شيء من تاريخ القسوة والدم في العراق الأمير عبد الإله من وصي على العرش وولي للعهد إلى جثة مقطعة الأوصال في شوارع بغداد...
بغداد والمسماة أيضاً "مدينة السلام"، وفي الجانب الغربي من نهر دجلة "الكرخ" في يوم الإثنين الرابع عشر من تموز من العام 1958، كانت هناك جثة لرجل لا يسترها أي شيء ربطت بحبال غليظة، تتدلى من شرفة "فندق الكرخ"، يتجمع تحتها مجموعة من الفتيان والشباب والأطفال وهم يتراقصون ويتصايحون، كان بأيدي بعض منهم سواطير وسكاكين، وربما كانوا يمتهنون القصابة، فسرعان ما بدأوا بتقطيع الجثة وفصل أعضائها عنها.
المشهد هذا ليس مشهداً مأخوذ من أحد أفلام الرعب في السينما، إنما كان واقعاً حدث في هذا التاريخ وفي هذه المدينة التي لم تعرف بعده السلام. ولنبدأ من البداية، الجثة المعلقة من على شرفة الفندق كانت جثة الأمير عبد الإله ولي العهد والوصي على عرش العراق لمدة أربعة عشر عاماً خلت، أبن الملك علي الهاشمي آخر ملوك المملكة الحجازية، أبن الشريف حسين قائد "الثورة العربية الكبرى".
ولد الأمير عبد الإله يوم الاثنين 24 تشرين الثاني 1913 في مدينة الطائف في الحجاز في بيت جده لأمه الملكة نفيسة، وبعد مرور ستة أشهر على ولادته وعلى عادة أهلها أرسل الى مكة المكرمة وفي الشهر السابع وضع على باب الكعبة وطيف به داخلها. وتقرر أن يعيش الطفل عبد الإله في قصر الخاصكية المطل على الحرم المكي بين الصفا والمروة، وبعد أن بلغ الخامسة من عمره، رافق والدته وشقيقاته الخمسة إلى الشام للالتحاق بعمه الأمير فيصل بن الحسين حيث وصلت الملكة نفيسة مع بناتها وولدها إلى دمشق قبل مدة قصيرة من تتويج الأمير فيصل ملكاً على سوريا عام 1918. وبعد أن تمت مراسيم التتويج التي جرت في ساحة الشهداء في دمشق في شهر تشرين الأول عام 1918 قرر الملك فيصل أن يُلحق أبن أخيه الأمير عبد الإله بإحدى المدارس السورية.
وبقي عبد الإله في سوريا مدة بقاء عمه الملك فيصل ملكاً عليها والتي استمرت سنة ونصف، حيث قرر الملك فيصل أعادة عائلته وعائلة أخيه الأمير علي إلى المدينة المنورة، بعد أن تيقن من الصدام بينه وبين القوات الفرنسية التي قررت إخضاع سوريا لسيطرتها.
وصلت العائلتين إلى المدينة المنورة وبعد إتمام زيارة المسجد النبوي تقرر رجوعهم إلى مكة، وهكذا عادت عائلة الأمير علي بن الحسين إلى مكة للعيش فيها تحت رعاية الملك حسين ملك مكة المكرمة والحجاز طيلة توليه عرش المملكة التي امتدت عشر سنوات.
بعد اشتداد النزاع الهاشمي السعودي قرر الملك علي بن الحسين إخراج عائلته من ضمن الكثير من العوائل الحجازية من مكة لإبعادهم عن ويلات الحرب التي باتت وشيكة الوقوع بين جيش آل سعود والجيش الحجازي، فغادرت العائلة مكة المكرمة إلى مصر، وبعد بقائها في مصر فترة من الزمن غادرت مصر متوجه إلى المملكة الأردنية الهاشمية لتكون تحت رعاية الملك عبد الله بن الحسين الذي خصص لها قصر الحسين لإسكانها. وبعد ثلاثة أشهر من وصول الملك علي بن الحسين إلى العراق بعد أن تنازل عن عرش مملكة الحجاز يوم 15 كانون الأول 1925. طلب الملك فيصل الأول الذي توج ملكاً على العراق في 23 آب 1921 في ساحة القشلة ببغداد، مجيء العائلة إلى العراق والعيش إلى جانب أبيهم.
تلقى الأمير عبد الإله منذ صغره وحتى الكبر تعليمه في أكثر من بلد بسبب تنقل عائلته من بلد إلى آخر، فخلال وجوده في سوريا تعلم مبادئ القراءة والكتابة التي تناسب عمره الذي لم يتجاوز 6 سنوات، وبعد عودته إلى مكة المكرمة قرر جده الشريف حسين أن يواصل حفيده تعليمه فعهد إلى القائد العسكري محمود خلوصي وهو ضابط ركن كفوء في الجيش العثماني أن يتولى تعليمه مبادئ العسكرية، والعلوم الدينية، فيما تولى الدكتور خليل الحسيني أحد أطباء الثورة العربية تعليمه مبادئ اللغة العربية والجغرافية. وأثناء وجوده في الأردن تولى تعليمه الدكتور جميل التوتونجي العلوم العامة والفلسفة ومبادئ اللغة الفرنسية. عند مجيء الأمير عبد الإله إلى بغداد عهد عمه الملك فيصل الأول إلى نخبة من كبار العلماء والأساتذة العراقيين مهمة تدريسه، فعهد إلى يوسف العطا وهو من كبار علماء العراق تدريسه مبادئ الفقه الإسلامي، بينما تولى الأستاذ نعمان الأعظمي تدريسه قواعد اللغة العربية.
كان الملك علي بن الحسين معروفاً عنه أنه كان عالماً بأحكام الشريعة الإسلامية وشديد التمسك بأهداب الدين، لذلك فقد حرص على أن يدفع بولده عبد الإله ويشجعه لإكمال دراسته في الشريعة الإسلامية فأرسله إلى القدس عام 1928 لإكمال دراسته في هذا المجال، غير أنه لم تكن لدى عبد الإله هذه الرغبة، فلم يستمر بمواصلة دراسته في القدس ورجع إلى العراق. وبعد عودته من القدس إلى بغداد بقي فيها فترة من الزمن ثم توجه إلى مصر للالتحاق بكلية فكتوريا في الإسكندرية لدراسة اللغة الإنكليزية وآدابها ودراسة العلوم المصرفية. بقي عبد الإله في هذه الكلية لمدة ثلاث سنوات استطاع خلالها أن يوثق علاقته بالعديد من الطلبة الذين كانوا يدرسون فيها، إلا أنه لم يستطيع مواصلة الدراسة في كلية فكتوريا لصعوبتها فعاد إلى العراق عام 1935 وعين موظفاً في وزارة الخارجية.
كان عبد الإله محباً للرياضة بشكل كبير وعرف برعايته للنوادي الرياضية وتشجيعه للشباب لممارسة الرياضة. ومحباً كذلك للفروسية والصيد، وكان يهوى جمع التحف الثمينة. كان الأمير عبد الإله رجلاً متعدد الهوايات إلا أن أهم هواياته التي أبدع فيها هي رياضة الفروسية التي أعتاد على ممارستها صباح كل يوم بين الحقول والبساتين، وعرف بحبه للخيول العربية الأصيلة، وكان يعرف أنسابها وأصولها بشكل جيد، وأقتنى أفضل أنواع الخيول واهتم بالعناية بها وأشرف على تدريبها بواسطة مدربين أكفاء ماهرين وأشراكها في السباقات الأسبوعية، فضلاً عن ذلك كان له مقصورة خاصة في سباق الخيل (الريسز) في منطقة المنصور التي يتردد عليها برفقة الملك فيصل الثاني، كما كان له عضوية في أحد الأندية البريطانية الخاصة هو نادي صيد الثعالب، وهذه الرياضة تجرى على ظهور الخيل. وكان يتسابق مع بعض الشخصيات التي تجيد ركوب الخيل أمثال اللواء عبد الله عبيد المضايفي والذي كان مرافقاً خاصاً له وغيره من الشخصيات. وكان يقود سيارته المكشوفة على وجه الخصوص بنفسه والتجول في شوارع بغداد، كما يجيد ركوب الدراجة (الموتوسيكل) إجادة تامة، ويحب ممارسة رياضة التجديف في فصل الصيف. وكان يجيد لعبة التنس ويزاولها ثلاث مرات في الأسبوع.
بعد ان توفي الملك فيصل الأول في سويسرا يوم 7 أيلول عام 1933 بسبب انسداد الشرايين حسب ما جاء في البيان الرسمي الذي أذيع في اليوم التالي. وفي ذلك الصباح 8 أيلول توجه رئيس الوزراء آنذاك رشيد عالي الكيلاني، والوزراء وبعض الأعيان والنواب إلى القصر الملكي وقدموا التعازي إلى الأمير غازي، وطلبوا منه بصفته ولياً للعهد أن يؤدي اليمين الدستوري التي نص عليها القانون الأساسي (الدستور) تمهيداً لمبايعته ملكاً على عرش المملكة العراقية خلفاً لوالده،
ثم أعلن رئيس الوزراء الكيلاني تتويجه ملكاً باسم الملك غازي الأول. أثار بقاء الملك غازي الذي كان يتمتع بشعبية كبيرة لدى العراقيين وطموح كبير على رأس السلطة المشكلات في وجه بريطانيا، وأصبح يهدد مصالحها في العراق والمنطقة فكان التخلّص منه أمراً ضرورياً وحتمياً في نظر بريطانيا،
في صباح الرابع من أبريل/نيسان 1939، نعى مجلس الوزراء الملك غازي على إثر اصطدام سيارته التي يقودها بنفسه بالعمود الكهربائي الواقع بالقرب من قصر الحارثية (الرحاب) القريب من قصر الزهور الذي يقيم فيه، فهوى العمود على السيارة وأصاب رأس الملك إصابة بليغة أودت به. وصدر البلاغ الرسمي الموقع من خمس أطباء بسبب الوفاة، وكتب القاضي خليل المفتي محضر التحقيق وسبب الحادث الذي هو القضاء والقدر.
وبذلك آل العرش إلى ولده الوحيد فيصل من زوجته الملكة عالية، والذي كان آنذاك في الرابعة من عمره، (ولد في بغداد يوم 2 مايس 1935). وبعد أن عقد مجلسي الأعيان والوزراء جلسة مشتركة يوم الخميس 6 نيسان 1939 والاستماع لشهادة الملكة عالية شقيقة عبد الإله وزوجة الملك غازي وأيدت الشهادة الأميرة راجحة شقيقة الملك غازي، بأن الملك أكد في مناسبات عدة بأنه في حالة حدوث أي شيء فأن أبن عمه الأمير عبد الإله هو الذي سيكون وصياً على أبنه فيصل.
قرر المجلس تنصيب الأمير عبد الإله الذي لا يحمل الجنسية العراقية حتى يوم تنصيبه لأنه يعتبر نفسه لايزال ولي عهد عرش مملكة الحجاز. كان الأمير عبد الإله في السابعة والعشرين من عمره عندما نصب وصياً على العرش، ومن المرجح أن الساسة الكبار أمثال نوري السعيد ورشيد عالي الكيلاني وغيرهم، شعروا بإمكانية السيطرة عليه لكونه شاباً بهذا العمر. عبد الإله إنساناً بسيطاً طيباً اختاره القدر أن يكون حاكماً في بلد يموج بالمتناقضات التي اعجزت عمه فيصل الأول من قبل، دون ان يهيأ لهذا المنصب، وكان قدره أن يأتي للحكم على أثر حادثة في غاية الغرابة والغموض، وما أكثر الغرائب التي ستنهي حياته كشاب وطني عروبي متحمس فيما بعد. ولعل من الممكن حصر الخطوط الرئيسة التي حددت سيرة عبد الإله طيلة فترة الوصاية وولاية العهد، والتي أثرت في حياته وفي طرق تفكيره وتقديره ومعالجته للأمور وهي: ثقافته السياسية البسيطة، وتجربته المعدومة في ممارسات الحكم، ثم أمله في العودة إلى عرش الحجاز الذي ورثه عن أبيه والذي تحول إلى العمل على عرش سوريا وكذلك العقداء الأربعة الذين وقفوا خلفه حتى استلم الوصاية على العرش دون عمه الأمير زيد أصغر أبناء الشريف حسين، والأخ غير الشقيق للملك فيصل الأول، المرشح الأقوى والأصلح، والذي كان ولي عهد المملكة السورية العربية عندما كان أخيه فيصل ملكاً عليها. وكان متزوجاً من امرأة تركية وطبقاً للبعض كان مرفوضاً بسبب سلوكه الاجتماعي المتحرر وميوله التركية التي كانت محط شك الساسة العرب، وطبقاً لآخرين كان مرفوضاً كونه جد مستقل بحيث لا يمكن تطويعه.
حركة مايس 1941 من أهم الأحداث التي واجهت عبد الإله
اتسمت السنة الأولى من وصاية الأمير عبد الإله على العرش باستقرار نسبي، إلى حد ما بسبب تزامن مؤقت للمصلحة بين نوري السعيد والضباط القوميين في الجيش العراقي، والذين كانوا من جيل الضباط الشباب ذوي الاتجاهات القومية العربية، وكانت الدافع الرئيسي وراء دخولهم المعترك السياسي، وتوجههم صوب سياسة أكثر عروبية.
وبحلول عام 1940 برز من بينهم مجموعة من ستة ضباط على الأقل منهم العقداء الأربعة الرئيسين لهذه المجموعة وهم:
صلاح الدين الصباغ، ومحمد فهمي سعيد، ومحمود سلمان، وكامل شبيب، وهم المشاركين الأساسيين في أهم حدث واجه عبد الإله طيلة وصايته على العرش، والمعروف بـ (حركة رشيد عالي الكيلاني) أو (ثورة مايس 1941). وذلك بعد أن شهدت أوربا تطورات كبيرة عام 1940، منها انهيار فرنسا ودخول إيطاليا الحرب إلى جانب ألمانيا في 10 حزيران. وقد أدت هذه الأحداث إلى تحول الرأي العام العراقي عن بريطانيا وساد الاعتقاد بأن بريطانيا ستسقط بعد أن سقطت فرنسا، ومما ساعد في هذا التحول فشل الجهود التي بذلت في صيف 1940 للحصول على تعهد من بريطانيا حول القضية الفلسطينية والآمال في تحرير سوريا، فقد فشلت بعثة الكولونيل ستيوارت فرنسيس نيوكمب ممثل وزير المستعمرات البريطاني اللورد لويد جورج في الاستجابة للشروط العراقية مقابل تعهد العراق للوقوف مع بريطانيا وهي: الإصرار على إيجاد حل للقضية الفلسطينية يتضمن "تحديد تاريخ لتأسيس حكومة عربية مستقلة في فلسطين" وإصدار بيان بريطاني يؤيد تحقيق مشروع اتحاد عربي يضم العراق وفلسطين وشرق الأردن وأن أمكن المملكة العربية السعودية.
في هذه الظروف التي تميزت بازدياد المشاعر القومية المعادية لبريطانيا أبلغ (بازل نيوتن)، السفير البريطاني، الحكومة العراقية بدخول إيطاليا الحرب إلى جانب المانيا، وطلب منها أن تقرر موقفها من ذلك. فعقد مجلس الوزراء اجتماعاً برئاسة الوصي عبد الإله، الذي كان يريد الاستجابة لكل طلبات بريطانيا دون تردد أو مناقشة يؤيده في ذاك نوري السعيد وزير الخارجية الذي أصر على وجوب قطع العلاقات مع إيطاليا، كما قطعت مع المانيا من قبل. لكن مجلس الوزراء أصدر قراراً في 17 حزيران 1940 أبلغه إلى السفير البريطاني وفيه أن الحكومة العراقية متمسكة بمعاهدة التحالف المعقودة بين الدولتين، إلا أنها تتريث في الوقت نفسه في أمر قطع العلاقات الدبلوماسية بينها وبين إيطاليا. وقرر العراق استطلاع وجهة النظر التركية بالنسبة لتطورات الموقف الدولي وإيفاد ناجي شوكت وزير العدل بهذه المهمة ومعه نوري السعيد وزير الخارجية.
ولما لاحظت بريطانيا تطور الأحداث في غير صالحها منذ امتناع الحكومة العراقية عن قطع علاقتها مع إيطاليا إلى سفر الوفد العراقي إلى تركيا. أبلغت الحكومة العراقية في 21 حزيران بأنها قررت إنزال وحدات من الجنود البريطانيين في البصرة للتوجه إلى حيفا، عن طريق بغداد الموصل، فأجابت الحكومة العراقية في 16 تموز بأن لا مانع لديها من نزول القوات بشرط ألا تبقى مدة طويلة في العراق وألا تقام فيه مخيمات للجيش. استمرت بريطانيا بالضغط على العراق واخذت تثير الاحتجاجات والتهم ضد حكومة الكيلاني وأزداد غضبها لاسيما بعد رحلة ناجي شوكت الثانية إلى تركيا لمقابلة السفير الألماني هناك، فأشارت على الوصي بإقالة وزارة الكيلاني، فأرسل عبد الإله إشارة إلى رئيس الوزراء بأن استقالة الوزارة مرغوبة لعدم الانسجام الوزاري ووجود خلافات بين وزير الخارجية نوري السعيد ووزير العدل ناجي شوكت. وأخذ الوصي يحشد أنصاره لمقاومة وزارة الكيلاني وأسقاطها، فأجتمع برئيس أركان الجيش ومدير الشرطة العام وأوصاهما بعدم أطاعه الأوامر التي تصدرها أليهما الوزارة خلافاً للقوانين المرعية والدستور. دفعت مواقف عبد الإله من وزارة الكيلاني العقداء الأربعة إلى إيفاد العقيد محمود سعيد سلمان لمقابلة الوصي وإبلاغه بأن الجيش مصمم على بقاء الوزارة فأستسلم الوصي للقوة ووافق على بقاء الوزارة، لكنه عمل على حشد المعارضة في المجلس النيابي لأسقاطها، فشن النواب المعارضون في جلسة 30 كانون الثاني 1941 حملة منظمة طالبت رئيس الوزراء بالاستقالة، فكان رد الكيلاني وأعضاء حكومته كتابة أرادة ملكية بحل مجلس النواب،
وعندما عرضت على الوصي رفض توقيعها، وغادر إلى جهة مجهولة عرفت بعدئذ بوصوله إلى مدينة الديوانية. اجتمع الكيلاني بقادة الجيش وأعلن عزمه على الاستقالة، وفي يوم 31 كانون الثاني قدم الكيلاني استقالته إلى الوصي في الديوانية، وتضمنت اتهاماً للوصي بعرقلة أعمال الوزارة استجابة لبعض الأيدي والمصالح الأجنبية.
يبدو أن الأمير عبد الإله الوصي على العرش في اختياره الذهاب إلى مدينة الديوانية كان يهيئ للقضاء على القادة الأربعة، فالديوانية مركز عسكري مهم اعتقد الوصي بأنه يمكن أن يستغله لمقاومة الحكومة في بغداد، ولهذا عقد فور وصوله اجتماعاً عسكرياً لآمري الوحدات واتصل بالمتصرفين (المحافظين) تلفونياً وطلب منهم عدم تنفيذ أوامر بغداد، لكن وصول استقالة الكيلاني إلى الديوانية جعل الوصي يوقف اتصالاته ويطلب حضور بعض الساسة من بغداد للتداول في تشكيل الوزارة الجديدة. وفي 1 شباط 1941 كلف الوصي طه الهاشمي بتأليف الوزارة الجديدة وبالمقابل تكتل رشيد عالي الكيلاني مع بعض رجال الحركة القومية وشكلوا جمعية سرية باسم (اللجنة السرية العربية) كان أبرز أعضائها الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين ورشيد عالي الكيلاني ويونس السبعاوي وناجي شوكت، وتقدمت اللجنة السرية بطلب لتأسيس حزب علني باسم (حزب الشعب) ليكون ستاراً للجنة السرية وواسطة للدعاية ولكن وزارة الداخلية رفضت أجازته. طلب وزير خارجية بريطانيا من توفيق السويدي وزير خارجية العراق، في اجتماع عقد بينهم في القاهرة، تشتيت قادة الجيش القوميين وأضعاف نفوذهم، ولهذا انتشرت الإشاعات عن طلب بريطانيا من العراق تنحية القادة العسكريين. وقد شعر القادة بعد صدور أمر نقل العقيد كامل شبيب في 26 آذار إلى قيادة الفرقة الرابعة بأن هذا النقل أشد خطر وأبلغ أثر وأن الجهة الأجنبية هي تريد ذلك.
عقدت اللجنة العربية اجتماعاً في يوم 31 آذار 1941 وقررت القيام بالحركة، وفي مساء اليوم التالي، الأول من نيسان، عُقد اجتماع في معسكر الرشيد حضره العقداء الأربعة إضافة إلى الفريق أمين زكي سليمان رئيس أركان الجيش بالوكالة، وتقرر في هذا الاجتماع إعلان حالة الطوارئ في معسكر الرشيد ووزعوا الجنود في نقاط مهمة في بغداد وحول القصر الملكي، وأوفدوا فهمي سعيد يرافقه امين زكي لتقديم الرجاء إلى طه الهاشمي بالاستقالة، فعادوا وهم يحملون استقالة الهاشمي موجهة إلى الوصي عبد الإله. بعد استقالة الهاشمي كادت الأزمة أن تنفرج لولا هروب الأمير عبد الإله، كان الوصي نائماً في قصره عندما وصله خبر الحركة، فأنتقل على الفور إلى دار عمته صالحة في الرصافة ثم التجأ بعد ذلك إلى السفارة الأميركية واجتمع لبضع ساعات مع الوزير المفوض الأميركي بول نابنشو (Knabenshue)الذي دبر نقله إلى القاعدة العسكرية البريطانية في الحبانية بسيارة السفارة في اليوم التالي وهناك قابل الوصي السفير البريطاني الجديد كنهان كورنواليس الذي وصل لتوه إلى الحبانية في طريقه إلى بغداد لاستلام مهام عمله. وقد أبلغه كورنواليس أن التوصل إلى تسوية مع الثوار قد أصبح مستحيلاً وشجعه على الذهاب إلى البصرة والعمل من هناك على استعادة السيطرة على الموقف بعد تشكيل حكومة جديدة في البصرة وزوده بمبلغ كبير من المال لمقاومة الحركة. وتم نقله بطائرة عسكرية الى البصرة يرافقه علي جودت الأيوبي ومرافقه الخاص عبيد الله المضايفي فوصلوها في 3 نيسان 1941 ومن هناك إلى السفينة البريطانية (كوك شبير) التي كانت تنتظره في شط العرب. وتمكن نوري السعيد وجميل المدفعي والعديد من الساسة المؤيدين لبريطانيا من الهرب إلى الأردن. وفي بغداد وبما أن رحيل الوصي على العرش دون توقيعه استقالة حكومة الهاشمي جعل من الضروري بمكان للضباط الأربعة ورشيد عالي الكيلاني اتخاذ إجراء خارج النطاق الدستوري، وبنفس الوقت أصدر رئيس الأركان بياناً إلى الشعب اتهم فيه الوصي بالعمل على إحداث الشقاق في صفوف الأمة، والتشبث بشتى الطرق لاستحصال البيعة لنفسه على عرش العراق، وتحطيم الجيش الوطني، وأعلن البيان عن تشكيل حكومة الدفاع الوطني برئاسة رشيد عالي الكيلاني. وفي العاشر من نيسان خلعوا الأمير عبد الإله من الوصاية على العرش وعينوا محله الشريف شرف بن راجح، وهو من الأقارب البعيدين للعائلة المالكة، وافق الوصي الجديد على استقالة الهاشمي وتكليف الكيلاني بتشكيل الوزارة الجديدة. وقد اذاع الكيلاني بياناً بعد ذلك أعلن فيه سياسة الحكومة الجديدة التي أساسها عدم توريط البلاد في أخطار الحرب والقيام بأداء رسالتها القومية والمحافظة على تعهداتها الدولية وتقوية الروابط الحسنة مع الأقطار العربية المجاورة.
ومن البصرة بدأ الأمير عبد الإله بمحاولة تنظيم حركة مقاومة مسلحة في البصرة وتشكيل حكومة مناوئة تتولى تصفية الحركة بالقوة. وكان متصرف (محافظ) البصرة صالح جبر أول من ابدى استعداده للتعاون مع الوصي لتصفية الحركة، وحاول اقناع قائد حامية البصرة وقائد القوة النهرية وقادة وحدات الجيش المرابطة في المنطقة بمساندة الوصي عبد الإله، إلا أنهم رفضوا واتخذوا قراراً بعدم التصادم مع وحدات الجيش المرابطة في بغداد وعدم السماح للقوات البريطانية بدخول البصرة ومنع الوصي من تأليف حكومة في البصرة.
قام الكيلاني بمحاولة يائسة لإيجاد تسوية ترضي البريطانيين والضباط، كان البريطانيين قد وجدوا تلقائياً أن الوقت فات للتوصل إلى تسوية، وكانوا مصممين على معالجة الموقف بالقوة، قدم كورنواليس الطعم للنظام حين طالب بالسماح للقوات البريطانية بالإنزال في العراق طبقاً للمعاهدة، وافق الكيلاني على الطلب، وفي السابع عشر والثامن عشر من نيسان تم أنزال القوات البريطانية في البصرة، لكن الضباط أبلغوا الكيلاني بأن على القوات البريطانية مغادرة البلاد خلال بضعة أيام، ولن يتم السماح بوصول قوات أخرى، ووجوب إبلاغ الحكومة العراقية بوصول قوات إضافية مقدماً، لم تكن للبريطانيين النية بسحب قواتهم، وسارت الأحداث إلى نهاية محتومة، ففي الثامن والعشرين من نيسان، قرر مجلس الوزراء أرسال قوات عراقية إلى قاعدة الحبانية كأجراء احترازي، وفي اليوم التالي أُخبر البريطانيون الذين كانوا يحاولون إجلاء نساء وأطفال من الحبانية بالطائرة، أنه أذا أقلعت الطائرة، فأنها ستُقصف، عدّ البريطانيون هذا العمل إجراءً حربياً، وفي الثاني من أيار 1941 قرر القائد البريطاني المحلي مهاجمة القوات العراقية ومحاصرة القاعدة دون تحذير، وقبل ان يقوم العراقيون بالمبادرة، نجح الأجراء البريطاني، فلو كان العراقيين أصحاب المبادرة، لفاق عددهم القوات البريطانية على الأرض، ولربما كانوا قد أقنعوا دول المحور بأن العراق يستحق الإنقاذ، بيد أن أوامر كهذه لم تصدر.
لم تجر معارك كثيرة على الأرض بل في الجو، فخلال ساعات دمرت القوات الجوية الملكية البريطانية المتفوقة خمساً وعشرين طائرة من الطائرات الأربعين العراقية، أنسحب الجيش العراقي الذي أُخذ على حين غرة إلى الفلوجة وقام بتدمير السدود على نهر الفرات وبغمر المنطقة بالمياه الأمر الذي أخر تقدم القوات البريطانية بيد أنه لم يوقفها، وفي أثناء ذلك بدأت التعزيزات البريطانية بالتدفق من الأردن، بضمنها قوات طوارئ من الفيلق العربي الذي يقوده غلوب باشا المعروف لدى العرب بـ (أبو حنيك)، وتم الاستيلاء على الفلوجة في التاسع من أيار وأصبحت الطرق سالكة إلى بغداد، وفي بغداد أثبتت الحكومة أنها غير كفؤة كما هو حال الجيش، فلم يتم وضع خطط مسبقة للتعامل مع الأزمة وطلب مساعدة من قوات المحور، ففي اليوم الذي تلا تدمير القوة الجوية في الحبانية والخسائر المتزايدة، أرسل مجلس الوزراء وعلى عجل ناجي شوكت إلى تركيا لمقابلة السفير الألماني هناك لضمان دعم المانيا، وفي الواقع جرى أرسال مساعدة، لكنها كانت جد ضئيلة وكان الوقت جد متأخر، ففي هذا الوقت كان هتلر يحشد قواته للهجوم على الاتحاد السوفيتي ولم يكن مستعداً لنجدة العراق نجدة حقيقية.
انهارت حكومة الدفاع الوطني بعد فترة قصيرة استمرت شهر ونصف الشهر، ففي التاسع والعشرين من أيار، وحين اقتربت القوات البريطانية من بغداد هرب الضباط الأربعة إلى إيران، وسرعان ما لحق بهم رشيد عالي الكيلاني، والحاج أمين الحسيني، وأتباعهما،وفي اليوم نفسه شكل أمين بغداد أمين العمري لجنة ضمت كبار ضباط الجيش المتبقين في وزارة الدفاع، عقدت اللجنة هدنة، جرى توقيعها في الثلاثين من أيار، وفي الأول من حزيران وصل عبد الإله إلى بغداد مع نوري السعيد، وعلي جودت الأيوبي، وجميل المدفعي رجل التهدئة وآخرين، ونيط بهم تشكيل حكومة مكونة من الفريق المؤيد لبريطانيا حصراً، وبذلك انتهت المحاولة الأخطر منذ 1920 لقطع العلاقة مع بريطانيا وخلع النظام الذي أقاموه، وكانت من أبرز محطات حياة الأمير عبد الإله قبل أن تنتهي حياته كلها صبيحة يوم الرابع عشر من تموز بعد مرو سبعة عشر عاماً، كان للأزمة مضاعفات عميقة في المستقبل؛ فكل المشاركين دفعوا الثمن عاجلاً أم آجلاً، فقد جرى إعدام وسجن العديد من مؤيدي رشيد عالي الكيلاني، أما المتعاطفون المشتبه بهم فقد جرى أبعادهم أو احتجازهم في معسكرات، وبدأ الكيلاني رحلة نفي طويلة، وسيأتي حساب الوصي ونوري السعيد لاحقاً في 1985.
انتهاء الوصاية على العرش وبدأ ولاية العهد
في 2 مايس 1953 بلغ الملك فيصل الثاني سن الرشد القانونية، وانتهت وصاية خاله على العرش بتتويجه ملكاً دستورياً، وكذلك نودي بالأمير عبد الإله ولياً للعهد. وبعد أداء القسم الدستوري تلا الملك فيصل الثاني خطاباً بهذه المناسبة وجاء في هذا الخطاب: "... ولابد لي من أن أشكر خالي العزيز على أداء واجب الوصاية على العرش بكل حرص وإخلاص، وعلى عنايته الفائقة في أعدادي لهذا اليوم كأب شغوف...".
تمثل الأمر الأكثر أهمية في عدم نية عبد الإله التخلي عن سلطته الفعلية إلى الملك الشاب، حتى بعد عام 1953، وذلك لكون الملك فيصل الثاني لا يزال شاب صغير العمر وغير ملم الماماً كبيراً بالسياسة، فطيلة الفترة المتبقية للعهد الملكي استمر ولي العهد بالهيمنة على سياسة القصر، رغم أنه لم يعد يحوز على السلطة القانونية للقيام بذلك، ومع ذلك فإن الأمر ينطوي على اختلاف الآن، فحالما يتزوج الملك وينجب وريثه، لن يعود عبد الإله ولياً للعهد، هذا الوضع الجديد أقلقه. وبهذا الخصوص هناك أكثر من رأي، فقد ذكرت المؤرخة الأميركية فيبي مار في كتابها (تاريخ العراق المعاصر، 1921 ــ2003) انه "لم يمض الأمر طويلاً قبل أن ينتعش اهتمام عبد الإله بالمشروع السوري إذ شجعته الأحداث الأخيرة في سوريا على المضي بهذا المشروع، فقد تعرضت دكتاتورية أديب الشيشكلي إلى هجوم عنيف، واصبح موضوع الإطاحة به أمراً محتملاً على نحو متزايد، وجد ولي العهد من ينفذ له مخططه وهو رئيس الوزراء فاضل الجمالي، الذي كان راغباً بالاضطلاع بالمشروع السوري مقابل دخوله معاقل السلطة ومنذ البدء، شغل المشروع السوري لولي العهد الاهتمام السري لفاضل الجمالي، فقد دُفعت مبالغ كبيرة إلى صحف لبنانية وسورية وإلى ساسة مؤيدين للعراق للإطاحة بالشيشكلي"، وجرت المحافظة على اتصالات دائميه مع هؤلاء الساسة من خلال وزراء وأشخاص آخرين، حتى أن خطة مفصلة وُضعت لقيام قوات عراقية بغزو سوريا إذا دعت الحاجة، هذا النشاط السري ترافق مع مقترح شعبي قدمه الجمالي إلى الجامعة العربية لقيام اتحاد عربي يبدأ بالعراق، وسوريا، والأردن، ومع أن الانقلاب الذي أطاح بنهاية الأمر بالشيشكلي في شباط 1954 كان من تدبير الجيش السوري، فثمة شك أنهم تلقوا مساعدة من العراق بالأموال والدعاية والدعم، ومع الإطاحة بالشيشكلي ووصول ساسة مؤيدين للعراق إلى السلطة في سوريا، تطلع عبد الإله إلى نهاية ناجحة لمشروع الاتحاد، لكن نوري السعيد لم يكن معه، فقد تدهورت العلاقة بين الرجلين، ومع أن نوري لا يتمكن من معارضة النظام علانية، فقد كان بإمكانه معارضة ولي العهد من خلال سيطرته على البرلمان، ولتحقيق المشروع السوري، احتاج عبد الإله إلى المزيد من الأموال، رفض نوري السماح لنوابه بحضور جلسة الميزانية، وبهذه الطريقة كان قادراً على أسقاط الوزارة، حتى هذا الأمر لم يحد من طموح ولي العهد؛ فقد أستمر بالبحث عن وسائل لعزل نوري ومواصلة سياسته، فتشاور مع عدد من الساسة الذين نصحوه بحل البرلمان وإقامة انتخابات جديدة، تماشت هذه النصيحة مع رغبة عبد الإله بالكامل، كون أن برلماناً جديداً قد يستخدم لتحديد نفوذ نوري ودعم المشروع السوري، وفي نيسان 1945، كلف أرشد العمري بتشكيل وزارة جديدة مهمتها إجراء الانتخابات.
لكن عطا عبد الوهاب السكرتير الخاص في الديوان الملكي العراقي منذ عام 1957 لغاية يوم 14 تموز من عام 1958، يذكر في كتابه (الأمير عبد الإله ــ صورة قلمية)، أن الأمير عبد الإله كان "يتحدث مع معه بين حين و آخر عما يريده من مستقبله وكان يقول أنه ربى جلالة الملك لمدة 14 سنة تربية حسنة إلى أن تولى العرش، وأنه يساعده في تحمل مسؤولياته إلى أن يتم له الإلمام بجميع الأمور بشكل واسع، أنه ينوي أن يتقاعد ويغادر العراق، وكان يقول أنه يريد أن يستقر في إسطنبول حيث كان محباً لطراز الحياة التركية دون أن يتولى منصباً رئيساً، ما يدحض الأقاويل التي كانت رائجة بأن الأمير له طموح في عرش سورية."
مجزرة قصر الرحاب ونهاية الأمير عبد الإله
بحلول عام 1958، بدأ نسيج المجتمع العراقي التقليدي بالانحلال في ظل عوامل عديدة منها الثروة النفطية، والتطوير الاقتصادي، والتحضر والتعلم، وقد أنبثق جيل جديد ومثقف صاغته التأثيرات الفكرية والثقافية. ومن جديد عاد الجيش إلى السياسة فكان انقلاب 14 تموز 1958 الذي نفذته مجموعة أطلقت على نفسها "الضباط الأحرار" وكان أكثرهم من الضباط ذوي النزعة القومية العربية والذين كانوا متأثرين بثورة 23 تموز 1952 في مصر بقيادة جمال عبد الناصر، وبالشعارات التي كانت تطلقها إذاعة القاهرة، ولم يكن نجاح الانقلاب العسكري الذي أطاح بنهاية الأمر بالملكية ودشن عهداً جديداً في تاريخ العراق تميز بسيطرة العسكر وتوالي الانقلابات العسكرية، مرده إلى الحظ والجرأة أكثر مما يُعزى إلى تخطيط طويل أو تنظيم واسع. حيث استطاع العقيد عبد السلام محمد عارف وبسلسلة من المناورات الذكية، تحييد المعارضة للانقلاب ضمن اللواء العشرين، وبمساعدة المقدم عبد اللطيف الدراجي، الذي كان آمراً للكتيبة الأولى فضلاً عن كونه صديقاً ومن الضباط الأحرار، تسلم عبد السلام قيادة اللواء بنفسه وبدأ التحرك صوب بغداد، وفي الساعات الأولى للرابع عشر من تموز، احتل محطة الإذاعة واتخذها مقراً له،
والقى عبد السلام البيان الأول للانقلاب من الإذاعة، بالنيابة عن القائد العام للقوات المسلحة (الذي لم يذكر اسمه). وفي أثناء ذلك، جرى أرسال سريتين من كتيبته، الأولى إل قصر الرحاب للتعامل مع الملك فيصل الثاني وولي العهد الأمير عبد الإله، والأخرى إلى مقر إقامة نوري السعيد، ولا يزال ثمة شك حول طبيعة الأوامر المعطاة إلى المجموعة المرسلة إلى قصر الرحاب، لكن من الواضح أن ولي العهد لم يقاوم، على الرغم من ان القوات المهاجمة أضعف وأقل قدرة وتسليحاً من قوات الحرس الملكي بكثير،
والتي سارعت إلى طلب المساندة من معسكر الوشاش فانضمت اليها قوة بقيادة النقيب عبد الستار العبوسي كما تجاهل عبد الإله رغبة رئيس الحرس الملكي، بالمقاومة، فلو قاوم الحرس الملكي، لربما تم إخماد الانقلاب بيد أن ولي العهد بسبب ضعف الإرادة ولإنقاذ حياة الملك إلى حد ما حيث كان يرغب في ترك العراق وتنازل الملك فيصل الثاني عن العرش،
لذلك رفض أن يعطي الأوامر للعقيد طه البامرني ــ آمر الحرس الملكي بقصر الرحاب ــ بمقاومة المهاجمين، حاول الأمير عبد الإله مفاوضة ضباط الانقلاب من أجل السماح له والعائلة المالكة بمغادرة العراق، وهذا التصرف أنهى حياته وحياة العائلة المالكة. ففي حوالي الساعة الثامنة صباحاً كان الملك، وولي العهد وبقية الأسرة يغادرون القصر عبر باب المطبخ عندما أصدر النقيب عبد الستار العبوسي الذي لم يكن من الضباط الأحرار أوامره بإطلاق النار على الملك وولي العهد والعائلة المالكة بمن فيهم النساء فسقطوا مضرجين بدمائهم بعد أن أصيب الملك فيصل الثاني في الرأس والرقبة وكانت أصابه عبد الإله في ظهره وكذلك إصابة الملكة نفيسة والدة عبد الإله والأميرة عابديه خالة الملك والتي تولت تربيته بعد وفاة والدته الملكة عالية، ولم ينج من المجزرة سوى الأميرة هيام زوجة ولي العهد أبنة أمير ربيعة الشيخ محمد الحبيب التي اصيبت بجراح في الساق.
أثار بيان الانقلاب الأول الجماهير التي وصلت لقصر الرحاب وقصر الزهور بعد عملية قتل العائلة المالكة والتي ستعرف فيما بعد بـ (مجزرة قصر الرحاب)، لغرض سلب ونهب اثاث ومقتنيات العائلة. وأقدمت مجموعات من الغوغاء على أيقاف السيارة العسكرية التي نقلت جثث العائلة المالكة، "وسحبت جثة الأمير عبد الإله من السيارة، وتصايح الجمهور المشاغب.. فلنعلق الجثة، وجلبت الحبال وربطت بشرفة فندق الكرخ، وبعد دقائق كانت جثة الأمير ترتفع معلقة في الهواء، وصعد اليها حملة السكاكين والسواطير وبترت أعضائه الحساسة وفصلت الأرجل من الركبتين وقطع الكفان من الرسغين وألقيت إلى مجموعات من الفتيان والشبان الذين سرعان ما تلقفوها وانطلقوا مهرولين بالأجزاء المبتورة عبر الشوارع والأزقة متجهين نحو جانب الرصافة من بغداد في صخب ولعب وضحك. بقيت الجثة معلقة في مكانها زهاء العشرين دقيقة وتعالت الصرخات انزلوها ولنكمل سحلها عبر الشوارع وانزلت الجثة وبوشر بالسحل ثانية وعبروا بها جسر المأمون (الشهداء) متجهين نحو شارع الرشيد وكان يغص بالمتفرجين من الشرفات والنوافذ. وفي شارع الرشيد أصبحت الجثة هدفاً للحجارة، كان الوجه قد تهشم تماماً، ولم يبق من ملامح الأمير عبد الإله إلا الجبين الواسع وبعض الشعر الأسود الذي تعفر بتراب الشارع. وبالقرب من وزارة الدفاع في منطقة الميدان كانت جمهرة الساحلين أربعة فتيان لا يتجاوز عمر الواحد منهم الخمسة عشر عاماً، يتبعهم صبية صغار حفاة الأقدام قذري الملابس وكلما تعب أحدهم سلم الحبل لآخر من هؤلاء الفتية وعلى مسافة أربعة أمتار من الجثة الممزقة كان يسير الموكب المرافق من الغوغاء والأوباش، يراقبون المنظر الذي تتقزز منه النفوس لهول بشاعته، وأخيراً وصل الموكب امام البوابة الخارجية لمبنى وزارة الدفاع حيث وقف حشد كبير من الضباط والمراتب من مختلف وحدات الجيش المرابطة في بغداد لتقديم التهنئة والتأييد للانقلاب، ولم يتحرك أي من الضباط والجنود من أماكنهم للتطلع على ذلك المنظر المقزز للميت المقطع الأوصال، وصلت الجثة الممزقة امام وزارة الدفاع حيث يوجد قبالتها مقهى كبير وإلى جانب المقهى يقوم بناء قديم من طابقين وصعد أحدهم متسلقاً عمود الكهرباء المجاور للبناء وعلق حبلاً في شرفة الطابق الأول، حيث وقفت في تلك الشرفة بعض النسوة والأطفال يتفرجن على الشارع وأدليت الحبال وربطت بها الجثة وبعد لحظات كانت الجثة ترتفع ثانية معلقة في الهواء وقد اندلقت أمعائها، وتسلق عمود النور المجاور شاب يحمل سكيناً بيده وطعن الجثة بالظهر عدة طعنات ثم أعمل سكينه بالدبر وراح يقطع اللحم صاعداً إلى فوق باتجاه الرأس، ومن الشارع جلبت عصا طويلة أدخلت في الجثة ودفعت بها دفعاً والضباط والمراتب ينظرون اليها دون أن يتحركوا من أماكنهم رغم أن علامات امتعاض من هذا المنظر الوحشي كانت ترتسم على وجوههم جميعاً. وكانت خاتمة جثة الأمير عبد الإله أن تناوب عليها الأوباش وطافت أجزاؤها شوارع بغداد، اما ما تبقى منها إلى مساء ذلك اليوم فقد صبت عليها صفائح البترول ثم حملت البقايا المحترقة وألقيت في نهر دجلة، كما ابتلع النهر الأطراف التي كانت مبعثرة هنا وهناك".
وفي الختام فأن مصرع الملك فيصل الثاني وعائلته ومنهم الأمير عبد الإله فجر يوم 14 تموز 1958، سيبقى حدثاً تراجيدياً يثير الاهتمام والتعاطف معاً لإحقاب طوال، ليس لأنه يمثل نهاية عائلة كان يمكن أبعادها عن العراق كما حدث في دول عديدة، بل لأنه يعّبر عن نهاية تاريخ ومجتمع وثقافة وأسلوب حياة.. وبدأ تاريخ عراقي يختلف تماماً عما كان سابقاً.. بالرغم من كل المبررات والمسوغات التي يسوقها كل من أيدوا وما زالوا يؤيدون ما حدث في ذلك الفجر الدامي.
1068 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع