مـربّون في الذاكرة: رحلة مع بناة الأنسان العراقي (1)
تحت سماء الوطن، فتحوا ابوابا، ورسـموا احلاما لأجيال كثيرة.رغم ان اغلبهم دخل سلك التدريس بدافع (المعيشة)، الا انها اضحت مع الوقت، ظلّهم الذي يلازمهم ويصاحبهم، فمنحوا هذه المهنة قلوبهم، واجمل سنيّهم.
ومع مضي اوقات كثيرة منذ ان تركوا المهنة، او تقاعدوا منها، الا ان كلمة (سـت) و (استاذ) مازالت حاضرة في وجدانهم، ومازالت قادرة على حملهم الى العالم الجميل الذي كان سائدا.
لست مبالغا لو قلت، ان الطريقة التي يمكن قياس رقي اي بلد، او مجتمع، هو من خلال الحكم على سياسته التربوية، على اساليب التعليم، على المناهج والبنايات ومرافقها المهمة، على الفعاليات التي ينغمر فيها التلاميذ، وربما الأهم من كل هذا وذاك، هو الكادر التدريسي، ان كان بواقعهم الأقتصادي أوحقوقهم ودور المؤسسات المعنية في رفع شأنهم ومستواهم. ورغم اننا نعيش في بلاد جديدة ، الا ان هذا لا يمنع ابدا من تكريم جيل المعلمين والتدريسيين الذين قدموا الكثير، فمسيرتهم تلك تستحق منّا، نحن ابناء العراق الأوفياء، ان نشكرهم ونقدم لهم الأمتنان، اينما كانوا منتشرين في بلاد الغربة، ان كان بالكتابة عنهم، بنشر قصصهم وذكرياتهم وصورهم، أو ربما سيقوم البعض بالأحتفال بهم في مناسبات الجالية ايضا. فدعونا نقوم سوية بتكريس واقع جديد فيما بيننا، واقع الأحتفال والأفتخار والأعتزاز بكل مبدع، خدم بصدق وتفان، حتى وأن تجاهلت المؤسسات المعنية دورها في القيام بذلك!
وفي هذه المناسبة، ادعوكم لرحلة قصيرة مع بعض الوجوه العراقية التي خدمت في سلك التدريس في عهود مختلفة. ويقينا ان في جعبة كل واحدا منهم قصصا كثيرة وحكايات وذكريات، وستسمعوهم سوية وهم يصبوها في مجرى واحد كبير، هو حب الأنسان ورفعته.
المربي حيـدر مطشـّر لازم
من مواليد محافظة ميسان، ناحية السلام (الطويّل) في العام 1943.
درس الأبتدائية في مدرسة الأزرقية (المثنى) بمركز العمارة
المتوسطة في مدرسة التحرير بمركز العمارة
بعدها انتسب الى دار المعلمين ، في قضاء العمارة، حتى تخرجه في العام 1964.
حال تخرجه عيّن في مدرسة بقرية (الضلع) التابعة لناحية السلام، والواقعة بين مقاطعتي آل ازيرج وبين العيسى والبزون. بعدها في مدرسة الوحدة الريفية، ثم عاد لمدرسته، مدرسة (المثنى) من جديد، تلاها في مدرسة (الكحلاء) الأبتدائية، ثم الى مدرسة اخرى في منطقة - الدفاس- ثم في منطقة – المشـّرح- وأخيرا انتقل الى بغداد وعين في مدرسة (القدس لنا) والواقعة في منطقة الراشدية. بعد هاتان السنتان يقول، اكملت خدمتي وأحلت للتقاعد.
لم تغريني فكرة التقاعد كثيرا، ففتحت ورشة (لتصفية الذهب) في شارع النهر، ومحلان لبيع الذهب في مدينة الثورة، ثم ورشة لأنتاج بعضرالمستلزمات المستخدمة في الكهربائيات (الكلبسات)، حتى العام 2004، حيث قررنا الخروج والرحيل عن العراق أثر تردي الأوضاع الأمنية وأستهداف المكون (المندائي) من بعض العصابات. امضينا 4 سنوات صعبة في سوريا بأنتظار مصيرنا القادم، ووصلت مع عائلتي الى مدينة ديترويت منذ العام 2008.
ابرز هواياته هي متابعة الأنترنيت، القرأة، خاصة في كتب التأريخ القديم، والكتابة. كما قدم، ويقدم ، مسلسلا ثقافيا عبر شبكات الأنترنيت "أثر الصابئة في الحضارة العربية، بالعصر العباسي" وهو يكتب عن الشعراء القدامى، كما قدم مسلسلا عن العلاقات العامة والشخصيات المشهورة في مدينته (العمارة) بعنوان " سوالف من هلي" .
في منزل المربي حيدر مطشر لازم
في مسيرته التدريسة مرت عليه مئات الوجوه والشخصيات، وما زالت حادثة جرت له اول ايام احد الأعوام الدراسية، حينما دخل لصفه تلاميذ جدد، كان من بينهم تلميذ ذكي جدا، آثر والده الأحتفاظ به في البيت، وأجبره على ترك المدرسة، فما كان من (الأستاذ حيدر) الا ان قصد بيت هذا الصبي، وحاول اقناع والده بضرورة دوام الصبي في المدرسة، وأخيرا انصاع والد التلميذ للأمر الواقع وعاد ابنه للمدرسة بعد تهيده ب (الأدارة المحلية). وتمر السنون، ويصادف ان يدخل ثلاثة شبان (يقول الأستاذ حيدر) الى محلي لبيع الذهب في مدينة الثورة، فيعانقوني، ويقولون لي بأني كنت معلمهم في فترة ما، الا ان احدهم عانقني بحرارة متميزة وقبلني، وقال: هل تذكرتني، انا هو التمليذ الذي بسببي تصايحت مع والدي وأجبرته ان يرجعني للمدرسة، وأنا اليوم تخرجت مهندسا، وهذا بفضلك. قصة جميلة، تثير عندي الفرح والأمل كلما مرت على خاطري. في مسيرتي التدريسية، ورغم تني عملت مع طلبة الفين الأول والثاني، فأني لم ابخل عليهم بالمعلومة الحلوة، والفكرة الطيبة، وزرعت عندهم حب التعلم والمدرسة والأحترام، وأخيرا حب الحياة والوطن، مع ان مدارسنا كانت لبعض السنين ، عميقة جدا في المناطق النائية والمعزولة عن العالم، فقد كنت اجلب لهم هذا (العالم) عندهم في الصف!
امنيتي الشخصية، ان تتوحد جهود جاليتنا العراقية بديترويت وتتحدث بصوت واحد. اما للعراق: اتمنى ان يعم به السلام، وأن تلغى كل الأفكار التي تدعو للتفرقة، وأن تكون القاعدة السائدة، الدين لله والوطن للجميع، وسأفرح حقا حينما تكون لنا حكومة من التكنوقراط، وأن يكون الأنسان المناسب في المكان المناسب، وأن يصبح النظام في بلدي، نظاما علمانيا مدنيا.
المربية ماري شـعيا اسطيفانا – جركو
من مواليد بغداد، في منطقة عكد النصارى/ سوق الغزل.كانت بعمر 5 سنوات حينما انتقلت عائلتها لمنطقة الكرخ – قرب الأذاعة.
درست الأبتدائية في:مدرسة الشواكة الأبتدائية للبنات
المتوسطة: في النظامية للبنات
الثانوية: اعدادية الوثبة للبنات، ثم الأنتساب الى (معهد المعلمات) والواقعة بنايته في منطقة الأعظمية.
المربية ماري شعيا في بغداد
تخرجت في العام 1969، وبقيت سنتان بلا توظيف بسبب شحته آنذاك، اما عندما فتحوا التوظيف، فقد كان اول تعيني في مدينة (مندلي) وبراتب قدره (ثلاثة دنانير و 750 فلسا) وكان هو ذات الراتب الذي يمنح للجندي المكلف، وصادف تلك الفترة والبلد يمر بمرحلة (التقشف)، لكن المصيبة الأكبر كانت هي في وضع زوجي الذي يتقاضى راتبا جيدا لعمله بشركة في البصرة، لكن تعييني كان في قضاء مندلي. المهم،
المربية ماري شعيا في عقرة
اني قبلت الوظيفة، ودرّست في (مدرسة مندلي للبنات) ، ثم قدمت طلب نقل للبصرة مجددا، وجاء النقل الى قضاء (عقرة ) هذه المرة، وعينت في (مدرسة عقرة للبنات) ، ثم قبل اخيرا طلبي للنقل الى البصرة في العام 73 ولغاية 1979 وذلك في مدرسة (الثريا) للبنات والتي كانت تقع في (جزيرة السندباد) السياحية.
المربية ماري شعيا في البصرة
استطيع القول، ان تجربتي في البصرة كانت اروع نقلة في حياتي، وعقدنا صداقات حميمية بين الهيئة التدريسية ومع العوائل، وبالأضافة الى التدريس المدرسي، فقد امضيت 3 سنوات متطوعة في برنامج "محو الأمية" للسيدات، وعملت المستحيل لترغيب النساء بالمجئ والتعلم، وحتى لجأت الى مشاركتهن في مشاهدة نتاجاتي في الخياطة (هوايتي الشخصية آنذاك) فكان هذا عاملا مشجعا يضيف نوع من التحبب لفكرة محو الأمية.
كان لأشتداد الحملة (الأرهابية) على الوطنيين وقعها الكبير علينا، فأضطررنا ،انا وزوجي الى بيع كل ما عندنا وغادرنا العراق في نهاية 1978 (في ليلة سودة وبالخفاء) الى عمان ومن ثم الى اليونان، ووصلنا الولايات المتحدة في العام 1980. كانت رغبتي شديدة بالتعلم والدخول لسلك التعليم، الا ان متطلباته التحضيرية ومصاريفه كانت كثيرة علينا كوافدين جدد، فقد كان امامنا التزامات متعلقة بحياتنا هنا. عملت لمدة 13 عاما في (مخزن البقالة) الذي يملكه زوجي بلا توقف ولا استراحة، بعدها عملت 22 سنة في مهنة (تصفيف الشعر) التي درستها وحصلت بها على شهادة، اما في هذه الأيام، فأن عمري قد استحق التقاعد وأنا اتمتع به ، لكني مترددة من ذلك ايضا وأفكر بالعودة للعمل!
بالنسبة لمقارنة التعليم بين ديترويت والعراق، فلا توجد نسبة لذلك، ان كان في البنايات والصفوف والمنهج المتجدد ووسائل التعليم وصولا الى ثقافة المعلمين وانغمار العوائل في مهمة تدريس الأطفال، مع ملاحظة انهم يهتمون بالكفاءات منذ الصغر ويولون اهتماما خاص للأذكياء. وبالحقيقة ان مناهجهم في هذه البلاد هي للتعليم وليست للحشو.
شخصيا اتمنى ان يكون عندي الوقت الكاف لأمارس هوايتي الجميلة في السفر، وربما تكون قريبة ايضا، وعلى ذكر السفر، فقد انجزت 3 سفرات في هذه السنة ، كانت واحدة الى استراليا، والثانية للعراق، والثالثة لولاية كاليفورنيا، ونحن مازلنا في منتصف السنة...فمن يدري!
امنيتي للعراق الحبيب، ان يرجع مثلما كان، أمن وسلام، ولافرق بين مسلم ومسيحي ويزيدي ومندائي، وأن تتحسن الظروف حقا، فأنا ارغب ان اعود وأكمل حياتي هناك، في الوطن الغالي.وبالحقية ، كم كنت حزينة عندما عدت من زيارة العراق في آيار 2014 ولم تتسنى لي فرصة زيارة بغداد، او البصرة التي (اموت عليها) كما يقولون، وكانت خشيتي، وخشية عائلتي من الوضع الأمني والخطف او القتل. كم هو محزن حقا ان تصل بنا الأمور الى هذا الحد. يقينا، ان هذا الوضع يجب ان لا يستمر، ويجب ان يتغير نحو الأحسن، فنحن نستحق وضعا آمنا بحق.
الأستاذ أثير يوحنا يلدو
من مواليد بغداد في العام 1955 بمنطقة الأعظمية.
درس الأبتدائية في "المخزومية"،
اما المتوسطة فتقاسمها بين "النعمان" و "القناة".
في الثانوية انتقل الى " عقبة بن نافع" بشارع فلسطين، حي المهندسين. اهله معدل البكالوريا لدخول قسـم الأحصاء في "كلية الأدارة والأقتصاد". تخرج في العام 1978، وبعدما انهى الخدمة الألزامية التي دامت 23 شهرا، عين موظفا في وزارة المواصلات. الصدفة في الأمر يقول استاذ أثير، ان كتابا ورد للوزارة يشجع الموظفين (في حقولا محددة) للتحول الى مدرس، قبلت بالأمر وأصبحت مدرسا للرياضيات.
أثير يلدو مع مجموعة المدرسين في سفرة لمدينة بابل الأثرية
كان اول تعين لي في اعدادية "نبوخذ نصر" في منطقة الدورة، و أمضيت هناك 13 عاما، تركت بعدها المهنة لأن راتبنا الشهري كان يصل الى (4) آلاف دينار، وهي مساوية لشراء طبقتان من البيض يومها ! عدت من جديد لمهنة التدريس بين الاعوام 2004-2008 في ثانوية "فلسطين" بمنطقة الدورة، ثم ثانوية "النعمان" في حي دور العمال مابين منطقتي الحبيبية والبلديات.
غادرنا العراق مع عائلتي عام 2008، اثر تصاعد الأوضاع سوءا وأنعدام الأمن، وقصدنا سوريا حتى شهر نيسان 2009، حيث وصلنا الى ولاية كاليفورنيا، في الولايات المتحدة. وأنا مقيم فيها منذ ذلك الوقت، وأعمل الآن في مجال المبيعات في "متجر " يملكه شقيقي. امارس هوايتي المفضلة في متابعة اللعبة الشعبية رقم 1 في العالم، كرة القدم، الساحرة. كما وأمضي وقتا طيبا مع والدتي وأشقائي وشقيقاتي، اضافة الى متابعة الأولاد في اهتماماتهم. حياتنا في هذا البلد ليست معقدة، بل بالعكس، انها هادئة ومريحة. اما عندما تعود بي الذكريات الى "العراق" الجميل، فمازالت في نفسي غصة عميقة، عن الفرص التي "هدرها" الحاكم المغرور، وصولا لحكام اليوم، في الحروب والجهل والعبث، وعدم استثمار طاقات العراقيين الخلاقة، التي ما برحت تتفتح بعطائها الأنساني وهي تعمل في دول العالم المختلفة. وللطرفة اذكر هذه الحادثة التي جرت في عهد "سمير الشيخلي" حينما اصبح وزيرا للتعليم العالي، فتقدم منه احد الأساتذة – في كلية العلوم - وسأله عن ضرورة توفير الأيفادات وسفر الأكاديميين للأطلاع على تجارب الشعوب ...الخ ، فقال للحراس (سجلوا اسمه!) وفعلا بعد مرور اسبوع على ذلك، استلم كتاب (احالة على التقاعد) هكذا كان البلد يستفيد من طاقاتنا.
وعلى ذكر هذه الموضوع، فقد كان كادرنا التدريسي في اعدادية "نبوخذ نصر" في الدورة، متميزا بعطائه ووزنه الأكاديمي، اذ ان بعضا منهم كان يشارك في وضع "اسئلة امتحانات البكالوريا" وهذا امتياز كبير، اذكر منهم الأستاذ شمعون احيقار حاجي، وهو خطاط ممتاز ايضا، والأستاذ صباح حنا الجزراوي، والأستاذ يوخنا هرمز جركو، والأخيران يعيشان الآن في استراليا وأتواصل معهم بأستمرار. كما لا يفوتني ان اذكر عن علاقات الصداقة التي انشأناها، نحن في الهيئة التدريسية، فيما بيننا او مع التلاميذ، والتي عززت المحبة والأحترام.
لشدما يحزنني النظر للوراء قليلا، فعندما ازور المدارس التي يتلقى فيها ابنائي تعليمهم هنا، وأقارنها مع مثيلاتها في العراق، اصاب بالألم والدوار. المدارس هنا كبيرة، صفوفها مجهزة بالتدفئة والتبريد، فيها مكتبات ومراسم ومختبرات ومسرح وسينما ومسبح وسوح لكل انواع الرياضة، مصادر كثيرة في البحث، وكلا عناصر التعليم، التلميذ والمدرس، لهم منزلتهم وأحترامهم في المجتمع، وبالتالي فأن هذه الأجواء هي التي توفر افضل المناخات لأبداع الأنسان وتعلقه في الحياة.
أشعر بسعادة (لم تكتمل بسبب الجهل الذي نزل علينا في العراق) حينما استرجع ايام التدريس، فقد حاولت جهدي ان امنح تلاميذي كل ما عرفته وتعلمته من علوم، وعملت لتسهيل فهم مادة "الرياضيات" التي كانت صعبة الفهم لدى البعض. كنت فخورا بمستوى النجاح عندي، رغم ان مهمتي لم تكن سهلة ابدا، فقد كنت اقوم بتدريس (5) صفوف يوميا (الثالث المتوسط، الرابع عام، الخامس علمي، الخامس ادبي والسادس ادبي) وبمعدل 40 - 50تلميذ في الصف، اي ما معدله 200 طالب في السنة الدراسية، اما الذي يعرف ظروفنا في العراق وما آلت اليه اوضاعنا في ايام الحروب والحصار، وأستفزازات - الحزب والحزبيين - يعلم جيدا حجم معاناتنا، وحجم تضحياتنا لهذا الجيل والوطن الغالي.
ولا تغيب عن بالي لحظات مغادرة المدرسة والوقت الذي كنت استغرقه في تنظيف ملابسي من تطاير تراب (الطباشير) الذي كنا نستعمله للكتابة على الصبورة، ناهيك عن التقشف الذي شمل الطباشير ايضا في ايام الحصار، مما اضطرني احيانا لشرائه من جيبي الخاص، لكن كل ذاك (يهون) حينما تجمعني المصادفات ببعض تلامذتي، وينقلوا لي المستوى الذي وصلوا اليه، حينها اشعر بالزهو والفرح، وأردد في ســّري مقولتي المأثورة، بأن العرق الذي صببته لهم "لم" يذهب هدرا.
لم يعد هناك خطا فاصلا بين امنياتي الشخصية والعامة، وكل ما اتمناه وأحلم به، وأدعو له ، ان يعود بلدنا "مثل أوّل" وأن يعيش اهله بالأمن وألامان، وأن يأخذ كل انسان حقه.
كمــال يلدو
حزيران 2014
1216 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع