مـربّون في الذاكرة: رحلة مع بناة الأنسان العراقي (3)

      

   الأستاذ ابراهيم حميد حكيم  في المختبر - الصف الرابع كيمياء

  

   مـربّون في الذاكرة: رحلة مع بناة الأنسان العراقي (3)

                           

     

في مسيرة تأريخ التعليم التي إبتدأت منذ  تأسيس الدولة العراقية، قصصا وحكايات كثيرة ربما تكشف الأيام عن بعضا من ابطالها وتفاصيلها.  منها من تحدثت عن التضحية  والذهاب الى اقاصي القرى والأرياف، ومنها من  تحمل (النفي) الطوعي بعيدا عن المدينة، ومنها  ما كان هدرا ومضيعة لكفاءات كبيرة خسرناها بسبب الأنظمة الفاسدة  و وضعت في غير مكانها.

لكن، ومن بين ركام تلك الذكريات والظروف، تسمو قصصا جميلة لحياة نخبة من الوطنيين واليساريين (معلمات ومعلمين) من الذين منحوا مهنة التعليم بعـدا انسانيا ووطنيا عاليا، استحقوا الثناء والمحبة من بعض تلامذتهم، والسجون والملاحقة من قبل الأنظمة القمعية التي تسلطت على رقاب الناس والتي اوصلت العراق لما نعيشه اليوم من حروب ومآسي وتخلف. هذه بعضا من اسفار هذا الجيل، الذي تحّمل الصعاب وقبلها بقلب مفعم بحب الأنسان ورفعته، تلك القيم التي ترسخت عنده من ايمانه العميق بقيمة الأنسان، وبأنه الغاية التي يجب ان تصبو لها كل الحركات والتغييرات، ليس هذا فحسب، بل لتصل الى رفعة الوطن وأستقلاله وكرامته ، والدفاع عنه ضد العدو الخارجي والأستعمار. هذه السطور المختصرة معهم، ليست الا  الصفحات الأولى من كتاب حياتهم، وربما يساهم القراء (والشهود) على اكمال تلك الفصول، والأحتفال بجيل المربين الذين منحوا تلامذتهم مزيجا رائعا من حب المعرفة والتعلم، وحب الوطن والأنسان والحياة.

               

المربيـة عليـّة حسـين سـالم المـّراني

من مواليد مدينة العمارة، منطقة السـّرية في العالم 1937.
درست الأبتدائية في مدرستين، الأولى كانت "مدرسة الماجدية" في العمارة، محلة الماجدية (عبر الجسر)  ويصادف ان تكون عمتها السيدة (ناجية المّراني) مديرة المدرسة، والثانية في مدرسة بقرية السلام، منطقة الطوّيل، اذ ان والدها كان مديرا للمدرسة هناك ايضا. المتوسطة والثانوية كانت في "ثانوية العمارة للبنات"،  وانقطعت في الرابع ثانوي بعد قبولها في (دار المعلمات للبنات)  ببغداد/ منطقة شارع الرشيد على ما تتذكر. امضت 3 سنوات بها وتخرجت في العام 1955.
كان اول تعيّن لي بعد تخرجي معلمة في اللغة الأنكليزية (تقول الست عليّة) في قضاء علي الغربي بالعمارة و "مدرسة علي الغربي"  اذ درّسـت الأنكليزية للصفين الخامس والسادس، ومن الصدف ان تكون ابنة قائمقام المنطقة (ميسون الحكيم) من تلميذاتي، وقد حققت نسبة عالية جدا في النجاح، وبالحقيقة لم تنخفض عن 80% في اسوء الأحوال. ومع نقل والدي للعمل في بغداد، انتقلنا معه وعينّت في العام 59 في مدرسة للبنات بمنطقة (الجعيفر)، وكنت من النساء الناشطات في العمل الوطني، وألقي الكلمات في اصطفاف الطالبات. في هذا العام (1959) نلت الشرف في تمثيل الشبيبة العراقية ضمن وفد العراق الذي اشترك في "مهرجان الشبيبة العالمي، " في العاصمة النمساوية  فيـنّا.
بعدها انتقلت الى "مدرسة الزهراء الأبتدائية" في منطقة الصالحية. بعد ايام من انقلاب 8 شباط الأسود عام 1963، تعرضت للأعتقال يوم 4/4 /63 وكنت آنذاك حاملا في الشهر السابع بأبني البكر، ولم يطلق سراحي الا بعد ان امضيت سنة كاملة ويومان، اي يوم 6/4/1964، ورافقها فصل من الوظيفة،  ومراجعة مركز شرطة البياع ثلاث مرات يوميا.
عدت للتدريس في العام 1965 ب "مدرسة سارة" في الوشاش. وأنتقلت اخيرا للتدريس في احدى مدارس البياع حتى العام 1987 حينما احلت للتقاعد. في السنين التي تلت، كنت اهتم بالأسرة وتربية الأبناء، ومع هذه المشاغل ، كنت اجد الوقت لممارسة هوايتي المفضلة في القرأة، حيث اتجول مبحرة في عالم الكتاب والمفكرين ونتاجاتهم في الفكر الأنساني والروايات والقصص.
تحضرني بعض الأسماء (رغم مرور سنين طوال ونسيان البعض منها) من المعلمات والمدرسات اللواتي كان لهّن الفضل في تعليمي ومنهم، الست "مآرب علي" مدرستنا للغة العربية، والشاعرة الرائعة "لميعة عباس عمارة" التي درستني مرتان، الأولى في الثاني متوسط، والثانية في دار المعلمات وفي مادة اللغة العربية ايضا. ولا انسى عمتي الرائعة "ناجية المرّاني" مديرتنا في الماجدية، و "بلقيس خضير المّراني" في الماجدية ايضا، وكل من " نظيرة عبد وست نورية" زميلاتي  في منطقة علي الغربي، و "نورية عامر" في الزهراء بمنطقة الصالحية.
لم تكن مهمة التدريس لي مهنة  أو وظيفة  مجردة، بل كانت منهجا للحياة، وكنت اعامل تلميذاتي وكأنهن  بناتي ومن افراد أسرتي، افرح لفرحهن وأحزن لهن ايضا. ومن الطريف ان اذكر، انه في العام 1975، وكنت حاملا بشهري الرابع بأبني فراس، وكنت قد طلبت اجازة صحية نتيجة صعوبات الحمل، ولم تكن السنة الدراسية قد انتهت، وكنت اشعر بمسؤلية كبيرة تجاه تلميذاتي، خاصة اولئك اللواتي كنّ على ابواب امتحان البكلوريا للسادس ابتدائي، فطلبت من المديرة ان تبعث لي ب (سبورة وطباشير) للبيت مع مجموعة طالبات الصف السادس من اجل اكمال المنهج، وفعلا قمت بذلك لشهرين، حتى انتهت الأمتحانات وكانت نسبة النجاح 100% لذلك الصف! وفي مرات كثيرة كنت اقوم بتغطية عمل المربيات الأخريات في الحالات الطارئة ، كما حدث مرة مع معلمة اللغة العربية، فقمت بأكمال منهجها، وذات الشئ في تدريس مادتي الرسم والرياضة. اما ساعات الدوام، فلم اكن لأبخل بها، اذ كنت ابدء بساعة قبل الدوام، وهكذا بعد انتهائه، لأني حريصة على عملي وعلى سمعتي الوطنية، ونتيجة لذلك فقد منحتني الوزارة العديد من كتب التقدير والشكر في عملي التدريسي.
لايساورني ادنى شك، وأنا في هذا العمر وبعد هذه التجربة، حينما استرجع تلك الأيام السوداء التي قضيتها على يد البعث والحرس القومي ، بأن الزمن  سيكون بيننا حكما، وسيثبت من كان يحب الوطن ومن كان يتاجر به، وبالفعل تدور الأيام لتكشف  وتثبت لي، قبل اي شخص آخر، بأن مصير هذه الشلة كان وسيكون (لمن يقتفي اثرها ايضا) هو مزبلة التأريخ لا اقل، لكن بثمن باهض للناس، وأضاعة لفرص تقدم الوطن.
لم يكن سهلا علي وأنا المتعلمة، وأنا المعلمة ايضا، ان القى في السجن مع سجينات من كل الأشكال، ولم احترم حتى وأنا حامل في أشهري الأخيرة، لماذا؟ لأني مختلفة معهم في الفكر والرأي، فلم اكن ارهابية ولا جهادية كما يقولون اليوم، كنت سياسية وأنشط بين النساء من اجل توعيتهم وغرس روح محبة الوطن والعمل بينهم، ولأني كنت من ناشطات رابطة المرأة العراقية، فقد قمت بحملات للتوعية بحكم مسؤليتي في ( صرايف مدينة الثورة) آنذاك، هذا العمل الذي كان الكثيرون يتهربون منه، كنت اتشرف به، لكن للأسف كان جزائى بالسجن والمراقبة والأهانة !
 يا لها من مفارقات لازالت تطاردني كشبح قبيح.  مازلت اتذكر كيف نقلوني للمستشفى حينما دنت ساعة الولادة وكنت وحدي، مع حارس في باب الغرفة، ومنعوا عائلتي (امي على الأقل) من مرافقتي، ناهيك عن زوجي (همام المراني) الذي كان محكوما بالأعدام غيابيا، والذي لم يخف ويزورني في السجن اكثر من مرة، مدعيا انه قريبي او شقيقي! هكذا تجرعنا كأس المرارة من اجل شعبنا وناسنا وأهلنا، ولست في وارد ان اطالب احدا برد الجميل لي، فقد قمت بما املاه علّي ضميري الوطني، لكني اتألم لحال البلد والجيل الذي منحناه حبنا وحياتنا في التعليم، وأتسائل، اين ذهبت القيم والأخلاق والمبادئ التي عملنا سنينا وسنين على غرسها في نفوس الأجيال؟

امنياتي للعراق، رغم اني شاهدة على اننا نعود للوراء اسرع مما نتقدم للأمام، امنياتي ان يتحسن الوضع، وأن يستتب الأمن، وأن تحصل الناس على حقوقها، وأن تتوفر الخدمات العامة في كل البلد. وكم أشعر بالأسى وأنا ارى كيف ان البلد تحطم على يد العصابات والميليشيات والسراق،  لكني أراهن على الخيرين من ابناء شعبي على دحر الأرهاب والطائفيين، من اجل تشكيل حكومة تهتم بالأنسان اجتماعيا وثقافيا وأقتصاديا، وأن يكون للعناصر الخيرة دورا في بناء وطنهم، وليس ابعادهم ومحاربتهم لأسباب تافهة. كما اتمنى ان ارى مدارسنا وقد لحقت بمدارس العالم المتقدم، وأن تمنح الفرص لطلابنا وأن يعاملوا معاملة انسانية وتوفر لهم البنايات والصفوف والبرامج التعليمية اللائقة، حتى يكون مستقبلهم، ومستقبل الوطن بأيدي أمينة.

                              

                      

المربي كامل صـادق كجّــو

أنا من مواليد مدينة القوش التابعة لمحافظة نينوى في – المحلة التحتانية بالعام 1937.
انهيت الأبتداية في مدرسة "مار ميخا" في القوش، اما المتوسطة فقد انجزتها في مدرسة "ام الربيعين" في الأعظمية بعد ان تحولت العائلة للسكن في بغداد،  وفي الثانوية انتسبت الى "ثانوية المشرق المسائية" التي كانت تقع في منطقة عكد النصارى، حيث كانت تتقاسم البناية مع مدرسة الطاهرة الصباحية. في العام الدراسي 58-59 انهيت ثانوية التجارة، ودخلت دورة تربوية مركزة في منطقة باب المعظم، تخرجت بعدها معلم ابتدائية.
كان اول تعيين لي في محافظة الديوانية/ قضاء الشامية، وكانت المدرسة عبارة عن (صريفة)،  وفي العام 1962 نقلت الى  محافظة الناصرية، سوق الشيوخ – كرمة بني سعيد، في "مدرسة القبس الأبتدائية" بقرية ام نخلة. وبعد دوامي هناك لمدة 3 شهور، تعرضت للأعتقال وأنا في المدرسة  بدعوى حملي للأفكار اليسارية، ولم تنفع توسطات مدير المدرسة آنذاك، فنقلت لسجن في الناصرية، ثم سجن بغداد، وبعدها الى الأمن العامة في 19 كانون ثان 1963، وعندما حل 8 شباط الأسود كنت في السجن،  فنقلت الى الموقف العام (وصادف معنا  السيد أمير حامد شقيق المرحوم الزعيم)، ثم الى محكمة الشعب، التي تحولت الى سجن قسري،  وقد امضيت  9 شهور في المعتقل، صاحبتها كل انواع الأهانات والتعذيب، والحرمان من العائلة، او حتى معاملة السجين كأنسان له قيمة في هذه الحياة.
بعد ان افرجوا عني، عملت بالتعليم الخصوصي بمساعدة الأستاذ (سعيد شامايا) في تدريس البنين والبنات بمدينة الضباط  لمادتي الرياضيات والأنكليزية ، وللمراحل الأبتدائية ولحد الصف الثالث متوسط. ولم تتغير الأحوال الا بعد ان صدر قرارا حكوميا بعد العام 1968، بأعادة المفصولين السياسين، وأعفاء المحكومين غيابيا وحضوريا، عندها تشجعت وعدت للخدمة، ولكن هذه المرة في مدرسة "المحاويل" ولمدة سنة واحدة، نقلت بعدها في العام 69 الى "مدرسة بن غازي" في مدينة الثورة – منطقة الجوادر، منذ العام 1969 وحتى سنة التقاعد عام 1982، اي ما يساوي (15) سنة متواصلة.  غادرت العراق مع عائلتي في ذات العام، نتيجة تصاعد  المناخ العام في محاربة اليسارين والأقتصاص منهم، وقيام الحرب مع ايران وخراب البلد. قصدت اليونان، اذ مكثنا فيها حوالي 4 سنوات، ثم سنحت لنا فرصة القدوم للولايات المتحدة، وأنا مقيم في مدينة ديترويت منذ العام 1985. وقد مارست بعض الأعمال الحرة لفترة قصيرة، ثم احلت نفسي للتقاعد، وأقضي اوقاتي الآن بمتابعة العديد من النشاطات الوطنية والمشاركة فيها ان كانت ندوة او امسية او لقاء مع احدى الشخصيات الزائرة ،  بالأضافة الى القرأة ومتابعة اخبار العراق، ناهيك عن التواصل مع العائلة والأهل والأصدقاء.
مع يقيني الذي لايتزحزح بالأفكار الأنسانية واليسارية، مازلت اعتقد، بأن بعض الحركات التي نشطت في العراق والدول العربية، تحت مسميات قومية او دينية، لم يكن هدفها اكثر من عرقلة عملية بناء الأنسان والأوطان، فلجأت الى القمع والدمار والحروب، وها اننا نشهد الحصاد المر لسيطرة تلك الحركات، وكيف حرمت شعوبها من طاقات خيرة ابنائها وبناتها الذين توزعوا في ارجاء الدنيا الأربع.  في العراق، وفي ديترويت، لم ابخل شخصيا ولا حتى عائلتي في خدمة العراق والعراقيين، وفي خدمة ابناء (قوميتي و مدينتي)، فقد تشرفت في بغداد بتقلد منصب سكرتير نادي بابل الكلداني عام 1977، وفي ديترويت تقلدت  رئاسة وسكرتارية نادي الأسرة العائلي لعدة سنين. وكم يؤلمني النظر للوراء ، الى تلك الأيام التي كان من الممكن ان تكون سني عطاء وبناء، لا ســني سجون وملاحقات، ويحضرني اسمان اعتز بهما كثيرا كانا معي في "مدرسة بن غازي" وهما السيدان (كامل ثامر جلاب) و (عبد الرحمن – ابو عوف) اللذان ساعداني كثيرا  ووفرا لي الحماية من جلاوزة البعث ، ومن تقاريرهم المكروهة.

شخصيا، لم ابخل على تلامذتي في تعليمهم المواد العلمية حتى ينجحوا ويتفوقوا بدراستهم، بل كنت اشعر بمسؤلية تجاههم ايضا في مجال التربية الوطنية الحقة، وربما من الطريف ان اذكر، بأني كنت القي على تلاميذي (نشيد موطني) المعمول به اليوم، في تلك السنين لما يحويه من مفاهيم وقيم وطنية سامية.  وفي عملي،  بعد تلك المسيرة القصيرة (والمليئة بالعذابات)، اشعر براحة الضمير،  فبالأضافة لوظيفتي كمعلم ، فقد قدمت الدروس الخصوصية للتلاميذ في مدينة الضباط ولمدة 18 سنة متواصلة، ويفرحني اني حصلت على كتب الشكر والتقدير طوال مسيرتي كمعلم ايضا .
قد يكون لأساتذتي الذين قدموا لي العلم منذ طفولتي أثرا بالغا في بناء شخصيتي اللاحقة، وعشقي لمهنة التدريس وللتلاميذ، وأذكر منهم : مدير مدرستنا الياس مدالو،  معلم الأنكليزية عبد الرحيم كتـوّ، والفنية جرجيس زرا، والعربية حبيب عبـيّة، والرياضة سليمان بوكا والعلوم عابد كعكلا، اتمنى الصحة لمن مازالوا بيننا، والذكر الطيب لمن فارقونا.
امنياتي للعراق كثيرة وتبدأ بالتخلص من العنف، وتحقيق ديمقراطية حقيقية في البلاد، وبناء نظام يمثل كل الشعب وأطيافه، ومع يقيني بأن هذه الوجوه الموجودة اليوم – سبب مأساتنا- علينا تبديلها بأسرع وقت، فأني مؤمـن بأن هذه البلاد لن تتقدم الا حينما نعي كشعب، بأن يعود رجل الدين لموقعه في الجامع، ويترك السياسة لذوي الأختصاص، وأن يقوم في بلدنا نظام فصل الدين عن الدولة، ودون ذلك، ربما سننتظر قرونا وقرونا قبل ان يشهد اطفال العراق رياضا يلعبون فيها بأمن وأمان.

                                

                  


الأستاذ ابراهيم حميد ياقو حكيم (موفق حكيم)

من مواليد مدينة القوش التابعة لمحافظة نينوى العام 1945، وفي محلة "قاشا".
درس الأبتدائية في مدرسة القوش الثانية (مدرسة الشيشا)، المتوسطة والثانوية في ، ثانوية القوش. بعدها دخل كلية التربية، التابعة لجامعة بغداد/ فرع الكيمياء. بعد تخرجه، شــمله التعيين المركزي، فكانت  "المتوسطة المركزية" في الموصل، والواقعة قرب "جامع النبي شيت" اولى محطاته في سلك التعليم، وأمضى فيها الفترة مابين 1969-1977 حيث نقل أثرها الى العاصمة بغداد  و "اعدادية ابن رشــد" الواقعة في منطقة بغداد الجديدة للأعوام 1977-1997، حيث أذن وقت الأحالة على التقاعد.  على الرغم من  دوامه في "اعدادية ابن رشد" الا ان حاجة الوزارة كانت تدعوه لعمل الأنتداب احيانا، فقام بذلك في  ثانويتي "ســومر" و "المعالي"  للبنات والواقعتان  في منطقة  الغدير ومحيطها .

قد يكون "حب الناس" المتبادل هو اكبر رأسمالي في هذه الحياة (يقول الأستاذ ابراهيم)،  ففي عملي الوظيفي، عملت بكل صدق مع التلاميذ، ولم ابخل عليهم بالمعلومة او الوقت او حتى بالنصيحة، هذه هي اخلاقي وهذا هو مبدئي الوطني. كنت اقوم  بتدريس ما بين 6-8 شعب دراسية للصف السادس وبمادة الكيمياء، اي بمعدل 300-400 طالب سنويا، ويضاف لها ما لا يقل عن 100 طالب في التدريس الخصوصي، كانت حياتنا منهكة ومتعبة، وما يزيدها طينا وبلة، كانت سياسة البعث وجلاوزته المنتشرين في المدارس او في المناطق السكنية، والذين لم يكن لهم هما آخرا سوى ملاحقة الناس وكتابة التقارير عنهم، وشهدنا  الدرجة  التي وصل اليها البلد على يدهم لاحقا!
لا انسى ابدا نهج التعليم، والقيم الوطنية العالية التي غرسها بنا اساتذتنا الأوائل، وأذكر منهم استاذنا ومدير ثانوية القوش (منصور اوده سـورو)، ومدرس مادة الفيزياء الأستاذ (جرجيس ابراهيم حميكا)، انحني لهم ولكل من رباني وعلمني الف باء الحياة، اجلالا لذكراهم الطيبة، وترحما عليهم ان كانوا قد غادرونا. وطالما تحدثنا عن الأساتذة فلا بد لي ان اشيد بموقف بعضهم  والذين لم يكونوا يسارين لكنهم كانوا اشرافا ولم يرضوا بالظلم،  ومنهم  المرحومين (نوري حبيب سورو)، (يونس كوريال اودو)،  و (اندراوس حنا قيّا)، و(الأستاذ نجيب يوسف اسطيفانا). اما في "مدرسة ابن رشد"  فقد كان لي الشرف ان اتقاسم مهنة التدريس مع الأنسان الراقي والرائع (فاض ثامر – رئيس اتحاد ادباء العراق الحالي) اذ تحضرني دائما مواقفه الوطنية المشرفة في تلك السنين العجاف.

  

  الأستاذ ابراهيم حميد حكيم  بسفرة جامعية الى سدة الهندية 1967


لم نكن نحن مجموعة المدرسين اليساريين او غير المنتمين لحزب البعث، بالناس السيئين،  فلقد ادينا واجبنا المهني على اتم وجه، وتشهد على ذلك نسب النجاح العالية وكتب التقدير والشكر، لكن سياسة الأحتواء والأجبار الرعناء للبعث، هي التي حرمتنا من اية دورات  تأهيلية، او انتداب للخارج، او منح الفرص للدخول في التعليم العالي والحصول على شهاداته، لكن بالمقابل كنّا نواجه بالأستدعاءات للأمن والمخابرات، او بالمراقبة والوشاية من قبل  بعض التلاميذ او الأساتذة الذين يفترض ان تجمعنا معهم الزمالة، لكن حساباتنا وحساباتهم اختلفت، فجمعتنا تقاريرهم ووشاياتهم .  لكن ما يزيدني فخرا، اني انا (والعديد من زملائي التدريسين) لم نجامل السلطة على حساب مبادئنا، او نسترزق رضاها. لقد كنّا حملة شهادات ولنا رسالة مهنية، فأرتضينا التنازل عن حقوقنا (الكثيرة) مقابل المساومة معهم!
بعد تقاعدي في العام 1997 كنت اعيل العائلة ايضا بالتدريس الخصوصي، ومعلوم للكل كم كان راتبنا آنذاك (3 آلاف دينار، وهذا ما كان يساوي قيمة  طبقة  ونصف الطبقة من بيض المصلحة كما يقولون، اذ  كان سعر الطبقة يصل الى الفي دينار)، كما اني مارست وشاركت في العمل الطوعي والخيري وخاصة في مجال التدريس، فقد درست مجموعة الطلبة المنحدرين من عوائل فقيرة وبدون مقابل، ذلك في بناية كنيسة "مار كوركيس" الواقعة في نهاية منطقة الغدير، وشاركتني في العمل الخيري "الأستاذة سعيدة رمـو" على ان  الدورات كانت بتكليف من "الأب نظير" راعي الكنيسة. في العام 2009 غادرت العراق بعد تردي الأوضاع الأمنية وتلاشي فرص الأمان والتقدم، فقصدت الأردن التي بقيت فيها حوالي 3 اعوام قبل ان اصل للولايات المتحدة في الشهر العاشر من العام 2012، وقد ساعدت اثناء مكوثي في عمان اللاجئين العراقيين ، وساهمت في توزيع وأيصال (الحصة التموينية) المقدمة من الأمم المتحدة للعوائل العراقية المعففة،  كما ساعدت الكثيرين  في متابعة قضاياهم  أو بملء الأستمارات او في تمشية معاملاتهم، وبلا مقابل. ومنذ ان وصلت ديترويت، لم امارس العمل، بل امارس دورا ايجابيا في الحقل الثقافي، حيث اكتب للعديد من المجلات المحلية، والصحف  الصادرة هنا في مدينة ديترويت وأشارك في معظم الندوات الثقافية المقامة هنا، كما امارس هوايتي المفضلة في القرأة، وخاصة تلك  المتعلقة بتأريخ العراق القديم، فهو مادة ممتعة بحق.

     

       الأستاذ ابراهيم حميد حكيم  اثناء الدروس الخصوصية


شخصيا، اعيش حياتي بالتناصف مع الناس، الذين هم سر فرحي وسعادتي، ايا كانوا، ويمكن ان اقول ان اروع اللحظات كانت ومازالت تلك التي التقي فيها بأحد طلبتي، الذي يبادرني بالسلام ويقول كلمة شكر حلوة، هكذا تربيت ومن هذا الفكر الأنساني ارتويت، محبة الناس ومن اجل خلق مجتمعات سعيدة للبشر. كما وأشيد بتوجهات الجيل الجديد في هذا البلد من ابناء جاليتنا، الذين اخذوا يشقون الطريق نحو الدخول في المؤسسات الرسمية والحكومية حتى الوصول الى مركز صنع القرار، فهو حقهم المشروع وعليهم الأستفادة منه.

اما امنيتي للعراق، فأنها غالية وربما صعبة المنال. لكن  من خلال معاينتي الوضع فأني اشعر بحجم الكارثة الثقافية والأنسانية التي يمر بها عامة الناس والتي اشبهها بحالة اللاوعي الثقافي، وبنتائجها الكارثية ومنها ما افرزته الأنتخابات التي اتت بذات الوجوه التي ادخلتنا في هذا النفق الطائفي المظلم، وعودة الظلم ومصادرة الحريات على شحتها ، اقول مع هذا فأن قناعتي بالتغيير وبحجمه وبناسه لا تتبدل ابدا، فهو آت شئنا ام ابينا، وسأكون سعيدا حينما تقوم في العراق حكومات ليبرالية وديمقراطية، ويصبح النظام مدنيا علمانيا، ففي هذا الوطن خيرات تكفينا وتزيد، وسيكون معيبا ان نرى انسانا فقيرا او مهمشا، او نرى طفلا بلا مدرسة او رياض اطفال.

كمــال يلـدو
حزيران 2014

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

989 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع