهم في البلد، فغادر نوري إلى مصر وغادر الكيلاني والهاشمي إلى بيروت، وتبعهم عدد من انصارهم، توفي الهاشمي إثر إصابته بنوبة قلبية في (12 كانون الثاني 1937) في بيروت ودفن في دمشق، إلا أن نوري السعيد ورشيد عالي عادا لاحقاً بعد سقوط حكومة الانقلاب ليلعبا دوراً محورياً في الحياة السياسية العراقية. "وكان رئيس الوزراء الذي أطاح الانقلاب بحكومته ياسين الهاشمي (1882 ــ 1937)، الذي ألف وزارته في 17 آذار سنة 1935، وكانت من أقوى الوزارات التي شهدها العراق، وقد مضت عليها في الحكم ثمانية عشر شهراً تقريباً، لا تزال قوية وماضية في تنفيذ سياستها باطمئنان، وتتطلع إلى المستقبل بتفاؤل، ولا شك أنه كانت هناك أخطاء كبيرة وأساءت استعمال وتقصير، ومع ذلك فقد تم أيضاً تحقيق الكثير من المنجزات المهمة ففي عهد وزارة الهاشمي، وضعت (الخطة الخمسية لمشروعات التنمية) و(خطة مشروعات السنوات العشر)، ونفذت في الجهاز الحكومي أوسع عملية تطهير عرفتها الدولة حتى ذلك الوقت."

نهاية بكر صدقي وسقوط حكومة الانقلاب

مهد حكمت سليمان السبل امام بكر صدقي لأقامه دكتاتورية عسكرية، لكن الأمر لم ينجح وذلك لكثرة المعارضين لسياستهما وبخاصة الكتلة القومية في الجيش بقيادة المقدم صلاح الدين الصباغ، التي دبرت اغتيال بكر صدقي بعد مرور تسعة أشهر ونصف على قيام الانقلاب وذلك في (11 آب 1937) عندما كان مسافراً على رأس وفد عسكري إلى تركيا لحضور المناورات العسكرية التركية، وغادر بغداد بالطائرة، وكان برفقته العقيد محمد علي جواد قائد القوة الجوية، وعندما وصل إلى الموصل وانتقل إلى حديقة مطعم المطار العسكري في منطقة الغزلاني، وبينما كان جالساً مع العقيد محمد علي جواد والمقدم الطيار موسى علي آمر سرب الطيران في الموصل، يتجاذبون أطراف الحديث، تقدم نائب العريف (محمد عبد الله التلعفري) ليقدم لهم المرطبات وكان يخفي مسدساً تحت ملابسه وعند وصوله قرب بكر صدقي اخرج مسدسه وأطلق النار عليه فقتله في الحال، ثم أطلق النار على قائد القوة الجوية وقتله هو الآخر. وفي صباح يوم الخميس 21 آب نقلت الجثامين إلى بغداد وجرى لهم تشييع رسمي ثم دفنا في مقبرة باب المعظم.
لاحقاً ذكر الصباغ في مذكراته سبب قتل صدقي هو:] كان بكر صدقي من القائلين لا عروبة في العراق، أثار ذلك نقمة الجيش عليه، ولما قتل الجيش بكراً انعتق من فكرة العراقية الضيقة وقال بالقومية العربية فاطمأن الشعب إلى جيشه [. وبدون داعمه العسكري، فقد حكمت سليمان أي فرصة للبقاء في الحكم، فأصدر الملك قراره بعد أسبوع بتغيير الحكومة وحل المجلس النيابي وانتخاب مجلس جديد. فقدم حكمت سليمان استقالة وزارته في (17 آب 1967) وبذلك سقطت حكومة الانقلاب. وبعد أن تمت محاكمة حكمت سليمان حُكم عليه بالسجن خمسة أعوام. ذكر الطبيب البريطاني سندرسن في كتابه (عشرة آلاف ليلة وليلة)، أنه زاره في السجن حيث أودع كمجرم عادي في ضيق شديد ووجده في غاية الضعف وفي حالة قلق وخيمة، وقد نقص وزنه كثيراً وساءت حالته الصحية، فأوصى بنقله إلى المستشفى ليتم علاجه، ثم ساءت حالته في الصيف فنقل بناءً على توصية الطبيب إلى منطقة بنجوين في جبال كردستان تحت حراسة مشددة. توفي حكمت سليمان في ناحية الأعظمية في بغداد في (16 حزيران 1964) ودفن هناك.

كان الانقلاب نقطة تحول رئيسية في تاريخ العراق الحديث، فقد تسبب بخرق الدستور، وفتح الباب امام التدخل العسكري في السياسة، كان الانقلاب العسكري الخطوة الأولى للأحداث في أيار 1941 بعد تدبير ثورة ضد سيطرة البريطانيين على العراق (ثورة رشيد عالي الكيلاني)، التي انتهت بعد إعادة احتلال بريطانيا للعراق واعدام صلاح الدين الصباغ ورفاقه من قادة الجيش العراقي، وقد اوجد مقتل جعفر العسكري، رغم كونه أمراً لم يقصده حكمت سليمان، عداءً شخصياً بين نوري وحكمت عكر صفو السياسة العراقية للسنوات الأربع القادمة.
وفي الختام فأن الجيش العراقي لا يختلف كثيراً عن الجيوش العربية التي أصبحت ذات مساس مباشر بالعملية السياسية والحكم في الأنظمة العربية، أذ أن الطموحات الشخصية للقادة العسكريين، فضلاً عن أن القادة العسكريين جزء منهم منخرط في القيادات السياسية، زيادة على دور وتأثير المخططات الدولية والإقليمية، فقد ارتبط دور الجيش بالانقلابات العسكرية التي أوصلت إلى الحكم شخصيات وأحزاب وجماعات معينة، فكان انقلاب بكر صدقي باكورة مرحلة الانقلابات في العراق والوطن العربي والشرق الأوسط.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ــ المدرسة الملكية الشاهانية: تعد هذه المدرسة من المدارس العثمانية المهمة في ذلك الوقت، وهي خاصة بتخريج الموظفين الإداريين حيث يعين المتخرج منها بعد ثلاث سنوات دراسية بوظيفة قائم مقام في أحد الأقضية أو ما يعادله وقد تخرج منها عدد من السياسيين العراقيين في العهد الملكي.
2 ــ جماعة الأهالي: جمعية سياسية عراقية أسست سنة 1932 في بغداد، تكونت من فئة متعلمة من خريجي المعاهد العليا، ومن عناصر وطنية تطالب بالعناية بمصالح الأهالي أي الشعب، انطلقت الجماعة من صحيفة الأهالي التي بدأت بالصدور سنة 1932، ومن أشهر أعضائها كامل الجادرجي وجعفر أبو التمن ومحمد حديد وغيرهم.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

597 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع