الشاعر البغدادي الكرخي خضر الطائي يرحمه الله

        

من أعلام العراق: سلسلة يكتبها الدكتور اكرم عبدالرزاق المشهداني
الشاعر البغدادي الكرخي خضر الطائي يرحمه الله (1907 – 1969 م)

   

   

ولادته ونشأته:
ولد خضر بن الحاج عباس بن ضاحي بن عقاب الطائي  في بغداد سنة 1909، وفيها توفي. عاش في العراق ولم يغادره،  شاعر ومصنف ومحقق. ولد في منطقة الكرخ ببغداد، ترك الدراسة الابتدائية ودخل كتاتيب ذلك الزمان حيث تعلم قراءة القرآن الكريم والخط والحساب ثم قبل سنة 1919 في الصف الرابع من المدرسة الابتدائية لتفوقه في القراءة والحساب وبعد نجاحه إلى الصف الخامس أثر أن يترك هذه المدرسة ليلتحق بأحدى المدارس الدينية  لتلقي العلوم (الجادة) من نحو وفقه وكلام وتفسير ومنطق متتلمذا في ذلك على يد أبرز علماء عصره كالشيخ قاسم القيسي وعبدالوهاب النائب ونجم الدين الواعظ وحسين العبيدي.
ممارسته التعليم:
ثم أجتاز امتحان القبول سنة 1926 في جامعة أل البيت وتخرج فيها سنة 1929 بتوفق فعين مدرسا في الثانوية الرحمانية بالبصرة فحاول في نهاية السنة الدراسية أن  يعتزل التدريس ويلتحق بكلية الحقوق فحالت الظروف دون تحقيق أمنيته، فواصل رحلة التعليم على الملاك الابتدائي حيث عيّن عام 1932 معلمًا في مدارس الرمادي حتى 1941 حيث نقل إلى مدارس بغداد،
ولنقله الى بغداد قصة يرويها خالد القشطيني في مقالته "الشاعر المغدور" قال فيها:  
((... كان هذا الشاعر المغدور قضى سنين طويلة معلماً بسيطاً في المدارس الابتدائية في القصبات النائية من العراق. وبالطبع كان يتحرق شوقا لبغداد كأي بغدادي أصيل شعر بهذا الشوق اليها عندما كان مديراً لمدرسة الرمادي الابتدائية عام 1941 فبث همومه وعواطف أشواقه في قصيدة طويلة اشتهرت بين الناس. بث فيها معاناة نأيه عنها وشروده عن حياتها الهنية في تلك الأيام الهنية فقال في مطلع القصيدة:
إلامَ  يوسعني نأياً وتبعيداً   .... عيشٌ قضيت به الأيام تشريدا
نشرت هذه القصيدة عندئذ في الصحف العراقية المحلية وقرأها الجمهور وأعجبوا بها. كان بين من قرأوها السيد سامي شوكت، الذي كان عندئذ مديرا عاما لوزارة المعارف. ورغم أن سامي شوكت لم يكن معروفا كرجل من رجال الأدب والشعر، فإنه اهتز لعواطفها الجياشة. فقال «هذا شاعر يعاني من غيابه عن بغداد ويحن الى حياتها. حرام علينا ان نبقيه بعيدا عنها». فنادى على مدير الذاتية وقال له أصدر على الفور أمرا بنقل المعلم خضر الطائي من مدينة الرمادي الى بغداد. بعد أيام قليلة، فوجئ الشاعر بهذا الكتاب الرسمي بنقله الى حبيبة قلبه بغداد، بدون ان يطالب هو بذلك، أو يوسط أحدا لنقله. كانت مجرد استجابة إنسانية لرغبة إنسان شاعر في زمن كان الناس يقدرون فيه رغبات الناس وعواطفهم. أيام وفاتت....)).
في عام 1947 نقل الطائي إلى الملاك الثانوي مدرسا في الثانوية الشرقية للبنات ثم نقل إلى ثانوية الحلة للبنين ثم رجع إلى بغداد مدرسا في الثانوية الشرقية للبنين. ثم صادف أن كتب نقدا على ديوان أحد الشعراء في احدى الصحف المحلية  فإذا بقرار صدر عام 1950 يقضي أن يعود إلى الملاك الابتدائي مدرسة الكرخ الابتدائية وهو يبكي الكفاءة والأفكار الموجهة وضيعة الأدب عندنا. واستمر في مهنة التعليم حتى أحال نفسه على التقاعد (1966). نال الجائزة الأولى في مباراة شعرية أقامها نادي الجزيرة بالموصل (1943). وتوفي ببغداد في الثاني من تشرين الثاني 1969.
ماكتب عنه وفيه:
 كتب عنه أحد طلابه يقول: ((الاستاذ الشاعر خضر الطائي  كان مدرساً للغة العربية له أسلوبه الخاص في التدريس ، أذ كان يقسم الحصص الى تدريس (قواعد اللغة) في أحدها وفي أخرى تعليم الطالب كيفية أعتماد أسلوب كتابة (الانشاء) والحصة الاخيرة مخصصة الى (الشـّعر) حيث أولى هذه الحصة أهتمامه بحكم كونه (شاعراً) له ثقله في هذا المجال ، حيث كان يمـّـلي علينا أبياتاً من أحدى القصائد لشعراء لهم حضورهم في التاريخ العربي والاسلامي ويطلب من الطلبة حفظها ثم يردفها بكتابة نبذة عن تاريخ الشاعر من حيث الولادة والوفاة ونشاطه في مجال الشّعر وتأثيره في المجتمع الذي عايشه من خلال فترة ظهوره وشهرته وكذلك نبذة عن الشــّعر الذي نظمه وبالذات القصائد التي تأخذ شهرتها والمناسبة التي قيلت فيـــها، لهذا كان على الطالب أن يحفظ القصيدة والالمام بتاريخ الشاعر المنظم لها والمناسبة التي قيلت فيها، هذه الطريقه تعكس اسلوب الدراسة التي كانت معتمدة من قبله والتي تتصف (بالنموذجية) وقد أختفت من بعده ولم نعّد نرى مثيلاً لها في زماننا هذا .
المرحوم خضر الطائي (أبو تمام) : شاعر كبير له قصائده المغناة ، ومطرب المقامات واستاذها الكبير المرحوم محمد القبانجي كان له الحظوه الكبرى في أختيار نماذج من أشعاره ، ومن أبرز ما أختاره من تلك الاشعار ، القصيد الرائعه التي مازالت لها صداها وتأثيرها السحري الكبير على المستمع عند إذاعتها من وقت لآخر رغم مرور أكثر من نصف قرن على أذاعتها لاول مره ، ومن أبياتها:-
بلاديّ وأن جارتّ  علـّي عزيزة  وأهلـّي وأن شحّوا  عــّلي كـّرام
لنتأمل أبيات هذه القصيدة ، ونتلمس سمو معانيها ، انها عتاب محبب لمعاناة شخصية للشاعر تجاه بلده لكنها لم تخرج عن المسموح في عتابه المهذب والمقبول . وتعكس قدرة الشاعر على التعبير عن مشاعره وتأثير خياراته في المتلقي من المواطنين . والآن عندما أتطلع الى طريقة الدراسة التي يخضع لها أولادنا حاليا ً ومن يتصدى لهذه المهمة من أجيال المدرسين الحاليين ومقارنتهم بأجيال الاساتذه الكبار الذين تولوا تدريسنا وبناء قواعد وأسس تعليمنا وتربيتنا ، تخنقني العبرة وتسيل الدموع حزنا لما وصّـل اليه أسلوب التعليم من نتائج محزنة لا أستطيع التعبير عنها الا بالحسرة والاسى مع النفس .تحية إكبار لكل من بنى الاجيال السابقة من المربيّن الافاضل)).
كان خضر الطائي من الكتيبة التي تَوَلّت حُداء المجد العربي في العراق الحديث، وهو من مدرسة شعرية جمعت بين أصالة القديم وصفاء القريحة، وهو بذلك يمكن أن يسلك في عقد الشعر العباسي، امتلك من أسباب الشاعرية ما جعله يقف بثبات إلى جنب شعراء العراق أمثال: الرصافي، الزهاوي، محمد رضا الشبيبي، بهجت الأثري، حافظ جميل، والجواهري.. وإن إختلف طابع كل واحد من هؤلاء، إلا أنهم ينتمون الى مدرسة الرصانة والفحولة في الديباجة وسلامة البيان. إنكَبّ الطائي يتنخل عيون الشعر في سجل (ديوان العرب) ثم استولى عليه حُبّ شاعرين: أولهما في القديم والثاني في الجديد (عصراً وفناً)، أبي تمام حبيب بن أوس الطائي، وأحمد شوقي. فإنه كان يرى في الأول: قِمّة في الشعر العربي تجديدا وابتكاراً، وفي الثاني: عبقرية فَذّة قلّما تجود بمثلها عبقرية شعرية عند العرب. واستبد هذا الإعجاب حتى سمّى ثاني أنجاله (تَمّاماً) وبه كانت كنيته، وحاكى الثاني بريادة الشعر المسرحي في العراق.
بدأ الطائي بنشر ماتجود به قريحته في وقت مبكر من حياته، كان ذلك في حدود سنة 1926م ، ثم بَكّرَ في كتابة (المسرحية الشعرية) بعد نشر بعض المسرحيات الشعرية لأحمد شوقي.  هذا وقد مَثّلَ شعره تاريخ جهاد الأمة العربية لمدة تقرب من من خمس وأربعين سنة من الزمن، ترجم فيها آمالها وبكى مصائبها وحنّ لِغُرّ أيامها الماضيات، بدأ ينشر ماتجود به قريحته من سنة 1926م حتى قبيل وفاته.. فقدحاول الشاعر ان يكون سجلاً لأحداث عصره - على عادة شعراء النصف الأول من القرن العشرين - سواء في العراق أو في الوطن العربي أو العالم، وهكذا أخذ «الوصف» مداه حتى فيما يعد من شعر الوطنية أو القضية الاجتماعية، وفي هذا الشعر تبدو الآثار التراثية - بعد الوزن والقافية - في الألفاظ، والصور المجازية والإشارات التضمينية. وصرف جُلّ ما نظم في معالجة القضية المركزية لنضال العرب، قضية فلسطين، وأذاع فيها روائع يعتز بها الشعر العربي الحديث.. فأجاد في إبتكار صور النكبة وما آل إليه مصير (القدس) ثالث الحرمين وأولى القبلتين. وجلّ نفحات الطائي في الأحداث الوطنية والقومية حيث استوعب شهداء أحداث الوطن منذ عام 1925 حتى عام 1958.. فكتب في ثورة (2 مايس 1941م) ورثى شهدائها، وبكى شهداء معاهدة (بورتسموث 1948)، ولم ينسَ ثورة الجزائر، وثورة 14 تموز 1958.
وقد توزع شعره كل فنون الشعر العربي، إذ أنه نظم في الغزل، كما كتب في الرثاء، و(الإخوانيات)، والوصف، وقد تنَزّه عن الهجاء، لأنه يرى فيه ثلباً للأعراض وخروجاً على الحرمات. وللطائي غُرَرٌ في حاضرة التراث العربي "بغداد" ذهبت أبياتها أمثالاً شوارد عند أهل الأدب.. منها قصيدته التي يتناغم بها الأستاذ محمد القبنجي في أحد المقامات العراقية المؤثرة.
ومما يؤسف له أن أكثر شعر الشاعر خضر الطائي هذا الشاعر المحلق قد ضاع، إذ لم يُعتنَ به ولم يُحفل بجمعه، وقد انتشل الشاعر عبدالله الجبوري ابرز ما كتب الطائي مبقياً على معلقات الشاعر التي أثبتها في قصائده ومزيناً القصائد بشرح مقتضب لبعض المفردات الغامضة وبالمصادر التي استند إليها في اجتزاء القصائد.
الإنتاج الشعري:
وقد خلف الأستاذ الطائي المؤلفات المطبوعة التالية:
•"قيس لبنى" – مسرحية شعرية طبعت بمطبعة بغداد سنة 1934 .
•"تحقيق وشرح ديوان العرجي" بالاشتراك مع الأستاذ رشيد العبيدي سنة 1956
•"دليل النحو الواضح"  كتاب منهجي مدرسي بمشاركة الأستاذ رشيد العبيدي
•"أصحاب الكهف والرقيم" – مسرحية شعرية مطبعة دار التضامن سنة 1961
•"سيف بن ذي يزن" مخطوطة.
•أبو تمام الطائي من مطبوعات وزارة الثقافة والارشاد بغداد سنة 1966 (وفيه نقد لآراء طه حسين وعمر فَرّوخ)
وكتابه الأخير عن أبي تمام الطائي هو من خيرة الكتب التي غربلت بدقة وحذق سيرة أبي تمام وجلت حقيقته للتاريخ والأستاذ الطائي يرد في كتابه هذا بأقوى الحجج المنطقية والوثائق التاريخية على الأخ الصديق العلامة الدكتور أبو تمام شاعر الخليفة محمد المعتصم بالله الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1935 والثانية سنة 1964 .ولما كان الدكتور فروخ قد استمد فكرته من محاضرة ألقاها الدكتور طه حسين في قاعة " يروث " التذكارية عن أبي تمام سنة 1933 نشرها سنة 1936 في كتابه – من حديث الشعر والنثر " فقد رد الأستاذ الطائي على الدكتور طه حسين بحجج منطقية لا ينكر قوتها المنصفون فقد فند الطائي ما ذهب أليه من يونانية أبي تمام وأعاد الطائي  أبي تمام ألينا عربي الأصل والبيان .
- له قصائد منشورة في مصادر الدراسة، وله ديوان مخطوط.
نماذج من شعره:
قصيدة روعة الشعر
ابتغِ النجمَ للخلود مكانا      واجعلِ الفنَّ سلَّمًا والبَيانا
وتأمَّلْ زهرَ الطبيعة في رَبْـ   ـوَتِها تلقَ روعةً وافتِنانا
كوَّنتْه يدُ الربيع منَ الفَنْـ     ـنِ ومِنْ سحرِه البليغِ فكانا
كلما طافتِ العيونُ عليه       شاهدتْ فيه منظرًا فتّانا
يتهادى على الزمان ويزهو   في نواحي الحياة آنًا فآنا
هِبةٌ من مواهب اللهِ جاءتْ   لتُغذِّي العقول والوِجدانا
ملأتْ ساحةَ البسيطةِ تِبْرًا   و لُـجَينًا ولؤلؤًا وجُمانا
فرَبَتْ مثلَ جنةِ الخلْد في الزَّهْـ    ـوِ، وأحيتْ بروحها الأذهانا
نسج الفنُّ جانبيها وَوَشّا      ها فرفَّتْ خمائلاً وجِنانا
طاف فيها براحتَيْه ابتِداعًا     فأقامت لشكره مِهْرجانا
فالتمسْ في نسيمها روعةَ الشِّعْـ    ـرِ وحُسنَ الخيال والألحانا
وكنِ البلبل الذي إن تغنَّى         سحَرَ الكونَ صوتُه والزمانا
و تلقَّ المعانيَ الغُرَّ منها          تَلْقَ أبكارَهُنَّ فيها حسانا
يا لسانًا جرى البيانُ عليه        لا عدمناكَ في البيان لسانا
جئتَ تُحْيي من سحر هاروتَ روحًا   مانحًا كلَّ شاعرٍ شيطانا
فنزلت البيانَ يا بلبلَ الشِّعْـ      ـرِ كما ينزل الهزارُ البانا
كلُّ معنًى أغرُّ تأتلق الأفْـ       ـكارُ فيهِ بلاغةً وبيانا
تتجلَّى فيه العواطف أحيا      نًا وتبدو فيه النُّهى أحيانا
قد صفا كالرحيقِ أو هو أصفى    منه لألاءةً وأشهى دِنانا
رقَّ حتى غدا كطرفِ مُحبٍّ   بات يرعى طيفَ الرضا وَسْنانا
القوافي أجفانُه والمعاني الـ   ـغُرُّ، كالطَّيفِ ينزل الأجفانا
إنَّ في جِلَّقٍ لنا عندليبًا       كلَّ حين يردِّدُ الألحانا
حرَّكتْهُ بسحرها حين ألفى    «بَرَداها» مُصَفِّقًا نشوانا
سائلا كاللُّجَيْنِ والشمسُ ألقتْ   فوقَه من شُعاعها عِقْيانا
فرأى في ضِفافِه جنةَ الخُلْـ   ـدِ، فغنَّى فبوّأَتْهُ الجِنانا

قصيدة نوح الحمام:
أُقـيـمتْ عـلـيكـم فـي الصدورِ الكـواتـــمِ   مآتـمُ لا تـنفكُّ إثْرَ مآتـــــــــــــــمِ!
تجلَّدَ فـيـهـا القـلـبُ خشـيةَ شــــــــامتٍ   بـلـوعتِه فـي الـحـزن، أو خـوفِ نـاقــــم
فإن يـمـنعـونـا فـي الأسـى صـوتَ مـنــبرٍ فلن يـمـنعـوا سـيلَ الـدمـــــوعِ السَّواجِم
وكـيف عزاءُ القـلـب وهـو مكـابـــــــــدٌ     مُصـابًا رمـاهُ بـالقـروح الكَوالــــــــم؟
إذا اشـتدَّ حَرُّ الـوجـد فـي جنـبـــــــاتِه     شفـاهُ بـدمعٍ يُطفِئُ الـوجـدَ سـاجـــــــــم
فـمِن حَزَنٍ نـبـدي محـاجـرَ بـــــــــــائحٍ   ومِن حذرٍ نـبـدي تجلُّدَ كـاتــــــــــــــم
شَرقْنـا بـمـنهلِّ الـدمـــــــــــوع لنكبةٍ  تـنـوح بـهـا الأيـامُ نـوحَ الـحـمــــائم
تجـرَّأ فـيـهـا الخـائنــــــــون فأنفذُوا  سهـامَهُمُ فـي الـمخلصـيـن الأكــــــــارم
صلاحٌ ومحـمـودٌ وفهـمـي ويــــــــــــونسٌ  شبـابٌ تسـامَى للعُلا والـمكـــــــــــارم
ومـا نقـمـوا مـنهـم سـوى أن ديـنَهـــــم  دعـاهُم إلى حـرب العـدوِّ الـمهـاجـــــــم
أيرجـون مـنـا أن ننـامَ عــــــلى القَذى؟ وأن نـتغاضى دون رغْمِ الـمــــــــــراغم؟
عفـاءٌ عـلى الـدنـيـا إذا لـم نَسُدْ بـهــا وأيـامُنـا مشهـورةٌ فـي الـمـلاحـــــــم!
ألا يـا بُغاةَ الشـرِّ مـا ضرَّ لـو مشــــــتْ  سـيـاستُكـم فـي غـير طُرْق الـمآثـــــــم؟
قتلـتـم حُمـاةَ الـديـن والعِرْضِ والـحـمــى وقـيّدتُمُ أنصـارَهـم بـــــــــــــالأداهِم
فتَحتُم بـهـاتـيك الـمشـانق فتـــــــــنةً  تعـود عـلـيكـم بـالخطـوبِ الجســـــــائم
وقـد خُيِّروا بـالـذلِّ أن يـتَّقـــــوا الردى   فلـم يرتضـوا إلا سبــــــــــيلَ الضراغم
إذا شـيَّد الأحـرارُ بـالـدمِ مـجـدَهــم   فذلك مـجـدٌ خـالـدٌ فـي العـوالــم
أشَرَّ شعـوبِ الأرض فــي الأرض    خسَّةً لقـد آنَ أن تلقَوا جزاءَ الجــرائم
ظننـتـم بأنّا بعـد نقْضِ عهـودِكـم       سلامٌ، وأنّا أمّةٌ لـم تُسـالـــــم
سـيذكركم تـاريخُكـم وهــو مطرقٌ    ويذكُرُنـا فـي الفـاتحـيـن الأعـاظـم
ولا بـدَّ مـن يـــومٍ أغرَّ مُحجَّلٍ         تلاقـون فـيـه ثـائرًا غـيرَ راحـــم
تـرَونَ له فـي الروع غضْبَةَ حـاقـدٍ  وبطشةَ مـوتـورٍ وضربةَ نـاقــم
تعـيثـون فـي الأرض الفسـادَ سفـاهةً  وهـا أنـتـمُ بُؤْتـم بشَرِّ الخـواتــم
يقول عنه الأستاذ جميل الجبوري في مقالته (خضر الطائي ذكريات ايام عرفتها):
(( رأيته للمرة الأولى سنة 1942 يوم كان معلما للغة العربية في مدرسة المأمونية الابتدائية وأنا طالب في الصف السادس في تلك المدرسة. كان أستاذنا خضر الطائي في أواسط العقد الرابع من عمره قصير القادمة. مستقيم الهامة, نحيف الجسم, يكتنز وجهه المستطيل الأسمر الكثير من الوقار البريء من الصرامة وتفصح عيناه السوداوان الواسعتان النافذتان الوديعتان عن ذكاء متوقع. ولما شرع الأستاذ بالتدريس سحرنا لا بإلمامه الواسع الذي لم نألفه في غيره من الأساتذة ولا بطريقته البارعة في التدريس وحسب وإنما باعتزازه باللغة العربية الذي تصاعد لهجته الواثقة ونبراته القوية المعبرة. وبعد انتهائه من الشرح والتوضيح أحال نظره في الطلاب ووجه سؤاله للجميع فرفعت الأيدي من بعضهم فلم يعبأ بمن رفع يده بل باغت من توسم فيه الإجابة الصحيحة من الطلاب بإشارة من يده اليمنى مصحوبة بكلمة "أنت" المجلجلة كالرعد. وملأ هذا الأستاذ الجليل نفوس طلابه بالمحبة والإعجاب والاحترام. وشق علي أن أفارقه بعد انتهاء العام الدراسي وانتقالي إلى مرحلة الدراسة المتوسطة, ولم يدر بخلدي أنني سألتقي بأستاذي خضر الطائي سنة 1948 كصديق جمعتني به حرفة الأدب بكل شؤونها وشجونها, وكان اللقاء في مقهى شعبي متواضع في محلة جامع عطا بالكرخ وبصحبتي صديق شاعر من زملائي الطلاب في ثانوية الكرخ، وكنا نجول ونصول في عالم واسع من الشعر والأدب والنقد والتاريخ والذكريات ولا يبخل علينا صديقنا الطائي في كل لقاء بنكاته الدسمة التي تزلزلنا ضحكا وما احلى وما أشهى نكاته وذكرياته عن صديقيه الشاعرين جميل الزهاوي وعبد الرحمن البناء رحمهما الله. ولو أتيح لتلك الأحاديث الأدبية العذبة آلة تسجيل أو قلم مدون لكسبنا أجمل وأمتع وثيقة أدبية من وثائق الأربعينات ويؤسفني أن مشاغل الدراسة وكتاباتي الأدبية المتواصلة في الصحف آنذاك حالت دون العناية بتسجيل تلك الإجادات والنوادر ما خلى قصيدة أخوانية مُطعَّمة بالغزل أرتجلها شاعرنا خضر الطائي في مقهى جامع عطا  سنة 1948 يداعب فيها صديقه وصديقي الشاعر فقد دونتها فورا في دفتر مذكراتي وها هي القصيدة من غير زيادة أو نقصان:
يا شفيقا على الهوى والأماني            أتراني ’أنكر وصل الحسان’
كم زمان لهوت فيها بلثم                  تتلاقى في رشفة الشفتان
وليال همست فيها بنجوى              هي أشهى من عبقري الأغاني

وعنان يضم صدرا لصدر            يهصر النهد حين يلتصقان
يا لها لوعة إذا ما تلاشت            جددتها الذكرى بوصل الغواني
’ كيف أسلو صبابة’              جذوة في جوانبي وجناني
ما أراني مصاحبا غير صب         كشفيق وطارق وفلان
أنــا أهوى (أيفا) وطارق يشكو     من سهام وأنت من لمعان
وعلى أثر وثبة 1948 جرت احتفالات شعبية تخليدا لشهدائنا الأبرار الذين انهمر عليهم رصاص عقادي معاهدة " بورت سموث " الجائزة المقبورة, واحتفلت محلة جامع عطا بجانب الكرخ بهذه المناسبة الوطنية في جامع عطا وكان من خطباء ذلك الاحتفال الأستاذ خضر الطائي (قصيدة).  وفي سنة 1949 استبدلت مقهى جامع عطا بمقهى البيروتي على شاطئ دجلة (ساحة سيارات دائرة التقاعد بالقرب من جسر الشهداء في الوقت الحاضر) وكانت من أحفل وأجمل مقاهي بغداد ونلتقي في فترات متباعدة في بيتي حيث يتكرم علي الصديقان الشاعران بزيارة نجول فيها ونصول في عالم الأدب والفكر ورغم انسجامي مع الأستاذ الطائي خلال تلك الجلسات الأدبية الرائعة الممتعة فهناك بعض الأمور التي لا يصح نكرانها ومنها انه من جيل غير جيلي فلا بد أن أكون أكثر من اندفاعا نحو التجديد وهو يحمل تريث الكهول أما أنا فأحمل نزق الشباب وتأجج مشاعرهم . فلا بد أذن من الاصطدام يوما ما هكذا كان ففي جلسة من جلساتنا في مقهى البيروتي سألت الأستاذ خضر : هل توجد في مكتبتك دواوين الزهاوي ودواوين الرصافي فأجبته ساخرا أنا أسألك عن الدواوين الحديثة وأنت تجيبني عن دواوين شعراء الجاهلية. فلم يغفر لي الأستاذ الطائي هذا التصرف الساخر وتملكه الغضب فقال لي أنت تهدم بهذا الطرف في التجديد كل ما شيده المرحوم والدك.))
ويضيف الأستاذ جميل الجبوري:
((..  وافترقنا بعد هذه البادرة المكدرة وبعد سنين من الجفوة التقينا وتعانقنا عناق شقيقين. ولما صدر الطائي مسرحيته الشعرية الرائعة "أصحاب الكهف والرقيم" سنة 1961 تلطف علي بنسخة كتب عليها إهداء يحمل الشيء الكثير من تواضعه وثقته بتلميذه القديم وصديقه الحميم. وقد كتبت عن تلك المسرحية الشعرية التي استوعبت بالشعر ما كتبه الأديب الكبير الأستاذ توفيق الحكيم في مسرحيته النثرية الشهيرة "أهل الكهف" ما أثلج صدري وصدر الأستاذ الطائي ومن الجدير بالذكر أن خير من قيم هذه المسرحية الشعرية على ضوء الفن المسرحي هو الأخ الدكتور علي الزبيدي حيث قال عنها في كتابه القيم "المسرحية العربية في العراق" التي تضمن محاضراته التي ألقاها على طلبة قسم الدراسات الأدبية بمعهد البحوث والدراسات العربية بجامعة الدول العربية في السنة الدراسية 1966-1967 ص 192-193  أن الأستاذ خضر الطائي قد أبدع في وضع مسرحية أهل الكهف لتوفيق حكيم حين أعاد تأليفها شعراً باسم "أصحاب الكهف والرقيم" وعندي انه قد وفق في ذلك رغم بعض الهنات  المتعلقة بتحريك الشخصيات في المشاهد. وأكبر دليل على نجاحه أنك لا تمسك بمسرحيته وتشرع بقراءة صفحاتها الأولى حتى تمضي في القراءة وأنت مبهور النفس غير راغب في التوقف وأحسن ما أتمناه أن يتحقق هذا النجاح أيضا عند تمثيل المسرحية على المسرح وأرجح انه سيحدث إلى أن أصحاب الكهف والرقيم لخضر الطائي قد تنجح على المسرح أكثر من نجاح المسرحية النثرية التي بنيت عليها لأن الشعر أقوى على تحريك العواطف وإثارة الشجون بشأن حكم الزمان ووصف وضعف الإنسان واستسلامه المطلق لنير الزمان وسلطان التاريخ.. ))
وإذا كان خضر الطائي الموظف قد حورب بهذا الشكل القاسي الذي أشار أليه الأخ الكنين فأن خضر الطائي الأديب الشاعر قد كوفئ حال حياته بحفلة تكريمية كبرى أقاماتها له صفوة من أدباء وشعراء بغداد في نادي التجدد بالعيواضية في 25 تموز 1934 أثر فوزه بمسابقة أدبية أجارها نادي الجزيرة في الموصل تخليدا للشاعر أبي تمام وقد أفتتح الحفل الأستاذ محمود شوكة صاحب مجلة الزهراء الأدبية الشهيرة بكلمة ثم تلاه الأخ الأستاذ الأديب محمود العبطة بكلمة منصفة وافية بعنوان الأستاذ الطائي كما اعرفه وتلاه الأستاذ  المرحوم محمد هادي الدفتر بقصيدة طويلة . وغنى بعدها الأخ الأستاذ الكبير محمد القبانجي موالا على طريقة "مقام القطر" ثم أعقبه الشاعر المرحوم عباس العبدلي بقصيدة عاد بعدها الأستاذ القبانجي ليترنم بقصيدة أبي تمام الرائعة :
يوم الفراق لقد خلقت طويلا ً         لم تبق لي جلدا ولا معقولا ’
وأعقبه الشاعر المرحوم كمال نصرت بقصيدة أعقبها القبانجي بغناء لقصيدة المحتفى به الأستاذ خضر الطائي عن بغداد :
سلامٌ على دار السلام جزيلُ... وعُتبى على أن العتاب طويلُ
فبغدادُ لا أهوى سواكِ مَدينة... ومالي عن أن العراقِ بديلُ

حنانيك ما هذا الجفاء و لم يكن.........ليصرف قلبي عن هواك عذول
و لم تلهني عن شاطئيك مناظر........زواه و لا عن ساكنيك قبيل
خيالك في فكري و ذكراك في فمي...وحبك وسط القلب ليس يزول
رمى الدهر قلبي بالبعاد و بالنوى.......لك الله يا قلبي فانت حمول
رعى الله صحبي في الرصافة انهم.....بقلبي على بعد الديار نزول
وفي الكرخ اهل لا اود فراقهم..........ولا شاقني عنهم هوى و خليل
ولم انس في يوم عهود احبتي........ولكن صبري في الفؤاد جميل
وأعقبه الشاعر محمود المعروف بقصيدة ثم الأستاذ المرحوم عبد المحسن القصاب بكلمة فقصيدة للشاعر مكي عزيز فكلمة للأستاذ عبد المجيد الملا فقصيدة لشاعر الاستقلال المرحوم عبد الرحمن البناء،  أما مسك الختام فقد كانت قصيدة الأستاذ الطائي التي بلغت 144 بيتا ومن عيونها قوله:
أأرفع رأسي أم أطأطأ للثنا             فقد نلت من آدابكم غاية المنى  
تقدمت حتى قيل من ذلك الفتى      فلما خبرت الأمر أنكرت من أنا
وألهيت نفسي عن معارف لحنها    فأحزنها أن أترك الشعر موهنا
فقلت لها لهفي على الشعر أنني    أرى قدره أمسى على الناس هينا
لقد عاد من لا يحس الشعر أرشدا  ومن لا يجاري فيه سيين عندنا
ولا يعرف الفضل الكبير لربه      وأن كان أسمى في البيان وأمكنا
وقد أحسن الأستاذ محمود العبطة عندما جمع القصائد والكلمات التي ألقيت في تكريم الأستاذ خضر الطائي في كتاب سماه " شعر و تغريد "أنفق على طبعه مشكوراً صديق المحتفي به الأستاذ محمد القبانجي سنة 1968 وتشاء الأقدار أن يرحل عن عالمنا شاعرنا وصديقنا الوفي الأستاذ خضر الطائي بعد عام من صدور هذا المجموعة التي خلدت مأثره فقد فاضت روحه الطاهرة في الثاني من تشرين الثاني 1969 فبكيته وحضرت مجلس الفاتحة وبكاه وآسف لفقده كل من عرفه من أخوان الصفاء وخلان الوفاء.
ذكرياتي مع الشاعر الأديب خضر الطائي:
 المرحوم كان من سكنة الكرخ منطقة الرحمانية (الجعيفر الثانية) وكنت التقيه من خلال اولاده عبدالكريم وعبدالستار وهما من اصدقائي الاعزاء، وكنت ازورهم في بيتهم واستمع بشغف الى أحاديث المرحوم والدهم ففي الاستماع اليه متعة وفائدة وكلامه كله ادب، ومن المؤسف ان هذا الرجل رحل قبل اوانه فهو لم يعمر كثيرا، كما انه عانى ضعف الحال في عدم قدرته على طباعة مؤلفاته واشعاره، ولكن كان لتداول كلمات اشعاره في المقامات العراقية من قبل المغنين وبالاخص الفنان محمد القبانجي تلك القصائد التي تتغنى بحب بغداد وعشقها، اثر مهم في تخليد اسم الشاعر خضر الطائي يرحمه الله.
بغداد.... كلمات الشاعر/ خضر الطائي ... غناء الفنان / محمد القبنجي
https://www.youtube.com/watch?v=SAjSntEL4OM
القصيدة بصوت المطرب الكبير محمد القبانجي
والقصيدة ذاتها بصوت السيد الشيخ وليد إبراهيم
https://www.youtube.com/watch?v=Vp9pu3dXJ9Q
مصادر الدراسة:
1 - جعفر صادق التميمي: معجم الشعراء العراقيين المتوفين في العصر الحديث ولهم ديوان مطبوع - شركة المعرفة للنشر - بغداد 1991.
2 - حميد المطبعي: موسوعة أعلام العراق في القرن العشرين - دار الشؤون الثقافية - بغداد 1995.
3 - خلف شوقي الداودي: ذكرى سعد زغلول في العراق - مطبعة دار السلام - بغداد 1927.
4 - غازي عبدالحميد الكنين: شعراء العراق المعاصرون - مطبعة الشباب - بغداد 1958.
5 - كوركيس عواد: معجم المؤلفين العراقيين في القرنين التاسع عشر والعشرين - مطبعة الإرشاد - بغداد 1969.
6 - محمود العبطة: شعر وتغريد (جمع) - مطبعة الحرية - بغداد 1968.
7 - يوسف عزالدين: شعراء العراق في القرن العشرين - مطبعة أسعد - بغداد 1969.
8. دار الشؤون الثقافية / آفاق عربية بغداد  "مختارات من شعر خضر الطائي" 2000
9. خالد القشطيني "الشاعر المغدور" جريدة الشرق الأوسط 5 تموز 2007
10. جميل الجبوري: "خضر الطائي.. ذكريات أيام عرفتها" جريدة المدى ملحق ذاكرة عراقية – بغداد 24/4/2011
    

بغداد وكرخها معشوقة خضر الطائي.. تغنى فيها ولها
 
  

كان المرحوم خضر الطائي كثير التردد على شارع المتنبي ومكتباته ومن اهمها مكتبة المثنى

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1289 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

تابعونا على الفيس بوك