مبادرة شبابية عراقية للرد على التطرف والتشدد
اهتدى شباب عراقيون لفكرة مغايرة عن العنف، الذي يتفشى في بلادهم، من خلال جمع العشاق على جسر في محافظة البصرة، وتسميته "جسر الحب"، وتعليق أقفال عليه ورمي مفاتيح هذه الأقفال في النهر، في إشارة إلى أبدية الحب بين كل عاشقين اثنين.
عبد الجبار العتابي من بغداد: على أنغام كلمات الشاعر نزار قباني (والحب في الأرض بعضٌ من تخيلنا، لو لم نجده عليها لاخترعناه..) واحتجاجًا على العنف، الذي يتجدد في العراق، انبرت مجموعة من شباب مدينة البصرة، ثاني أكبر مدن العراق، إلى إعادة تجديد فكرة قديمة تنتصر للمحبة كرد على العنف.
أعاد هؤلاء الشباب صياغة تقليد عالمي، لتكون البصرة انعطافة لامعة، يرددون من خلالها تلك الأغنية الجميلة (حلوة البصرة)، فهزجوا بها وهم يقفون على جسر حديدي قديم في المنطقة المسماة (الخورة)، والذي يقع في نهاية شارع الكورنيش من جهة العشار بالقرب من كازينو ومطعم شط العرب، وهناك أطلقوا تنفيذ الفكرة، وأسموا الجسر على الفور بـ (جسر الحب)، وراحوا يربطون الأقفال عليه، وقد كتبوا عليها أسماءهم وأسماء حبيباتهم، ومن ثم ألقوا بمفاتيحها في النهر، ثم جلبوا عددًا من الأقفال، ووضعوها على منضدة لتوزيعها مجانًا، كي يستفيد منها الآخرون، الذين سرعان ما تهادوا زرافات ووحدانًا إلى المكان ليحتضنهم الجسر، وسط حماسة لتعليق الأقفال، فيما اعتبر الكثيرون هذا المساء ليس عاديًا، مشيرين إلى أن هؤلاء الشباب يصنعون الفرح، رغم حصار الحزن من كل مكان!.
إشاعة ثقافة الحب
أحد أصحاب المبادرة، الناشط المدني علي السلمي، قال لـ"إيلاف": "صحيح أن الفكرة ليست جديدة، لكنها تطبّق في العراق للمرة الأولى، ونهدف من وراءها الى إشاعة ثقافة الحب والتسامح ونبذ الحقد والكراهية".
وأوضح أن "اختيار الجسر هذا جاء لأنه منذ تشييده قبل عشرات السنين، وهو بلا اسم، فقام الشباب بطلاء الجسر على نفقتهم الخاصة، وثبتوا ألواحًا معدنية عليه لتعليق الأقفال عليها بسهولة". وأضاف أن أصحاب الحملة قاموا بشراء 300 قفل لتوزيعها مجانًا على المحبين والعشاق، كما تبرّع بعض الأشخاص بعشرات الأقفال دعمًا منهم للمبادرة.
حضيري أبو عزيز
الصحافي ريسان الفهد عبّر عن سروره بالمبادرة، مؤكدًا أن العراقيين اخترعوا الحب. وبيّن أن "الجسر كان مهملًا، وبين ليلة وضحاها صار عنوانًا للحب، حمل على جسده مئات الأقفال، حملت أسماء شباب وشابات تعاهدوا على الحب. وما أجمل العهد على الحب.. بعضهم اختار أمهاتهم وزوجاتهم وحبيباتهم وأسماء بعض من ذويهم".
أضاف "كنت أتمنى ألا نحوّل الفكرة إلى استنساخ فقط، أتمنى أن نضع فيها لمسات من شرقيتنا وتقاليد مجتمعنا، التي لا يمكن أن نغادرها بسهولة، كنت أتمنى أن تكون فكرة جسر الحب، ملتقى للمتزوجين الجدد، ليعلقوا أقفال الحب الأبدي أو الذين يعقدون قرانهم في المحكمة، ويأتون للجسر، لإعلان العهد، وقفل القفل لعقد أطول من الحب والوئام والوفاء، وليكن بينهم العشاق أيضًا لا بأس في ذلك".
وأشار إلى أن فكرة القفل والمفتاح مستوحاة من أغنية شهيرة للمطرب الراحل حضيري أبو عزيز كان غناها في ستينات القرن الماضي: (الولف راح وشلون أرتاح، سد باب قلبي بيده، وضيّع المفتاح، راح بسلامة وحصل مرامه، طحت بغرامه بويه وشلون أرتاح، يا ناس أحبه والفرقة صعبة، مو ذنبي ذنبه، بويه ضيّع المفتاح).
عين أخرى
الكاتب علي رستم قال إنه شجّع الفكرة بقوة، مبينًا "نحن بعد تاريخ من الكوارث بحاجة إلى عين أخرى لكشف الجميل في حياتنا، في ظل صراخ الحرب التي تحيط بكل العراق من كل الجهات، وجه مشرق للحياة يأتي بنسمة جنوبية".
أضاف "اليوم نواجه أزمة أو ردة في حياتنا في البيت والشارع والعمل والحراك الشعبي، هو من يطهر هذه الدوامة، وصانع ماهر لشكل حياة لتخرج خفايا النفس البشرية التواقة إلى الحياة بلون آخر فيه التسامح وحتى اللغة، والتي بدأت تتعثر في دوامة ظاهرة السياسي المنغلق على مفهومه العاطل عن التقرب من مجتمعه". وتابع "أكيد أن الشباب أول من يقهر سبات أية مجتمع ركن في خراب حروبه القديمة والجديدة، الحياة بهجة أخرى لتلمس حرية معنى أن تعيش مع الجميع".
فرنسة البصرة
أما الفنان والكاتب محمود موسى فقد أشار إلى أن المبادرة هي رد فعل. وقال لـ"إيلاف" إن "جسر الحب في البصرة هو محاولة للحلم والانعتاق من شرنقة الكراهية، التي تهدد وجودنا، فالجسر هو المعادل الصوري للحلم، كما أعتقد، منذ أن عشقت (جسر اللوزّية) أول جسر أسس مخيلة صباي، لكني صدمت لاحقًا حين عرفت أن (جسر اللوزية) لا وجود واقعي له إلا في أغنية فيروز!! وهكذا ولد جسر الحب البصري، الذي أريد له أن يكون فارزة بين ضفتين، وفارزة بين قلبين، على غرار جسر الحب الباريسي، الذي يحتضن نهر السين، ويحتضن آلاف الأقفال التي تستحيل إلى قلوب موجعة من فرط الحب".
وأضاف "أعتقد أن سبب هذه المبادرة هو رد فعل شباب البصرة على المناخ الديني المتزمت، الذي تفرضه الميليشيات، وهو مناخ دخيل على مدينة الفن والفرح والموسيقى والحياة، والطريف أن هذا الجسر جاء متزامنًا مع بناء نموذج مصغر لبرج إيفل في مدينة ألعاب البصرة!!، فهل هو مشروع لفرنسة البصرة؟؟ قولوا آمين".
تنفس شبابي
الإعلامي عدي الهاجري قال لـ"إيلاف": "أعتقد أن التجربة أو الفكرة لن تأتي بأي شيء جديد، سوى أنها محاولة من قبل الشباب البصري لكي يقول للجميع إنه مازال حاضرًا في مدينة كانت وستبقى ملتقى للحضارات والتجمعات العالمية".
وأضاف أن "هذا التقليد لم يكن أعمى، بل تنفس شبابي لإثبات وجود، وسوف يحارب، كما أفكار غربية أو شرقية أخرى هناك، حتى يبدأ المجتمع البصري بالعودة إلى وضعه الطبيعي، ويترك تأثره بالبداوة، ويعود مجتمعًا متحضرًا متمدنًا، له تجارب وتقاليد لا يمكن نسيانها".
انتقال فكرة الحب إلى بغداد
أما الكاتب محمد محبوب فقد تمنى أن تعم الفكرة، مبينًا أنها "فكرة جميلة، وأتمنى أن تحصل في بغداد وبقية المحافظات، فالعراق بلد تطحنه الكراهية والتوحش، ويحتاج نشر قيم الحب والتسامح، ينبغي أن نشجّع وندعم مثل هذه الأفكار النبيلة، التي تبعث في الناس المحبة والأمل بغد مشرق، دعوة إلى الحب الذي غاب عن حياتنا، ولمشهد العشاق الذي غادرنا وسط المفخخات والموت اليومي".
فيما حيّا الناقد السينمائي مهدي عباس شباب البصرة، وقال إن "أي مبادرة في أيامنا هذه فيها جو من المحبة والسلام أؤيدها، فقد مللنا الموت والدمار والدماء، وستتحجر قلوبنا ما لم نلتفت إليها قليلًا".
وأضاف أنه يحيّي من كل قلبه هؤلاء الشباب أصحاب المبادرة، الذين ساندوهم، "فالبصرة عنوان للحب والعشق، ولا يمكن أن ننسى أغنياتها الجميلة، ومواكب الأعراس، التي كانت تذهب إليها لقضاء شهر العسل في أحضان طبيعتها الخلابة وطيبة أهلها، وكان الجميع يغني لها (حلوة البصرة حلوة وجميلة).
أقفال الحب في فرنسا
جذور الحكاية
يعود أصل حكاية الجسر والقفل والمفتاح إلى قصة عشق تشبه الأسطورة، حدثت في فترة الحرب العالمية الأولى، حيث غادر حبيب فتاة عاشقة اسمها (ريلجا) إلى اليونان للقتال هناك، لكنه خان عهد الحب، ووقع في حب فتاة يونانية، لكن ريلجا الحزينة بقيت تنتظر عودة فارسها سنوات طويلة، ولتعبّر عن محافظتها على عهد الحب، وضعت قفلًا على الجسر، وألقت مفتاحه في النهر، ولم تعشق سواه مدى حياتها.
شاعت قصة الفتاة بين الناس في مدن عدة، وأصبحت تقليدًا، وصارت رمزًا للحب والوفاء، بأقفال كتبوا عليها أسماءهم، ورموا بمفاتيحها في النهر، في حركة إصرار على أن العلاقة التي بينهم دائمة، وهي تعد بمثابة القرار الحاسم وغير القابل للاستئناف، فبعدما أحكموا الإغلاق، وابتلع النهر المفاتيح، يصبح مجرد التفكير في فتحها من جديد شكلًا من أشكال العبث.
967 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع