بغداد/ حسين عمران:هذه القصة حقيقية رواها لي أحد زملائي لتكون من بعد ذلك محوراً تحقيقياً، يقول زميلي:
ذهبت الى مكتب صيرفة في منطقة باب الشرقي ، سألته عن سعر صرف الدولار فأجابني بأنه ( 120 ) ألف دينار ، أعطيته عشر أوراق نقدية فئة الـ ( 100 ) دولار ليضعها في قاصته مع بقية الدولارات التي فيها ، وخلال عــدّ النقود من قبل الصراف رنّ هاتفه ليتكلم مع زميل له بضع كلمات ثم يغلق الهاتف ليخبرني بان سعر الدولار ( نزل ) وأصبح الان 110 آلاف دينار ، حينها رفض زميلي تصريف دولاراته بسعر الصرف هذا ، فطلب من صاحب مكتب الصيرفة إعادة المبلغ له وفعلا أعاد الصراف الدولارات الى زميلي الذي ذهب الى مكتب صيرفة آخر عسى ولعـل يجد سعر صرف أعلى ، وفعلا قال له صاحب مكتب آخر للصيرفة بأن سعر الصرف الآن ( 121 ) ألف دينار ، فرح زميلي بسعر الصرف هذا وناول دولاراته الى الصراف الذي قلبها قليلا ليعيدها الى زميلي وهو يخبره بأن دولاراته مزورة !
حينها عرف زميلي بأن الصراف الأول استبدل دولاراته، فذهب مسرعاً الى الصراف الاول ليجد شخصاً آخر جالس في المحل ، فسأل زميلي عن الشخص الذي كان جالساً هنا ، فأجابه صاحب محل الصيرفة بأنه قريبي وقد غادر الآن مسافراً الى إقليم كردستان .حاول زميلي إفهام صاحب مكتب الصيرفة الحقيقة ، لكن الحقيقة ضاعت مع ضياع دولارات زميلي وهي تحويشة العمر !
معنى " القفـّاصة "
إذن تحقيقنا اليوم عن القفاصة أولئك الذين يحتالون على المواطنين المساكين ليختفوا بلمح بصر تاركين ضحاياهم في حيرة من أمرهم .
وقبل أن أدخل في تفاصيل تحقيقي بحثت في القاموس عن أصل كلمة قفـّاص فوجدت أن معنى الكلمة يُشير الى ( قَفَصَ الرَّجُلُ : خَفَّ ، نَشِطَ ، وَثَبَ ( ومن هنا نعلم أن القفاص تتطلب مهنته السرعة والخفية والنشاط وإلا سيكتشف أمره ، والقفاص هو محتال يقترب فعله من فعل الساحر القادر على خداع الناس في لمح البصر.
ربما يقول يعضكم إن ضحايا القفاص هم من الناس البسطاء الذين لا يفقهون الحياة جيداً ، لكني سأثبت اليوم في هذا التحقيق بأن مواطنين أذكياء، بل مؤسسات حكومية (راقية) كانت من ضحايا القفاصين وايضا من ضحايا شركات وهمية يمكن ان نُطلق عليها أسم شركات ( قفاصة) عالمية واليكم الدليل بعد ان تكملوا قراءة هذا التحقيق .
*هو رجل ( أُبهة ) كما يقول اخوتنا المصريون وهو صاحب شركة تجارية كبيرة أراد ان يشتري سيارة حديثة رباعية الدفع ، اصطحب زميله ليكون عوناً له في اختيار سيارة جيدة ، دخل الى احد المعارض في ساحة النهضة فرأى سيارات حديثة عــدة إلا أنه لم يتفق على السعر ، وهنا تدخل احد الاشخاص ليخبر صاحبنا بأن طلبه عنده ، والسيارة التي يبحث عنها موجودة خارج المعرض ، ليخرج الجميع لرؤية السيارة والتي كانت حديثة فعلا ، كما أن سعرها مناسب جدا ، ليتم بعد ذلك الاتفاق وبالتالي توقيع عقد البيع والشراء الأصولي في احد المكاتب ، قبض البائع سعر السيارة ، واستلم صاحبنا السيارة ، ليقودها وهو فرح جداً بسيارته الحديثة وما هي إلا لحظات حتى أوقفته سيطرة مرورية لمشاهدة أوراق السيارة وبعد ادخال المعلومات في الحاسبة ، جاء ضابط المرور ليطلب من صاحبنا الترجل من السيارة وخلال ذلك كان ضابط المرور قد اتصل بالأجهزة الأمنية التي حضرت على الفور وألقت القبض على صاحبنا ، إذ تبين أن السيارة مسروقة ، ليذهب صاحبنا الى التوقيف ويذهب ( القفاص) الى طريدة أخرى ليقفص عليها بعيداً عن أعين الرقابة والمعنيين.
الضحايا من كل طبقات المجتمع
إذن ... بعد هذه الحالة ألا تعتقدوا بأن ضحايا القفاصين هم ليسوا من الفقراء والبسطاء كما يظن البعض ، بل هم من كل طبقات المجتمع .
حسنا تعالوا معي لأخبركم عن القفاصين الدوليين الذين كانت لهم صولات وجولات مع متواطئين داخل المؤسسات الحكومية سواء بعلم او من دون علم كما يدَّعي بعض المسؤولين الحكوميين.
أقول هذا ومذكّرا إياكم بالشركات التي تعاقدت معها وزارة التجارة لتجهيزها بالمواد الغذائية ، وتذكيركم ايضا بالشركات النفطية التي أرادت تنفيذ مصافي ومشاريع نفطية لوزارة النفط ومشاريع اخرى لوزارة الكهرباء ، إذ بعد الاتفاق مع هذه الشركات التي استلمت جزءاً كبيراً من مبلغ العقد قبل مباشرتها بأي عمل في المشروع ليتبين بعد ذلك ان الاخوة المسؤولين في الوزارات المعنية تعرفت على هذه الشركة من خلال موقعها في الانترنيت لتتفق معها على تنفيذ المشاريع وليتبين بعد ذلك ان هذه الشركات لا وجود لها في الواقع وانها موجودة في الانترنيت فقط !
إذن ... هذا نوع آخر من القفاصة الدوليين الذين لا أحد يستطيع محاسبتهم لأنهم غير موجودين اصلا ، فكيف تتم محاسبتهم ؟! ومن هنا نستطيع القول: إن النصب والاحتيال حرفة لا يستطيع مزاولتها إلا الأذكياء لاسيما أنها وحسب ما يعتقد متقنوها فناً من فنون الحياة بحاجة إلى موهبة خاصة.
كيف يتم استدراج الضحية؟
حينما كنا نواصل لقاءاتنا لإكمال تحقيقنا هذا قال البعض إن أصل تسمية التقفيص يعود إلى كلمة القفص، باعتبار إن الضحية يُستدرَج إلى الخديعة بملء إرادته عبر وسائل الإغراء، كما هو الحال باصطياد الفأر بقطعة الجبن التي توضع داخل القفص ، في حين وصف بعض المواطنين تلك الأعمال بالإجرامية لأنها لا تختلف كثيرا عن عمليات السلب والسرقة المنظمة، إذ أن مثل هؤلاء الأشخاص القفاصين هم أشبه بالحشرات التي تقتات على دم الإنسان، فالاثنان القفاص والحشرة يستغلان غفلة الإنسان لسرقته!
لكن ... أقول إن أندر وأتعس عملية تقفيص تلك التي أخبرني بها زميلي الساكن في محافظة نينوى حيث قال: كان هناك نصاب ومحتال وقفاص في مدينة الموصل حتى بات معروفاً للجميع ، لذا ارتأى هذا القفاص ان يبحث له عن مكان آخر للتقفيص ، فاتفق مع احد مساعديه ( قفاص متدرب ) إن صحت التسمية ليذهبا الى أحد مراعي الأغنام ، حيث ارتدى صاحبنا اللباس العربي من غترة ويشماغ وعباءة مطرزة ومعه زميله ( المتدرب ) الذي كان يقود سيارة حمل صغيرة ، وحين مسيرهما في مرعى الغنم شاهدا أحــد الرعاة وهو يقود عشرات الأغنام أمامه للرعي ، ومن مسافة بعيدة نوعاً ما. قال صاحبنا لزميله أنزلني هنا وسأذهب سيراً على الأقدام الى مكان الراعي ذاك ، وحينما وصل اليه ألقى عليه التحية ليخبره بأنه بحاجة الى عشرين رأس غنم لأنه يريد تسويقها الى بغداد ، وخلال الاتفاق على السعر كان صاحبنا يلقي الأشعار البدوية ويتحدث بلهجة بدوية متقنة حيث ارتاح له راعي الاغنام ، وهنا اتصل صاحبنا هاتفياً بزميله الذي أخبره بأن يأتيه لأنه اشترى الأغنام ، وبما ان اتفاقاً كان بين صاحبنا وزميله لذا فان زميله أخبره بأنه سيحضر بعد نحو ساعة ، كل ذلك والراعي يسمع المحادثة وهنا قال صاحبنا للراعي وهو لم يزل يلقي الاشعار البدوية عليه حتى ارتاح له الغنـّام ، وهنا أخرج صاحبنا شيشة فيها دبس وراشي وخبز قال صاحبنا للراعي حسنا انا انتظر سائق سيارة الحمل التي ستصلني بعد نحو ساعة وخلال ذلك دعنا نتناول قليلا من الدبس والراشي الموصلي ، وفعلا بدأ الاثنان يتناولان الطعام وهما يتسامران ويضحكان حيث اطلق الراعي العنان لحنجرته بالغناء والضحك، وما هي إلا ساعة من الوقت حتى حضر سائق سيارة الحمل ليقوم صاحبنا بحمل الأغنام ليضعها في السيارة بمساعدة الراعي نفسه الذي لم يزل يطلق النكات وهو يقهقه ، وبعد اكمال عملية تحميل عشرين رأس غنم قال الراعي لصاحبنا وهذا واحد مني هدية لك ، شكره صاحبنا على كرمه الكبير ليغادر من دون ان يدفع أي مبلغ ، إذ تبين أن الراشي والدبس مخلوط بحبوب هلوسة ليفقد الراعي صوابه وبالتالي ليفقد 21 رأس غنم!
البطالة ... سبب " تقفيص " البعض
نعــم ... هناك العديد من الأشخاص الذين يمتهنون النصب والاحتيال او ما نسميه بـ (التقفيص) وهم على مستويات مختلفة، بحسب نوع وطبيعة عمليات النصب التي يَقدِمون عليها، فيما يبرر أحد القفـّاصة الذي عرفني عليه زميلي ، برر أفعاله بحجج يراها منطقية فيقول: نحن لا نقدم على سلب الضحية كل ما يملك، صحيح إننا نستغفله ولكن بشيء بسيط لا يكاد يكون مؤثراً عليه، ونرضى احيانا بالقليل ، مضيفا هناك شركات تمتهن التقفيص مثل المصارف "الطيـّارة" التي انتشرت إبان منتصف التسعينات من القرن المنصرم، حيث سلبت الناس معظم أموالهم وممتلكاتهم ومثال على ذلك شركة " سامكو " الشهيرة .
يصمت قليلا ليضيف بألم وحسرة ... صدقني نحن نقدم على ذلك ونقوم بالتقفيص على المواطنين بسبب عجزنا عن ايجاد العمل وعدم توفر الفرص الملائمة لكسب رزقنا بشكل مشروع !
رأي علم الاجتماع بالتقفيص
لكن ... ما الذي يقوله علم الاجتماع بخصوص هذه الظاهرة التي انتشرت كثيراً نتيجة البطالة ؟
لمعرفة الإجابة على سؤالنا هذا كان لابد من اللقاء بالدكتور صادق ظافر استاذ علم الاجتماع في كلية التربية الذي قال: هذه الحرفة ونقصد بها ( التقفيص ) تعود بتاريخها إلى مئات السنين وتتباين في الانحسار والانتشار حسب الظروف الاقتصادية التي تمر بها المجتمعات، ويضيف ... في ما يخص ما يُصطلح عليه في الوقت الحاضر محليا بالـ (التقفيص) فلها جذور تاريخية تعود حسب المؤرخين إلى العهد العباسي، حيث كان يُطلق عليهم بالشطـّار والعيارين والحيالين ، مشيرا الى ان أصل كلمة الشاطر في اللغة العربية هو اللص، إلا إنه بفعل التحول اللغوي عبر الأجيال وبمرور الزمن باتت تلك الكلمة دلالة على النباهة أو التفوق والذكاء بحكم خفة الظل التي تتبع الشطار أو العيارين حسبما كان يُطلق عليهم .
ويوضح ... غالباً ما تزدهر تلك الممارسات ( التقفيص ) في الأوساط المسحوقة والطبقات التي تعاني من ظروف اقتصادية متردية، وفي أوقات الفاقة والفقر ، لكن مع مرور الزمن يبتكر الحيالة أو القفاصة كما يُطلق عليهم الآن أساليب جديدة في الاحتيال والخداع والضحك على الذقون، وغالبا ما تكون دوافع مَن يقدم على تلك الأفعال هي الحاجة أو العوز، إلا نفـر قليل منه غايته التسلية فقط.
ويختتم الدكتور صادق حديثه قائلا: هؤلاء الأشخاص دائما ما تستهدف حيلهم البسطاء من الناس أو قليلي الوعي أو الإدراك .
القانون لا يحمي المغفلين!
حسناً بعد أن تعرفنا على انواع التقفيص ، وبعد ان تعرفنا على أصل كلمة التقفيص عبر التاريخ ورأي علم الاجتماع بهذه الظاهرة ، كان لابد لنا من معرفة رأي القانون بظاهرة ( التقفيص ) ، لذا كان لابد من اللقاء برجل القانون وهو الدكتور حمدي مازن استاذ القانون في كلية القانون الذي قال: إن قانون العقوبات العراقي لم يُسن إجراء رادع حسب رأيه لتلك الممارسات غير القانونية، لاسيما ان مرتكبيها لا يخضعون لسلطة الشرطة أو دوائر مكافحة الجريمة ويضيف: تلك التهم تخضع لقانون التعامل التجاري المدني حصراً، وتكون من اختصاص محاكم البداءة المدنية، ولا تصنـَّف ضمن الجنح القانونية 456 و475 الخاصة بالنصب والاحتيال مشيراً الى ان دور الشرطة هو جلب المتهم في حال عدم مثوله للاستدعاء الصادر من محاكم البداءة .
وأوضح ... كما ان القانون العراقي يوجز فترة الحبس لمن تثبت عليه التهمة من فترة أربعين يوما إلى أربعة اشهر فقط .
إذن ... ومن خلال لقاءاتنا هذه عرفنا ان التقفيص ظاهرة قديمة ، لكنها انتشرت في الفترة الاخيرة نتيجة العوز الاقتصادي ونتيجة كثرة البسطاء من الناس وزيادة أعداد العاطلين عن العمل ، وستبقى هذه الظاهرة تنتشر وتنتشر ما دام لا أحد يستطيع إيقاف ( القفاصين ) عن تقفيصهم لأنهم غالبا ما ينفذون (تقفيصهم ) بسرعة ليختفوا حاملين معهم ( ثمرة تقفيصهم ) !!
1052 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع