عبد المحسن السعدون الرجل الذي أبى أن يخذل شعبه فدفع حياته ثمناً لذلك
بغداد عام 1933 وفي ساحة صغيرة خضراء تقع في نهاية شارع الرشيد بالقرب من مدخل شارع أبي نؤاس كانت الاستعدادات تجري لرفع الستار عن تمثال مصنوع من النحاس صممه ونفذه الفنان الإيطالي العالمي (بيترو كنونيكا) يصور رجلاً واقفاً بملابسه الكاملة معتمراً سدارته (السدارة البغدادية الفيصلية) ويحمل بيده اليسرى مجموعة من الأوراق ويشير بيده اليمنى إلى صدره، اما القاعدة فقد كانت من المرمر الصقيل وقد برز عليها تماثيل صغيرة لبعض شخصيات تلك الفترة من تاريخ العراق السياسي الحديث.
كان التمثال لعبد المحسن السعدون ثاني رئيس وزراء في العهد الملكي في العراق. فما هي قصة الرجل الذي استحق هذا التكريم؟
توالت عشرات الشخصيات على منصب رئيس الوزراء إبان العهد الملكي في العراق الذي استمر 38 سنة منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 طبقاً للبصمة البريطانية، التي بدأت بتتويج الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على العراق ودخوله التاريخ باسم الملك فيصل الأول، وانتهت بقيام الجمهورية عام 1958 وقتل حفيده الملك فيصل الثاني.
الحكم في العهد الملكي كان برلمانياً والملك مصون غير مسؤول. ولقد تعاقب على تولي المنصب عدد من الشخصيات السياسية البارزة خلال تلك الفترة، لعل من أشهرها عبد الرحمن النقيب نقيب اشراف بغداد وأول رئيس للوزراء، وعبد المحسن السعدون، وياسين الهاشمي،
ورشيد عالي الكيلاني، ونوري السعيد، وجميل المدفعي، وعلي جودت الأيوبي، وحكمت سليمان، ومزاحم الباججي، وصالح جبر، وجعفر العسكري، ورجل الدين محمد الصدر،
وأرشد العمري، وتوفيق السويدي، والدكتور فاضل الجمالي وآخرون.
لقد عُتم على تاريخ هؤلاء الرجال الذين كان لكل واحد منهم دوراً مهماً في سياسة العراق لما بعد العهد العثماني، ومن المهم الوقوف على شخصيات تلك المرحلة ودراستها بشكل جدي حيادي موضوعي.
لأن الأنظمة التي تعاقبت على الحكم في بغداد بعد انقلاب العسكر في 14 تموز 1958 تعاملت مع التاريخ بشكل انتقائي وانتقامي؛ فالنظام الجمهوري عتم على تاريخ فترة العهد الملكي وسعى بقوة إلى تشويه تلك الفترة وتجريدها من كل ما فيها من الإيجابيات، كذلك فعل نظام الأخوين عارف مع فترة حكم الزعيم عبد الكريم قاسم، وبعد انقلاب 17 تموز 1968، فأن نظام حزب البعث عمل على تشويه صورة كل الأنظمة التي سبقته وأعتبر ان تاريخ العراق الحديث يبدأ من بداية حكمه، ولا يزال ذلك مستمراً حتى الوقت الحالي حيث تعاد كتابة التاريخ حسب الأهواء الطائفية والعرقية. ومن هذه الشخصيات السياسية كان عبد المحسن فهد علي السعدون.
لم يأتي عبد المحسن السعدون إلى السياسة من فراغ او عن طريق الصدفة كما يحدث حالياً لكثير من السياسيين. ولد عبد المحسن السعدون عام 1879 في مدينة الناصرية، ينتمي إلى آل السعدون وهم حكام أمارة المنتفق تاريخياً والتي كانت تضم معظم مناطق وقبائل وعشائر جنوب ووسط العراق، أسسها عام 1530 الشريف حسن بن مانع جد اسرة آل شبيب التي عرفت لاحقاً باسم آل السعدون نسبة لحفيده الأمير سعدون بن محمد، وفي نفس الوقت فأن أسرته هم شيوخ قبائل أتحاد المنتفق (أتحاد عشائر مختلفة الأصول في جنوب ووسط العراق أثناء الحكم العثماني). وكان قد أخذ قسطه من التعليم المعتاد على تلك الأيام ليصبح مؤهلاً للدخول في المدارس الرشدية التي أسستها الدولة العثمانية في العراق وكانت مدة الدراسة فيها أربعة سنوات، ثم غادر بعدها إلى الإستانة (إسطنبول)، ليتعلم في مدرسة العشائر ثم في المدرسة الحربية شأنه شأن رجال تلك المرحلة، حيث تخرج منها برتبة ملازم ثم تدرج في السلك العسكري وكان ضابطاً رفيع المستوى (مقدم مشاة)، جعله السلطان عبد الحميد الثاني مع اخ له اسمه عبد الكريم مرافقين له وظل عبد المحسن في الإستانة بعد خلع السلطان عبد الحميد بانقلاب 27 نيسان 1909، فانتخب نائباً عن (المنتفق) في مجلس المبعوثان (مجلس النواب العثماني)، في عام 1910، بعد أن انتمى إلى جمعية الاتحاد والترقي(1) ولما انتهت الحرب العالمية الأولى وعاد العراقيون إلى بلادهم برز السعدون كإحدى الشخصيات البارزة في القيادة السياسية والحكم في عهد الملك فيصل الأول.
عبد المحسن السعدون رئيساً للمجلس التأسيسي العراقي:
في 19 تشرين الأول 1922 صدرت الإرادة الملكية (الملك فيصل الأول)، بتشكيل المجلس التأسيس ليقر تأسيس الوزارات والمؤسسات الحكومية وصياغة دستور للمملكة العراقية، وسن قانون انتخاب مجلس النواب وإقرار المعاهدة العراقية البريطانية التي تنظم شؤون الانتداب، وقد تشكل المجلس من الشخصيات البارزة والفاعلة من مدنيين وعسكرين على الساحة الوطنية، والذين لعبوا دوراً في استقلال العراق وتأسيس دولته، منهم عبد الرحمن النقيب الكيلاني وعبد المحسن السعدون الذي اصبح لاحقاً رئيساً للوزراء وبكر صدقي الذي قاد اول انقلاب عسكري في المنطقة عام 1936 ورشيد عالي الكيلاني الذي اصبح عام 1941 رئيساً لوزراء حكومة الإنقاذ الوطني التي شُكلت بعد ثورة مايس، والفريق نوري السعيد رجل السياسة القوي ورئيس الوزراء أربعة عشر مرة والفريق جعفر العسكري اول وزير دفاع عراقي وعبد الوهاب بيك النعيمي المحامي والسياسي الذي كان ناشطاً في الجمعيات السرية التي تدعو لاستقلال العراق عن الدولة العثمانية، وجمع ودون المراسلات والمداولات التي سميت بـ (مراسلات تأسيس العراق). كما ضم المجلس في تشكيلته أعضاء من مختلف الثقافات والألوان الاجتماعية من رجال سياسة وكبار الملاك ومجموعة من رجال القانون. وفي السابع والعشرين من آذار 1924 افتتح الملك فيصل الأول المجلس التأسيس بحضور المندوب السامي، في بناية مدرسة الصنائع (قاعة الشعب في الباب المعظم)، وتم اجراء انتخاب رئاسة المجلس، فأنتخب عبد المحسن السعدون رئيساً، وداود الحيدري وياسين الهاشمي نواباً للرئيس.
الوزارات السعدونية:
نجح عبد المحسن السعدون في تشكيل أربع وزارات برئاسته وذلك في 28 تشرين الثاني 1922 وكانت وزارة السعدون الأولى وهي الحكومة الرابعة في تاريخ العراق الحديث جاءت بعد استقالة وزارة عبد الرحمن النقيب الثالثة واستمرت الوزارة حتى 22 تشرين الثاني 1923، وفي 26 حزيران 1925 كُلف السعدون بتشكيل وزارته الثانية خلفاً لوزارة ياسين الهاشمي التي استقالت في ذات اليوم، وبعد قرابة السنة والنصف وفي يوم 1 تشرين الثاني 1926 قدم رئيس الوزراء السعدون كتاب استقالته إلى الملك فيصل الأول بسبب عدم مساندة حزبه حزب (حزب التقدم) في اختيار رئيس مجلس النواب، قبل الملك الاستقالة واستمرت الوزارة في تصريف الأعمال لحين تشكيل وزارة جديدة وانتهت مهمتها في 21 تشرين الثاني 1926. لكن رجل بمواصفات عبد المحسن السعدون لا يمكن الاستغناء عنه في عالم السياسة لاسيما وان العراق مقبل على عقد معاهدة جديدة مع بريطانيا لذلك عهد اليه في 14 كانون الثاني 1928 وبعد استقالة حكومة جعفر العسكري بتأليف الوزارة الجديدة، فاشترط حل المجلس النيابي وقد تضمن منهاج الوزارة السعدونية الثالثة الأمور التالية: عرض المعاهدة التي عقدتها الوزارة السابقة على المجلس النيابي القادم، السعي لإعداد الوسائل الضامنة للدفاع عن البلاد. وقد سارعت الوزارة إلى حل المجلس النيابي وإجراء انتخابات نيابية جديدة وشكلت لجنة وزارية لإجراء مفاوضات مع المندوب البريطاني، إلا أن اللجنة لم تجد من الجانب البريطاني ما يحقق الأماني العراقية. فوضعت حلولاً مقابلة بحيث يتولى العراق مسؤولية الدفاع عن أمنه الداخلي ويحدد عدد الضباط البريطانيين في جيشه الوطني ولا يسهم في نفقات دار الاعتماد البريطانية في العراق. عرض السعدون نتائج المشاورات مع بريطانيا وموقف الحكومة العراقية منها على رجال السياسة من الموالين لوزارته والمعارضين لها واستشارهم فيما يجب عمله، فأيدوا موقفه وأشاروا عليه بالاستقالة لإجبار بريطانيا على القبول بالمقترحات التي قدمتها حكومته. فقدم استقالته في 20 كانون الثاني 1929 معلناً فيها فشل المفاوضات مع بريطانيا.
بقيت البلاد بدون وزارة مدة تزيد على ثلاثة أشهر، وبعدها عهد الملك إلى توفيق السويدي بتأليف الوزارة الجديدة في 28 نيسان 1929 وهي وزارة انتقالية مهدت لعودة السعدون إلى الحكم من جديد، لأنها لم تستمر طويلاً بالحكم اذ سرعان ما قدمت استقالتها في 25 آب من نفس العام. وقبل تشكيل الوزارة الجديدة فوضت بريطانيا وكيل معتمدها في العراق ان يبلغ الملك فيصل الأول في (14/ 9/1929) بما يأتي: (أن بريطانيا مستعدة لتأييد ترشيح العراق لإدخاله عصبة الأمم عام 1932، أن بريطانيا سوف تبلغ مجلس العصبة في اجتماعه القادم انها قررت عدم العمل بمعاهدة 1927، كما ان بريطانيا عازمة على ادخال العراق العصبة علم 1932) .
شكل السعدون وزارته الرابعة في 19 أيلول 1929، وأبدى اول ملاحظاته عن الوضع السياسي حيث أشار فيها إلى أن بريطانيا قد وافقت على العمل لإدخال العراق في عصبة الأمم المتحدة دون قيد أو شرط عام 1932. وكانت وزارة ائتلافية، ووضعت أسس عامة للدخول في مفاوضات مع بريطانيا، وقد وضع السعدون في مقدمة قائمة المهام لوزارته الأمور التالية:
1 ـ العمل على عقد معاهدة جديدة وتطبيقها لتسريع دخول العراق في عصبة الأمم قبل عام 1932، وأزاله أي صبغة للاحتلال البريطاني في صلب المعاهدة الجديدة.
2 ـ إنهاء مسؤولية بريطانيا الدفاعية عن العراق، وإناطتها بالجيش العراقي. وتطبيق قانون التجنيد الإلزامي، لبناء جيش كبير وقوي يستطيع القيام بالمهام المطلوبة منه.
3 ـ تقليص عدد الضباط البريطانيين في الجيش العراقي، وتقليص عدد المفتشين البريطانيين، والموظفين الذين لا تستدعي الحاجة إلى بقائهم، واستبدالهم بموظفين عراقيين.
4 ـ إعادة النظر في التعريفة الجمركية، وتشجيع الصناعات الوطنية وصمودها أمام المنافسة الأجنبية.
ولأن الوزارة السعدونية الرابعة هذه وزارة ائتلافية فقد قوبلت باعتراضات من قبل أعضاء حزبه (حزب التقدم)، ولاسيما بعد أن اشترك فيها ياسين الهاشمي، رئيس (حزب الشعب) المعارض، وزيراً للمالية. ففي اجتماع حزب التقدم في الأول من تشرين الثاني 1929، ألقى السعدون خطبة سياسية دافع فيها عن اختياره لياسين الهاشمي فقال: "أن ياسين باشا معروف بحسن بلائه في القضايا الوطنية. فقبول هذه الشخصية الممتازة في حضيرتنا، لدليل واضح على حسن نوايانا وعدم اهتمامنا بالفوارق الحزبية، وأنا لا أشك في أنكم تشاركونني في قناعتي هذه"، فاعترض بعض اعضاء الحزب على دخول الهاشمي في الوزارة، وجرت مناقشات على ذلك، فكانت النتيجة الحاسمة، أن وافق الحزب وبأكثرية ساحقة على اشتراك الهاشمي في الوزارة. وعلى الغرار نفسه عبر جعفر العسكري عن رأيه بخطوة عبد المحسن السعدون قائلاً: "إن اشتراك ياسين الهاشمي في هذه الوزارة الجديدة، بتقلد زمام وزارة المالية، وهو من اقطاب حزب المعارضة لدليل على أن الأحزاب السياسية في العراق متعاونة في السعي لبلوغ غايتها الواحدة، وهي انضمام العراق إلى عصبة الأمم بتحالف بريطانيا العظمى.
وعلى أية حال فأن الوزارة السعدونية الرابعة، قد انتهت بفاجعة كبيرة، إذ أقدم رئيسها عبد المحسن السعدون، على الانتحار في 13 تشرين الثاني.
بالإضافة إلى ما تقدم فأن عبد المحسن السعدون انتخب مرتين نائباً عن البصرة في مجلس النواب العراقي، في تموز 1925 وأيار 1928، فضلاً عن انتخابه رئيساً لمجلس النواب مرتين، في 27 تشرين الثاني 1926 و29 نيسان 1929 بعد ان حصل على دعم حزب التقدم الذي كان قد شكله مع مجموعة من السياسيين في 22 آب 1925.
وكان عبد المحسن السعدون وزيراً للداخلية في وزارتي عبد الرحمن النقيب الثانية والثالثة وذلك عندما اختير وزيراً بعد استقالة ناجي السويدي وزير الداخلية في الوزارة الثانية ثم وزيراً لنفس الوزارة في وزارة النقيب الثالثة في 20 أيلول 1922.
عُرف عن عبد المحسن السعدون، بكونه ذا توجهات قومية حيث كان داعماً وسانداً للقضايا العربية، ولاسيما الثورة السورية الكبرى في 21 تموز عام 1925 التي انطلقت ضد الاستعمار الفرنسي بقيادة ثوار جبل العرب في جنوب سورية، وانضم تحت لوائهم عدد من المجاهدين من مختلف مناطق سورية ولبنان والأردن تحت قيادة سلطان باشا الأطرش، وقد جاءت هذه الثورة كرد فعل على السياسات الدكتاتورية العسكرية التي اتبعتها السلطات الفرنسية. وكذلك دعمه لـ (ثورة البراق) التي اندلعت في القدس في 9 آب 1929 أيام الانتداب البريطاني على فلسطين. كما ويحسب للسعدون، نجاحه في ظل وزارته الثانية في حل (قضية الموصل)، أو مشكلة الموصل التي نشبت بين المملكة العراقية وجمهورية تركيا حول مصير ولاية الموصل ونجحت حكومته في ابقائها ضمن حدود العراق.
انتهت حياة عبد المحسن السعدون منتحراً في فجر 13 تشرين الثاني عام 1929، بعد ان تغلب عليه الإعياء والتعب لمواجهة مشاكل الحياة السياسية كونه سياسياً محنكاً، إذ وجد من تجربته ان الشعب يطلب شيئاً آخر، فاستولى عليه هذا الصراع لأنه أبى أن يخذل شعبه فسدد لنفسه مسدسه وأنهى بذلك حياته.
ان الكثير من المصادر اشارت الى ان واحداً من الأسباب التي أدت إلى انتحاره، مشاكله العائلية مع زوجته حورية خانم، إلا ان هناك من كتب عن سيرة السعدون استبعد ذلك مستنداً إلى وصية السعدون التي تركها قبل انتحاره حيث أوصى فيها ابنه على باحترام والدته.
وللشاعر معروف الرصافي رأي آخر في انتحار السعدون، حيث اتهم طه الراوي أحد أعضاء "حزب التقدم" بوشايته للسعدون لدى وكيل المندوب السامي الميجر يانك، لكنه لم ينكر ذلك وقال "ما قلت إلا الحق"، فسارع إلى معاتبته وتقريعه بكلمات خشنة وعنيفة أثارت في نفسه الحزن العميق لدرجة لم يعد يتحملها، ودفعته إلى الانتحار.
ومن الجدير بالذكر، ان السعدون سبق وان تعرض لمحاولة اغتيال من قبل شخص يدعى عبد الله حلمي في 10 آب 1926، ولكن الغريب أنه أعلن العفو عنه وتنازل عن حقه الشخصي، ولكن المحكمة أعلنت حكمها بحبس المتهم سنتين ونصف بموجب ما يعرف بالحق العام. وكان الجاني من أهالي دير الزور يعمل مأمور كمرك في مدينة كويسنجق إلا أنه فصل من وظيفته بسبب تجاوز اجازته التي كانت شهرين إلى تسعة أشهر، ثم عين موظفاً في وزارة المالية، وفصل منها لسوء
سلوكه، وقد حاول التوظيف بعد ذلك لكنه فشل، مما دفعه للتهجم على الحكومة واتخاذه قرار اغتيال رئيسها عبد المحسن السعدون.
تأسيس حزب التقدم برئاسة عبد المحسن السعدون:
شُرعَ الدستور العراقي الأول في 21/ 3/ 1925 بعد تأسيس الدولة العراقية في 23 آب 1921، وقد انبثق اول مجلس نيابي في ظل الدستور بتاريخ 8 حزيران 1925، وقبل افتتاح المجلس وفي 15 تموز من نفس العام اجتمع السعدون في بناية المجلس بمجموعة من أعضاء البرلمان الذين حضروا للتعارف وإجراء ممارسة لجلسة الافتتاح، ومن خلال هذا اللقاء أوضح لهم بأنه يرغب في تأليف أغلبية في مجلس الأمة، للقيام بتطبيق المعاهدة البريطانية ــ العراقية والسعي لإجراء التعديلات التي أشار اليها المجلس التأسيسي فنال التأييد من أكثر النواب. وتم الاتفاق بين الحضور على تنظيم تلك الأكثرية على هيئة حزب أطلقوا عليه (حزب التقدم)، الذي أجيز من قبل وزارة الداخلية في 22 آب 1925، وقد ضم الحزب خمسين عضواً وانتخب عبد المحسن السعدون رئيساً له، وأرشد العمري معتمداً، وضمت الهيئة الإدارية كلاً من: (كَاطع العوادي، محسن أبو طبيخ، إبراهيم يوسف، أمين زكي، محمد سعيد عبد الواحد)، وأصدر الحزب جريدة التقدم في 16 تشرين الأول 1925. وبعد انتحار السعدون انتهت حياة حزب التقدم كقوة سياسية فاعلة لما كان يتمتع به زعيمه من هيبة واحترام من قبل أعضاء الحزب، وعلى أية حال قرر أعضاء الحزب انتخاب الرجل الثاني في الحزب، ناجي السويدي. لكن كانت النهاية حتمية لانحلال الحزب بعد كثرة الانشقاقات الداخلية وخروج العديد من عضويته.
ردود الفعل بعد انتحار عبد المحسن السعدون:
اتفق كل من عرف عبد المحسن السعدون وعمل معه، ومن بحث وكتب عنه ان الرجل كان كريم الطبع مترفعاً شديد الاعتزاز بكرامته الشخصية والوطنية، وانه كان قليل الكلام عزوفاً عن الدعاية لنفسه، غير متطرف في آرائه ومواقفه.. كان وصوله إلى الحكم سهلاً بسبب مكانته العائلية ومميزات شخصيته الجيدة، فواجه سلطة انتداب اجنبية متصلبة وطامعة، وملكاً يمتاز بالحذر والشك، وعمل مع مجموعة ساسة من كل صنف ولون وشعباً فرحاً بدولته الجديدة مع تطلعات إلى استقلال كامل عن بريطانيا دولة الانتداب.
كان عبد المحسن السعدون وحسب ما كتب عنه سريع المحبة سريع الغضب، فلما طعن في حبه لوطنه وشكك في إخلاصه لهذا الوطن اعتباطاً وتجنياً.. صار الأمر عنده كارثة لا يمكن ان تحتمل فعمد إلى إنهاء حياته بهذه الصورة الدراماتيكية التي حافظ بها على سمعته وكرامته ولكنه دفع حياته ثمناً لها.
انتحار السعدون وهو في رئاسة الوزارة كان له اثاره المختلفة على كل من: الشعب، والملك فيصل الأول، وسلطة الانتداب. فقد أحدث هزة قوية لضمير الشعب، واثار نقمته على الإنكليز والمتعاونين معهم، وقد أحرج الملك وأضعف موقفه امام الشعب، لكنه منحه القوة امام سلطة الانتداب البريطاني التي وقعت في حيرة من امرها. وتجلت هذه الحيرة عندما نشرت الصحف نص وصية السعدون لولده على قائلاً فيها: ((الأمة تنتظر الخدمة والإنكليز لا يوافقون، ليس لي ظهير، العراقيون الذين يطلبون الاستقلال ضعفاء وعاجزون وبعيدون كثيراً عن الاستقلال، هم عاجزون عن تقدير امثالي أصحاب الشرف، يظنوني خائناً لوطني وعبداً للإنكليز، ما أعظم هذه المصيبة، انا الفدائي لوطني الأكثر اخلاصاً قد صبرت على أنواع الإهانات، وتحملت أنواع المذلات، وما ذلك إلا من اجل هذه البقعة المباركة التي عاش فيها آبائي وأجدادي.)) الأمر الذي تسبب بأثارة الرأي العام العراقي عليهم وخرجت الجماهير تهتف:
(عبد المحسن ناخذ ثارة وساعة بلندن مرهونة).
وفي لندن نشرت جريدة (التايمز) البريطانية في 15 تشرين الثاني 1929 أي بعد ثلاثة أيام من انتحار السعدون، رسالة لمكتبها الخاص في بغداد بعنوان: انتحار رئيس وزراء العراق ، المح فيها إلى وجود أسباب أخرى غير سياسية للانتحار. وقد نقل الكاتب نص رسالة السعدون بعد ترجمتها ثم علق عليها بـ "إن هناك محاولات يبذلها بعض المتطرفين لاستغلال انتحار السيد عبد المحسن السعدون لصالح سياساتهم إلا أن هناك ايضاً من أسباب ما يدعوا إلى الاعتقاد بما كان يقلق السيد عبد المحسن مؤخراً لم يكن قاصراً على السياسة فقط فمن عادة رؤساء الوزارة في العراق ان يتظاهروا بمستوى من الرخاء المادي وان يقيموا من الولائم ما هو على نطاق باذخ لا يمكن أن تسمح به رواتبهم ..." ويمضي الكاتب في سوق تبريراته " أن معظم العراقيين لا يميلون إلى تصديق ما يقال من أن انتحار السعدون كان نتيجة للكآبة التي شعر بها بسبب مستقبل العراق السياسي وخاصة في وقت كالحاضر حين تبدي الحكومة البريطانية ميلاً لأتباع السياسة أكثر من تحرر اتجاه العراق...". كما بعث وكيل المندوب السامي البريطاني (الميجر يانك) برقية سرية إلى حكومته تقول: " يؤسفني كثيراً أن اخبركم أن السيد عبد المحسن السعدون رئيس الوزراء في العراق قد أطلق الرصاص على نفسه في الليلة الماضية وقد قيل لي انه كان منذ مدة تحت ضغط شديد نتيجة للمطالب الموجه أليه من زملائه البريطانيين.. ان وفاته خسارة عظيمة للبلاد ولنا".
شعر العراقيون بفداحة المصاب بفقد شخصية وطنية مخلصة للعراق، فأتفق عدد من النواب ورجال الصحافة وبعض الشخصيات المعروفة على تكريم عبد المحسن السعدون من خلال لجنة تعمل على إقامة تمثال له يليق بسجله الوطني وتضحياته على ان يمول من تبرعات أبناء الشعب اسهاماً وتقديراٍ لدوره في الحياة السياسية والاجتماعية العراقية، وحظيت الفكرة بموافقة الملك فيصل الأول. وقد عهدت اللجنة إلى النحات الإيطالي الشهير بيترو كانونيكا لتصميم ونحت التمثال حيث سبق لهذا النحات ان نحت تماثيل مصطفى النحاس واتاتورك والجنرال مود.. كما انه عمل لاحقاً تمثال الملك فيصل الأول. أنُجز التمثال عام 1933 ورفع عنه الستار في ساحة صغيرة خضراء تقع في نهاية شارع الرشيد من جهة الباب الشرقي. وفيما بعد نقل التمثال من موقعه الأصلي بسبب حركة العمران في المنطقة إلى مكان يقابل مدرسة الراهبات، في بداية ساحة التحرير وفي عام 1972 ولنفس السبب نقل إلى موقعه الأخير في ساحة النصر واستقر هناك إلى لحظة الإجهاز عليه يوم 6 تموز 2003 أي بعد ثلاثة أشهر من الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق حينما اقتلع تحت نظر قوات الاحتلال في محاولة لمحو تاريخ البلد المتمثل برموزه الوطنية.
في نفس المكان وبمبادرة من آل السعدون وعارفي فضله أقيم تمثال مصنوع من مادة (الفايبر كلاس) بدل البرونز لكي يقف مجدداً كرمز من رموز العراق وشخصية وطنية لا تنسى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ــ جمعية الاتحاد والترقي: هي منظمة ثورية سرية تأسست باسم الاتحاد العثماني في إسطنبول في 6 شباط 1988 والتي أصبحت بعدها حزب الاتحاد والترقي، وتحولت فيما بعد إلى منظمة سياسية وكانت الفصيل الأول في حركة تركيا الفتاة. أوقفت نشاطها في 1 تشرين الثاني 1918.
2626 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع