ذكريات طفولة بغدادية:سياسة وتاريخ..في الذكرى السبعين لمقتل الملك العروبي غازي الأول؛ سحل جثة نوري السعيد
بقلم/علاء الدين الأعرجي
محام/باحث عراقي مقيم في نيويورك
لن أنسى ذلك اليوم، حين كنت، في طريقي إلى المدرسة، مُثــْقلا بكراساتي وكتبي. في ذلك الصباح الربيعي المشرق، جلب نظري صدفة، العلم العراقي، في مركز الشرطة مُنـَكـَّس إلى النصف، وكنا قد تعلمنا أن العلم يُنكس عندما تحل كارثة وطنية، او عند فقدان شخص مهم.
فأردت أن أختبر مدى صحة هذه المعلومة لاسيما عندما لاحظت حركة غير طبيعية تجري في مدخل المركز. فجَمَّعت بقايا شجاعتي، غير المعهودة، وأنا الطفل الضئيل ابن العاشرة، وغامرت بأن أقف أمام ذلك الشرطي، الطويل العريض، الذي يحمل تلك البندقية "العُصملـَّيـِّة" الأثرية التي تـتحداه طولا ً، ضاربا له سلاما ًرسميا ًمقلـِدا ً فيه العسكر، وأسأله بصوت لاهث متلعثم : " عمي ... ، شكو... شصار؟ "، (أي ماذا حدث وصار، يا عمّ ؟).
وكنت أتوقع الأسوء: أن يضربني او ينهرني على الأقل. ولكنه قال بصوت لطيف متهدج، تخنقه العبرة:"، إبني، الملك غازي انجـِتـَل!". أي قـُتـِل. فتركته، وأنا أختـنق بعبراتي، راكضا في طريقي إلى المدرسة.
وكان من سوء حظي، وسوء تقديري، أن أكون أول من يـُبلغ الطلبة بهذا الحادث المشؤوم، فتلقيت "بـَسطـَه عراقية"،( أي علقة، باللهجة المصرية) لن أنساها أبدا، حتى أنقذني المدير، الأستاذ حسن محمود، الذي واساني، ونـَهَـَر الأطفال الآخرين، ووعد بعقابهم، قائلا ما معناه: "يجب أن تشكروا هذا الطالب المِقدام على شجاعته، لأنه اكتشف الحقيقة المُرّة، من مصدرها الصحيح، قبل أي واحد منكم، وأنا أشكره وأقدر شجاعته النادرة وجهده، وكنت على وشك أن أبلغكم بها شخصيا بكل أسف وحزن".
وهنا انقلب ميدان المعركة فجأة، إلى ميدان "مناحة". وإذا بالمدير يصرخ بهم قائلا:" اتركوا البكاء والعويل للبنات، وتعاملوا مع هذه الكارثة كرجال، سنبلغكم بما يمكن أن تفعلونه للتعبير عن مشاعركم هذه". ثم أخذني المعلم الفاضل شاكر حبيب إلى غرفته ليداوي جروحي وكدماتي.
بعد مقتل الملك الشاب، غازي الأول، (3/4/ 1939)، الذي كان محبوبا جدا من جماهير الشعب العراقي، لمواقفه الوطنية والعروبية المشرِّفة، في حادث سيارة، انـتـشرت الهمسات ثم الإشاعات فالتأكيدات، بأن الإنكليز رتبوا له هذه الحادثة، لأنه تمرد عليهم. ذلك لأنه كان يتحالف مع الجبهات الوطنية المعارضة، وخاصة مع قيادات الجيش وصغار الضباط الذين يحملون أفكارا وطنية وقومية.
بل أسس إذاعة خاصة في قصر الزهور، وأذاع، بنفسه أحيانا، خطبا وبيانات تندد بالاستعمار الفرنسي لسورية ولبنان، وتهاجم المخططات الصهيونية والاستعمارية في الوطن العربي.
وكان الحلفاء(بريطانيا العظمى وفرنسا)، قد أعلنوا عشية الحرب العالمية الثانية أن كل من يقف ضد سياستهم، يضع نفسه في خندق العدو النازي. (لاحظ ما أشبه اليوم بالبارحة، من تصريحات المسؤولين الأمريكين، بعد أحداث 11/9/2001).
وكان نوري السعيد يكره الملك غازي. ويُـروى عن وزير الخارجية العراقي ناجي شوكت، آن ذاك، قوله :"إن موت الملك غازي جاء نتيجة لعبة قذرة كان وراءها نوري السعيد". ( كتاب "العراق في التاريخ"، ص693، تأليف مجموعة مؤرخين). وكان من المعروف تماما أن هذا الأخير هو أحد "أزلام" بريطانيا المقربين. وقد تولى رئاسة الوزارة أكثر من أي رئيس آخر. ويعتبر أبرز وأقوى سياسي عراقي مخضرم، تكرهه عامة الشعب وتعتبره عميلا للإنكليز. ويذكر عبد الرزاق الحسني في كتابه "تاريخ العراق السياسي الحديث"، شيئا من "صلافة" هذا الرجل حين عارضه أو حاسبه بعض النواب المعارضين، عندما كان رئيسا للوزراء، فوقف منتصبا في مجلس النواب، وقال متحديا ومهددا جميع النواب:" أنا أراهن كل شخص يدعي بمركزه ووطنيته أن يدخل هذا المجلس، قبل أن ندخله نحن في قائمة الحكومة، مهما كان وراؤه من المؤيدين".(ص254، ج3) ويقال انه كان يعلم مدى كره العامة له، ولكنه يحتقرهم، فلا يتردد..
مثلا،فيغامر بالترجل من سيارته الفارهة والمعروفة،ماركة "باكارد" الأمريكية ، المرقمة "20 بغداد"، لينتقي بنفسه فاكهته المفضلة من سوق "الأمانة" المزدحم في وسط بغداد، من الفاكهاني المشهور "بن كنو"، دون حراسة تذكر. ويروى أنه كان يقول" اليد التي ستقتلني لم تخلق بعد". كما كان يردد قولته المشهورة"دار السيد مأمونة". ويعتبر نفسه السيد طبعا.
والمفارقة الكبرى أن نوري السعيد قـُـتل ، على يد الجماهير الغاضبة، بعد أيام من اندلاع ثورة 14تموز/ يوليه 1958، حين كان يحاول الهرب متنكرا بزي امرأة محجبة. ومزقت الجماهير الحاقدة جثته إربا وسُحِلـَت بقاياها في شوارع بغداد!!.
وكان نجله "صباح"، مع الوصي عبد الإله، قد نالا نفس المصير قبله بيوم أو يومين ( أقول ذلك بكل حسرة وأسف لهذه الوحشية الجماهيرية). كما أن مثل هذه الأحداث أثبتت لي، في وقتها، صحة نظرية المفكر الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه "سيكولوجية الجماهير Psychologie des Foules" حيث يفهم منه أن الجماهير قد تصبح إجرامية ووحشية أحيانا).
وقد حدثت تلك المأساة، ويا للمفارقة، في "ساحة النصر" التي نـُصِّبَ فيها تمثال، أنبل وأخلص رئيس وزراء عراقي ، عبد المحسن السعدون، الذي انتحر في 13/11/1929، بعد أن ترك للعراقيين أبلغ واخلص وصية، وعِـبْـرة.(أنظر تاريخ العراق السياسي الحديث، عبد الرزاق الحسني، الجزء الثالث، ص90).
وعودة إلى ذكرياتي الطفولية مع ملكينا المحبوب غازي الأول، أتذكر أن والدي كان يصحبني، أحيانا، إلى المقهى الشعبي القريب من البيت للاستماع إلى حديث الملك غازي. وكانت "قهوة حـَمـَدْ " الشعبية، ذات "التخوت"( جمع تــَخـَتْ) أو الأرائك الخشبية المتداعية،تعج بالرواد، منذ ساعات المساء الأولى، وهي المكان الوحيد في " حي الكرادة الشرقية" حيث يوجد فيها ذلك الصندوق العجيب " الراديو".
فكان الرواد يـنتظرون بلهفة، انطلاقة "إذاعة قصر الزهور"، من الحارثية، حيث يسكن الملك، وذلك قبل أن تنشأ الإذاعة الرسمية العراقية.
وحين يبدأ الملك بالحديث تتوقف جميع أنشطة الرواد: الصخب وضربات قطع لعبة النرد والدومينو على الطاولات المتهالكة، والمناقشات الحادة، حول سؤال كان يطرح بكثرة: أيهما أكثر سوءا، الأتراك أم الإنكليز، فضلا عن توقف صراخ الحاج حمد: "جاي سنكين للحج مرتضى، شـَكـَر زايد لبو حسين، "نركيلة" تـتن مْعَسَل للشيخ صَنـْكـُور "( أي شاي مُـرَّكـَز للحاج فلان، وسكر زيادة لأبي كذا، و"شيشة" مع تبغ شيرازي مخمر بالعسل للشيخ كذا). كما يكف الحاج مِجْـبـِر "الكصاب"(القصاب)، ذو الشخصية المتميزة والعقال "المُكـَنـْكـَر"، يتوقف مؤقتا، عن الـقــَسَم الغليظ بشاربه الطويل المفتول، وعن توزيع القهوة العربية، التي كان يُعتـِّـقـُها عدة أيام بنفسه على نار من الجمر الهادئ، في "دِلال" ( جمع دلـَّـة إبريق القهوة العربية التقليدية، ذو الشكل الأنيق الخاص)، كبيرة أصلها من النحاس الأحمر( الصِفـِرْ) ولكنها أصبحت سوداء متفحمة. ثم يخلط محلول القهوة المعتق الذي يسمى"شـَرْبَتْ"، بنسب معينة يتقن مزجها، من هذه "الدِلال" ليضعها في "دلــَّة" صغيرة من النحاس الأصفر البراق.
يرفعها من قبضتها الساخنة، بمنديل أحمر، ويطوف بها بكبرياء. ويحمل بيده اليسرى قرابة عشرة فناجين صغيرة خاصة بالقهوة العربية، ويدور على الزبائن "مُطقـْطِـقا" بها بمهارة وبألحان مثيرة. ومفتخرا بترديد بيت بسيط قاله له والدي يوما:
قهوة ُالحاج ِمِجْـبـِر ِالقـَصَاب ِتـُنعشُ الروحَ في لـقـا الأحباب ِ
ويجلس أبي عادة في ركن منزو هادئ، يكاد يكون محجوزا للأدباء. ويعرف الصبي"شهيد"، نـُدل المقهى، ابن الحاج حَمَدْ، مشروبي المفضل: "السيفون"،( وهو شراب أحمر فـوَّار لذيذ جدا، يقابل، مع الفارق، Soft drink بل أفضل ).
(أرجو أن لا يفوت القارئ أن تسمية الولد "شهيد"، ذات مغزى معين وواضح؛ فهو مكرس للشهادة منذ ولادته تيمنا بشهادة الحسين (ع)، مما يؤكد نظرية "العقل المجتمعي"، التي تحدثت عنها في كتابي" أزمة التطور الحضاري". والمفارقة الكبرى انه استشهد فعلا ً حين ابتلعته أمواه دجلة) وكثيرا ما يتوافد أصدقاء الوالد المفضلون، ومنهم، على ما أذكر، المؤرخ عبد الرزاق الحسني ،(مؤلف عشرات الكتب منها سلسلة كتب" تاريخ الوزارات العراقية"، من عدة مجلدات، و"تاريخ العراق الحديث")، والدكتور الأديب عبد الحميد الراضي(مؤلف المسرحيات الشعرية السياسية الرائعة، ومنها مسرحية "ثورة العراق الكبرى"، و"ثورة العرب الكبرى"، أستاذ جامعي، فيما بعد)؛ والدكتور أحمد سوسة(صاحب كتاب "في طريقي من اليهودية إلى الإسلام"، والكتاب القيـّم"العرب واليهود في التاريخ").؛والأستاذ الحاج عبد الكريم محسن الرُبيعي( وهو أصغرهم سنا، ومن تلاميذ والدي السابقين، ثم أصبح أستاذا ومحاميا معروفا ومديرا عاما، فيما بعد).
وقد أثارت خطب الملك غازي المشاعر الوطنية والقومية للشعب العربي العراقي، فظفر هذا الملك الشاب بحب مختلف طبقات الشعب، أكثر بكثير مما كان يحلم به أبوه، الملك فيصل الأول، الذي توفى في عام 1933، في سويسرة حيث كان يُعالج. كما أخذ الملك الشاب يحاول استقطاب العناصر القومية، العسكرية والمدنية، التي أصبحت تشكل خطرا واضحا على المصالح البريطانية، خاصة وقد بدت بوادر الحرب العالمية الثانية واضحة في الأفق. والأرجح أن سلوك الملك العروبي هذا قد كلفه حياته. شأنه شأن الألوف من الشهداء الآخرين.
اليوم الذي شـُيع فيه الملك الفقيد، يعتبر يوما ً مشهودا في تاريخ العراق، والأمة العربية،إذ ودعته جماهير الشعب الهادرة بحسرة وغضب، وعمتْ التظاهرات والمسيرات جميع أرجاء البلاد. وعلمنا، في اليوم التالي، أن الجماهير الغاضبة قد هجمت على مبنى القنصلية في الموصل، ومزقت القـنصل البريطاني إربا.
شاركتْ مدرستنا في التشيـيع بجميع منتسبيها تقريبا، وعلى رأسهم مديرها والمعلمون، وكان الفراشون أكثرنا تحمسا. وقد أراد المدير"الأستاذ الفاضل حسن محمود" أن يعوضني عن تلك "العلقة"، الملعونة، التي كانت آثارها ما تزال بادية على وجهي وعيني المتورمة. فمع أنني كنت طفلا ضعيفا، وأقصر كثيرا من صديقي "علي العيثاوي" الذي يكبرني سنا، والذي حاول حمايتي من الضرب؛ إلا أنه شرفني معه بحمل شعار المدرسة ولافتـتها التي تقول "مدرسة الكرادة الشرقية الابتدائية للبنين، تنعى بحزن وألم مليكنا الشهيد جلالة الملك غازي الأول". وصرنا ننشد مع الجماهير الغاضبة هذا البيت، مُلحَّـنا، باللهجة العامية العراقية:
الله واكبر يا عرب، غازي انفكد(فــُقِـدَ ) من داره اهتزت اركان السِمة(السماء) من ضربة السيارة
وأرجو أن يلاحظ القارئ، أن الخطاب/ النعي هذا، موجه إلى العرب جميعا. وهو خطاب تلقائي مرتجل، بلا تكلف ولا توجيه أو تسيـيس، بل نابع من مشاعر الأعماق الجماهيرية الهادرة. لأن العراقيين الذين يتحدثون العربية، بوجه عام، يعتبرون أنفسهم عربا، قبل كل شيء، أي ينتمون إلى الأمة العربية،
قبل أن يكونوا عراقيين. لأن العراق إقليم من أقاليم الوطن الكبير. كما أنه يشير إلى"ضربة السيارة" لا"صدمة السيارة"، إشارة إلى أن السيارة قد ضُربت، أولا، بعامل خارجي .
3248 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع